انخراط أمريكي غامض في ليبيا: هل تفي واشنطن بتعهداتها؟

انخراط أمريكي غامض في ليبيا: هل تفي واشنطن بتعهداتها؟


03/10/2021

في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن انسحاب أمريكي تدريجي من ملفات منطقة الشرق الأوسط، يتزايد الانخراط الأمريكي في ليبيا بقوة، بعد أعوام من ترك الساحة للحلفاء الأوروبيين، خاصة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وتتمحور رؤية واشنطن حول هدفين؛ عقد الانتخابات العامة في موعدها المقرر، وخروج المرتزقة والقوات الأجنبية.

وشهدت الأيام الماضية ثلاث خطوات أمريكية كبرى حول الأزمة الليبية، هي: زيارة قائد قوات الأفريكوم إلى طرابلس، واجتماعه بمسؤولي لجنة (5+5) بصبحة السفير والمبعوث الأمريكي إلى البلاد، وتمرير مجلس النواب الأمريكي لقانون "استقرار ليبيا"، وزيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى القاهرة لبحث عدّة قضايا، على رأسها تنظيم الانتخابات في ليبيا.

زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى القاهرة

وتأتي تحركات واشنطن في وقت تواجه الانتخابات المرتقبة عراقيل سياسية وأمنية كبرى، بسبب إخفاق ملتقى الحوار السياسي في الاتفاق على قاعدة دستورية تُعقد الانتخابات وفقاً لها، واتساع الهوة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة الذي يهيمن عليه الإخوان حول قوانين الانتخابات، واستمرار تواجد المرتزقة والوجود العسكري الأجنبي، فضلاً عن تخوف واشنطن من تجدد القتال حال عدم تنظيم الانتخابات، أو عدم الاعتراف بنتائجها.

اقرأ أيضاً: سلاح تركي جديد إلى ليبيا.. أين القرارات الدولية؟

وفي الداخل الليبي، يتمسك القائد العام للقوات المسلحة، خليفة حفتر، بعقد الانتخابات الرئاسية والنيابية في موعدها، ويدعمه في ذلك مجلس النواب، وشخصيات مهمّة في مدينة مصراتة، ومعظم الشعب الليبي، بينما يصطف الإخوان المسلمون ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وحلفاؤهم من الميليشيات في صف معرقلي الانتخابات، وإن كان الدبيبة لم يعلن عن موقفه صراحةً، ما يعني أنّ الإخوان المسلمين باتوا في مرمى العقوبات الأمريكية.

تحركات أمريكية

للمرة الأولى اجتمعت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) اليوم الثلاثاء، في العاصمة طرابلس منذ تأسيسها، وذلك بحضور قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال ستيفين تاونسند، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية وزير الدفاع، عبدالحميد الدبيبة، والسفير والمبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، ويعدّ حضور قائد الأفريكوم والمبعوث الأمريكي والدبيبة اجتماع اللجنة حدثاً مهماً، ويكشف الأهمية الكبيرة التي توليها واشنطن لحلّ ملف المرتزقة والقوات الأجنبية وتوحيد المؤسسة العسكرية، ووصف بيان السفارة الاجتماع أنّه "خطوة تاريخية في التقريب بين الليبيين، لا سيما في المجال الأمني".

من غير المحتمل تنظيم الانتخابات في ليبيا بشكل توافقي، ما سيضع واشنطن أمام اختبار جدي لتطبيق قانون العقوبات التي أقرّته، على من سيعرقل تنظيم الانتخابات

وقالت السفارة الأمريكية: "الولايات المتحدة ما تزال ملتزمة بتسهيل التنفيذ الكامل لاتفاقية أكتوبر (2020) لوقف إطلاق النار، والانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية والمقاتلين، فضلاً عن التوحيد الكامل للمؤسسات العسكرية الليبية"، والتقى الجنرال تاونسند ونورلاند برئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، وفي اليوم التالي للاجتماع، مرّر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون "تحقيق الاستقرار في ليبيا"، وينصّ على منح واشنطن إمكانية معاقبة الجهات الأجنبية التي تدعم الفصائل والجماعات الإرهابية في ليبيا حال انهيار الحكومة المؤقتة ووقف إطلاق النار، ومن المنتظر أن ينظر مجلس الشيوخ في مشروع القانون، وحال موافقة المجلس، وهو المرجح، سيدخل القانون حيز التنفيذ فور تصديق الرئيس الأمريكي، جو بايدن.

السياسي الليبي الدكتور عبد المنعم حسين اليسير: بغضّ النظر عما نراه من اهتمام أمريكي، لكن من الصعب أن نعتقد أنّ لواشنطن سياسة متزنة وثابتة

وضمن التحركات الأمريكية، زار مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، القاهرة، والتقى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية ورئيس المخابرات العامة، وبحث اللقاء عدّة قضايا، جاء على رأسها الوضع في ليبيا، وتنظيم الانتخابات في موعدها المقرر، في 24 كانون الأول (ديسمبر) المقبل.

وخلال زيارة نورلاند إلى طرابلس، التقى مع مدير المؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية (IFES) لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، السفير دانيال روبنستين، حيث ناقشا "الدعم الأمريكي لجهود المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، لضمان أنّ ليبيا مستعدة تماماً لإجراء الانتخابات في 24 كانون الأول (ديسمبر)".

اقرأ أيضاً: ماذا وراء اتهامات الدبيبة لتونس بتصدير الإرهاب إلى ليبيا؟

وتعليقاً على رفض مجلس الأمن الدولي مشروع القانون البريطاني - الأيرلندي لتمديد عمل البعثة الأممية في ليبيا إلى أيلول (سبتمبر) 2022، وتقليص التمديد إلى 30 كانون الثاني (يناير) 2022، قال مستشار الشؤون السياسية الخاصة في وفد الولايات المتحدة الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير جيفري ديلورينتيس؛ إنّ بلاده لن تتراجع عن دعمها القوي للشعب الليبي وهو يمضي قدماً في الانتخابات الوطنية، في 24 كانون الأول (ديسمبر)، وكذلك سحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية دون تأخير.

ضبابية أمريكية

ورغم التحركات الأمريكية الكبيرة إلا أنّها لا تفصح عن رؤية واضحة للتعامل مع المعوقات التي تهدد تنفيذ الهدفين الأساسيين، الانتخابات والتواجد الأجنبي، وبالنسبة للهدف الأول لم توضح واشنطن بعد رؤيتها تجاه عقد الانتخابات الرئاسية، وهي القضية الأهم في الداخل الليبي، وما يرتبط بالانتخابات من القبول بنتائجها وتسليم السلطة، في ظلّ الانقسام العسكري الكبير بين الشرق والغرب.

المحلل السياسي الليبي، محمد قشوط: منذ تنصيب بايدن كرئيس للولايات المتحدة، وحتى في برنامجه الانتخابي، لم تكن ليبيا من أولويات إدارته أمام الملفات الأخرى

إلى جانب ذلك، فمن غير المرجح أن تملك واشنطن أوراق ضغط كافية لإنهاء التواجد الأجنبي، الذي سيظل موجوداً طالما بقي الصراع بين الفرقاء الليبيين، فهو عامل حسم وضمانة لبقاء كل فريق، خصوصاً في المنطقة الغربية، حيث تستمد جماعة الإخوان سلطتها من الحماية التي توفرها تركيا.

اقرأ أيضاً: ليبيا: ما سر غموض موقف البعثة الأممية من قانون انتخاب الرئيس؟

ويقول السياسي الليبي، عبد المنعم حسين اليسير: بغضّ النظر عما نراه من اهتمام أمريكي، لكن من الصعب أن نعتقد أنّ لواشنطن سياسة متزنة وثابتة، حتى مع تمرير مجلس النواب الأمريكي لقانون استقرار ليبيا، فما يبدو هو تخبط في السياسة الخارجية، وما حدث في أفغانستان ليس ببعيد، إلى جانب أنّ التواجد الأمريكي في المنطقة تشوبه التخبطات، والاهتمام بوضع ليبيا مقتصر على شيئين؛ التواجد الروسي - إنّ كان ذلك صحيحاً - والإرهاب، وحتى في مكافحة الإرهاب تقتصر واشنطن على عمليات جوية لـ "أفريكوم"، دون إستراتيجية واضحة.

المحلل السياسي الليبي محمد قشوط لـ "حفريات": أمريكا لم تعد ترغب في استمرار فوضى الشرعيات وتعدد الأجسام، فهي تبحث عن التواصل والتفاهم مع شخص واحد

ومن جانبه يرى المحلل السياسي الليبي، محمد قشوط؛ أنّه منذ تنصيب بايدن كرئيس للولايات المتحدة، وحتى في برنامجه الانتخابي، لم تكن ليبيا من أولويات إدارته أمام الملفات الأخرى، لكن للمصالح كلمتها، وبسبب تغير خارطة النفوذ التي فرضت نفسها بعد الانسحاب من أفغانستان، وما سبق ذلك من سحب أمريكا أغلب معداتها من قواعدها بالخليج، وتخوفاً من تعاظم النفوذ الصيني والروسي، إلى جانب بدء خروج تركيا عن الطاعة، استوجب الأمر ضرورة النظر في الملف الليبي بجدّية؛ نظراً لما يمثله موقع ليبيا من أهمية.

يقول قشوط، لـ "حفريات"؛ إنّ إدارة بايدن، بضغطها نحو إجراء الانتخابات، تريد تحقيق عدّة أهداف، منها: تحجيم النفوذ الروسي والتركي، وحماية أمنها القومي بالأخص من الجنوب الليبي، الذي يشهد تحركات لتنظيمات إرهابية، وأخيراً لم تعد أمريكا ترغب في استمرار فوضى الشرعيات وتعدّد الأجسام، فهي تبحث عن التواصل والتفاهم مع شخص واحد يتمثل في رئيس الدولة.

الإخوان وواشنطن

ورغم وضوح الأهداف الأمريكية إلا أنّ تعدد الفاعلين في ملف السياسة الخارجية لواشنطن، واختلاف الإدارات في رؤيتها، ووجود جماعات الضغط التي تعمل لصالح جهات خارجية، يجعل من العسير التعويل على موقف أمريكي حازم، وفي ذلك يقول السياسي اليسير، لـ "حفريات": هناك تحرك كبير من جماعة الإخوان داخل واشنطن بدعم مالي مباشر من حكومة الدبيبة، عبر التواصل مع صنّاع السياسة بخصوص ليبيا، مما يؤزم الموقف ويخلط الأوراق، ويجعل السياسة الأمريكية متخبطة.

اجتماع سابق لوفدي المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب في المغرب

وإضافة إلى ذلك، والكلام لليسير؛ يعمل الإخوان مع الدبيبة في الداخل عبر الرشوة، وشراء النفوذ، من أجل تثبيت وضع حكومة الدبيبة، وعرقلة الانتخابات بشتى الطرق، وبغضّ النظر عما يظهر من انتباه من واشنطن، فلا أظنّ أنّ بيدها شيئاً إذا ما عُرقلت الانتخابات، فماضيها في ليبيا مليء بالهروب من الأزمات؛ فعندما اغتيل سفير واشنطن هرب الأمريكان من بنغازي، وعندما حدث انقلاب 2014، هربوا من طرابلس، ولا تلتزم بواشنطن بما تحاول إقناع المجتمع الدولي به بخصوص الوضع في ليبيا، خصوصاً تأكيدها المتتابع على حماية المدنيين.

اقرأ أيضاً: إخوان ليبيا: هل مررت الجماعة تمركز داعش عند الحدود التونسيّة؟

ومقارنة بموقف واشنطن، تبدو البعثة الأممية أكثر وضوحاً؛ ففي الوقت الذي لم تشر فيه واشنطن بأيّ شكل إلى الانتخابات الرئاسية، عبّرت البعثة صراحةً عن ترحيبها بصدور قانون الانتخابات الرئاسية عن البرلمان، وكذلك دعت إلى عقد الانتخابات الرئاسية والنيابية، وحثّت البرلمان على التوافق مع المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، وهو جسم معبّر عن جماعة الإخوان المسلمين، لكن لا تملك البعثة الآليات التي تستطيع من خلالها معاقبة الإخوان الذين يرفضون بشدة عقد الانتخابات الرئاسية.

اقرأ أيضاً: كيف ستؤثّر التحولات في تونس على إخوان ليبيا وحليفهم التركي؟

ويرفض الإخوان بشكل قاطع ترشح القائد العام للقوات المسلحة الليبية، المشير خليفة حفتر، للانتخابات الرئاسية، بينما لم تعد خافية على أحد رغبة المشير في الترشح، خصوصاً بعد تكليفه لرئيس الأركان، الفريق عبد الرازق الناطوري، بمهامه كقائد عامّ، في 22 من الشهر الماضي، ما يعني تخليه عن منصبه العسكري قبل ثلاثة أشهر من عقد الانتخابات، وهو أحد شروط الترشح وفق قانون انتخابات الرئاسة الذي أقره مجلس النواب.

ويلقي الغموض الأمريكي بظلّه على الموقف من ترشّح حفتر للرئاسة، فإذا كانت واشنطن تتهم حفتر بالاستعانة بالقوات الروسية، فكيف ستقبل برئاسته لليبيا، بينما لديها حلفاؤها من الإخوان المسلمين، الذين ينفذون أجندتها، ولا يخرجون عن طوعها.

ويرى السياسي عبد المنعم اليسير، أنّ موقف واشنطن من حفتر غامض، بسبب تعدّد مراكز القوى وصناعة القرار، وتغلغل الضغوط الإخوانية في واشنطن، إضافة إلى رؤية واشنطن التقليدية تجاه المنطقة، والتي تجعلها لا تحبّذ أن تمسك بزمام الأمور شخصيات وطنية لديها توجهات قومي، سواء وصل هؤلاء إلى السلطة عبر الديمقراطية أو غيرها.

اقرأ أيضاً: أوروبا تعزز آليات منع تهريب السلاح إلى ليبيا.. هل ترتدع تركيا؟

ويقول اليسير: هناك مؤشرات لرفض جهات أمريكية ترشح المشير حفتر للرئاسة، لكن ربما توجد هناك آراء أخرى لا تمانع، وترى أنّ وجود حفتر على رأس السلطة سيساهم في ضبط الأمن، لكن من الواضح أنّ في واشنطن مؤثرات عدّة من جهات تدفع نحو عدم السماح بأن تكون هناك أنظمة قوية متماسكة في المنطقة، وهذه الجهات نوعاً ما تتوافق في الأهداف مع الإخوان المسلمين، ولهذا نرى تأثيرات كبيرة لمنع حكومات قوية متماسكة في الدول العربية، وما حدث في مصر بعد 30 يونيو ليس ببعيد.

اقرأ أيضاً: تقرير بنك ليبيا المركزي.. هل ينهي نفوذ الإخوان؟

وفي الداخل، تزداد الأمور تعقيداً، بعض إخفاق اجتماع وفدي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في المغرب، بسبب الخلاف حول تنظيم الانتخابات الرئاسية، والقوانين الانتخابية، وهي القضية الخلافية الكبرى التي لم تدخل واشنطن على خطها بعد، على الرغم من تأكيدها المتزايد على عقد الانتخابات، وحال لم يحدث التوافق بين النواب ومجلس الدولة، فمن غير المحتمل تنظيم الانتخابات بشكل توافقي، ما سيضع واشنطن أمام اختبار جدي لتطبيق قانون العقوبات التي أقرّته، على من سيعرقل تنظيم الانتخابات، وهم في تلك الحالة جماعة الإخوان المسلمين.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية