جدل فقهي في الجزائر حول فتح المساجد وحفظ الأرواح

جدل فقهي في الجزائر حول فتح المساجد وحفظ الأرواح


24/08/2020

أعادت الحكومة الجزائرية، منذ 15 من الشهر الجاري فتح مساجد البلاد فتحاً جزئياً بعد إغلاق استمرّ 5 أشهر، بسبب تفشي وباء كورونا، لكنّ الخطوة ظلّ يرافقها جدل لم يهدأ، إثر إقرار تعليق صلاتَي الفجر والجمعة.

في تصريحات لـ "حفريات"، قال الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بوركاب: "من نحن حتى نستكثر على الله؟"، ورأى أنّ منع صلاتَي الجمعة والفجر "مهزلة"، وتابع: "أريد للفرحة بقرار الفتح التدريجي للمساجد، على ما أُخِذ عليه مِن ملاحظات، ألاّ تستمرّ إلا أيّاماً معدودات؛ حيث تلاه قرارٌ آخر مُثقَلٌ بالشروط ، بعضُها معقول بَيِّن المصلحة، وبعضُها غير معقول إطلاقاً، ومفاسده أكبرُ مِن مصالحه الموهومة".

اقرأ أيضاً: أطباء يعتلون منابر المساجد في غزة للتوعية بفيروس كورونا

و"استنكر" بوركاب تزامن فتح المساجد مع الشواطئ والمقاهي والمطاعم، متسائلاً: "لماذا لا تُعظَّمُ بيوت الله بأن تُمَيَّز عن غيرها؟ والله تعالى يقول: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج32] ، وشعائر الله معالم دينه، وأعظمها مساجده التي أُمِرنا برفعها وتعظيمها".

"استنكر" بوركاب تزامن فتح المساجد مع الشواطئ والمقاهي والمطاعم
وانتقد بوركاب ما سمّاه "التشديد على المساجد بكثرة الشروط، دون الشواطئ، وكأنّ المساجد غدَت بؤراً للوباء والمخاوف"، كما استغرب "حرمان الفتيان الذين هم دون سنّ الخامسة عشر من الدخول إلى المساجد، وهذا من أغرب الشروط، لأنّهم الأولى بالمساجد من الكبار، ولا أظنّ أنّ عاقلاً يرضى لأولاده المزيد من الضياع والانحراف".
ولم يهضم بوركاب: "الاقتصار على أربع صلوات في اليوم، في 29 محافظة تخضع للحجر الجزئي، وهذه أكبر من أختها! فيا عجباً كيف يُمدّد الوقت إلى الحادية عشرة ليلاً من أجل السهر والتجوال، ويُحرم عُمَّار المساجد من صلاة الفجر، في وقت يكون الهواءُ أكثرَ نقاوة وعددُ المصلين أقلَّ بكثير، والشوارعُ خالية من أصحابها".

أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر حبيب بوخليفة لـ"حفريات": الناس مجبرون على اتباع الاحتياطات الصحية، أما الاعتقاد الديني الذي يعتمد فقط على الغيب فأخطر من الكوفيد نفسه

وتحفّظ بوركاب أيضاً على "الاستمرار في تعطيل صلاة الجمعة والاكتفاء بثلاث صلوات، مع أنّ صلاة الجمعة فريضة وصلاة الجماعة سنّة! وهو ما جعل بعض الدول الإسلامية، كسوريا، تقصر فتح مساجدها على الجمعة،
ولا أظن أنّ كثرةَ المصلين مبرِّر لذلك؛ لإمكانهم الصلاة في فضاءات المسجد والطرقات الموازية له، وهو تتبعه أكثر الدول".

على النقيض؛ لاحظ الناشط الاجتماعي، عبد الرحمن مجبر، أنّ "ما يحصل في مساجد الجزائر، معقول ويستجيب لمتطلبات التصدي لجائحة "كوفيد 19" المستجدّ، ونوّه مجبر بتسجيل المصلين لوحات مشرّفة في التزامهم بالإجراءات الوقائية داخل المساجد، من خلال تقيّدهم بتدابير التباعد الصحي والوقاية وسط أجواء من السكينة والطمأنينة.

اقرأ أيضاً: السلفيون والإخوان في الجزائر: إغلاق المساجد قرار كيدي!

وأيّد الشيخ يحـيى صاري طرح عبد الرحمن مجبر، من جهة مراعاة المصلين للانضباط بإجراءات الوقاية، فلا يوجد داعٍ، بحسبه، لاستمرار إغلاق بقية المساجد، معتبراً ما يحدث في مساجد الجزائر أنموذجاً رائعاً يمهّد لفتح كامل بحلول شهر أيلول (سبتمبر) القادم. 

قرار خاطئ

يذهب الأستاذ الشيخ يوسف بوغابة إلى أنّ الاستناد في المطالبة بفتح المساجد إلى أدلة فضائل الأعمال، ولو استئناساً، خطأ جسيم؛ لأنّ فضائل الجماعة والجمعة قضية لا يختلف عليها اثنان، وإنّما المسألة في أدلة الأحكام، فالحديث عن فضائل صلاة الجمعة والجماعة وكثرة الخُطى إلى المساجد خارجٌ عن إطار الموضوع، وهذا يذكّرني بالحوار الذي دار بين العلماء في مسألة سقوط الحجّ عن أهل الأندلس أيام الفتن؛ "فقائلٌ لا يسقط الفرض، وآخر يوجبه، وتوقف آخرون، فإذا في أخريات الناس، الواعظ أبو الطيب، رحمه الله، فأدخل رأسه في الحلقة وخاطب اللخمي، وقال يا مولاي:

إن كان سَفْكُ دمي أقصى مُرَادِكُمُ ... فما غَلَتْ نَظْرَةٌ منكم بسفك دم

فاستحسن اللخمي هذه النادرة من جهة طريق التصوّف لا من جهة طريق الفقه" المعيار المعرب للونشريسي، 2/ 37- 38".

هل يستطيع الموظفون في المسجد تنظيم المصلين؟

واستطرد بوغابة، مدير معهد الإمام البيضاوي للعلوم الشرعية: "هل الصلاة في المساجد على الهيئة الاعتيادية آمنة؟ وهل يستطيع الموظفون في المسجد تنظيم المصلين؟ وهل ينضبط المصلون بشروط الوقاية والسلامة؟"، وأحال إلى أنّ علماء الفيروسات والأوبئة أكّدوا، بما لا يدع مجالاً للوهم والشكّ؛ أنّ ذلك محفوف بالمخاطر، وأنّ الالتزام بالنظافة، والحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي؛ هو الأمل في الحيلولة دون انتشار هذا الوباء، وهو أكثر التدابير فاعليةً لاحتوائه.

وقرائن الأحوال تؤكّد أنّ تنظيم النّاس في المساجد أمر في غاية الصعوبة، إنْ لم أقل يستحيل تحقيقه.

فقيه جزائري: قياس المساجد على الأسواق المفتوحة ومحلات التجارة قياس فاسد وباطل؛ لأنّ الصلاة في المسجد لها بديل، أمّا أقوات الناس وأرزاقهم فلا بديل لها

وأبرز بوغابة أنّ "فتح المساجد في مثل هذه الظروف مهلكة للناس، فلا يمكن أن تعَقّم قاعة الصلاة لكلّ صلاة، سواء بالسَّجَاد أو من دون السَّجَاد، ولا يقدر أيّ موظَّف في المسجد على تأطير المصلين وتنظيمهم، وإذا عطس أحدهم في الصلاة، أو غلبه السُّعال، هل يخرج الناس من الصلاة ويفرُّون، أم يلزمون أماكنهم فيصابون بالعدوى؟ لا شكّ في أن المصلّي يجد حرجاً عظيماً في قطع الصلاة والابتعاد.

أمّا في الأسواق والأماكن العامة، فيمكن للإنسان الفرار والخروج وتغيير المكان، ولا يجد حرجاً، ولا يشعر بالإثم في ذلك.

 واليوم، بهذا الغلق والتباعد، المرضُ في بلادنا مُسْيَطَر عليه إلى حدٍّ ما، أمّا لو انتشر وخرج عن السيطرة، وأصبح المرضى بالألوف، وربّما مئات الألوف؛ فما مصير البلاد؟ وما مصير العباد؟

الغلق أحزم

وشدّد بوغابة على أنّ "قياس المساجد على الأسواق المفتوحة ومحلات التجارة قياس فاسد وباطل؛ لأنّ الصلاة في المسجد لها بديل، فقد يُصلِّي الناس في بيوتهم، أو في أي مكان آخر طاهر، ولا يفوتهم منها سوى أجر الجماعة، أمّا أقوات الناس وأرزاقهم فلا بديل لها، فهم في حاجة إلى الخروج وقضاء الحوائج. وإنْ كان الخروج محفوفاً بالمخاطر، واجتماع الناس في أماكنَ عامةٍ، كقاعات الاجتماعات، هي مسؤولية شخصية، من يذهب يتحمَّل المسؤولية".

وخلُص بوغابة إلى أنّ "الذين يدعون إلى فتح المساجد لا يملكون سياسة واضحة لحفظ الأرواح، ولا طريقة قويمة للوقاية، ولم يعطوا اقتراحات تخصّ الإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية المقبولة، علمياً وواقعياً، فالعالم البصير لا يرمي بنفسه، ولا بغيره، في أمواج الوباء المتلاطم دون خطَّة للوقاية أو طوق سلامة ونجاة.

اقرأ أيضاً: كورونا" والمساجد... وتناقضات "الإخواني"

ويغفل هؤلاء عن القرائن القطعية التي لا تخفى على أحد أنّ بعض الناس، على قلَّتهم، لا يتقيَّدون بالشروط اللازمة، فالواحد من الفوضويين قد يصيب العشرات بالعدوى من حيث يشعر أو لا يشعر".

ويستدلّ بوغابة بأنّ النبي ﷺ نهانا أن نكون إمَّعَة، إن أساء الناس، أسأْنَا مثلهم، أو نكون كما قال ابن مسعود رضي الله عنه عن الإمَّعَة: المُحْقِب دينه الرجال، وقال أيضاً: "إذا وقع النَّاس في الفتنة فقل: لا أُسوة لي بالشَّرِّ"، وعليه: "إذا قلنا علينا أن نفتح المساجد، ولو من باب الاختبار والتجريب، فمتى انتشر الوباء عدنا إلى إغلاقه، وستبقى عين الرقيب تحرس من قريب، فلا بأس به، ولكن الضحايا الذين سيسقطون، والمرضى الذين سيتألَّمون، والموتى الذين سيغادرون، والأرامل الثَّكْلَى المرزوءة في زوجها، والأيتام الذين يفقدون الوالد، والأم المكلومة التي فقدت وليدها وربما وحيدها، من يتحمّل مسؤولية ذلك؟!".

حبيب بوخليفة: الجدل عقيم، سواء من أولئك الذين يريدون أن تبقى المساجد مفتوحة للعبادة، أو أولئك الذين لا يرون الخطوة مفيدة وصحية

وانتهى بوغابة إلى أنّ الشريعة الإسلامية تُغَلِّب الجانب الإيجابي، وتُقدِّرُ أسوأ الاحتمالات؛ لذا فالواجب في هذا البلاء هو حماية الناس من العدوى، فلا يقال: افتحوا المساجد، فمن رغب في المجيء جاء، ومن رغب في التخلُّف صلَّى في بيته، وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لو لم يكن المرضُ معدياً، أو كان الأصحاء لديهم مناعة عالية، ولا ينقلونه إلى أهليهم، كما أنّ الناس ليسوا جميعاً على مستوى واحد من الوعي والإدراك وتقدير العواقب، فمنهم من يتبادر إلى ذهنه أنّ فَتْحَ المساجد دليلٌ على زوال الخطر، وبعضهم يدفعه الشوق إلى بيت الله فيذهل عن الوقاية وشروط السلامة، فلا تجوز المخاطرة في مثل هذه الأمور، فالغلق أحزم".

عقم وخطورة

يوقن الدكتور حبيب بوخليفة، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر؛ بأنّ الجدل عقيم، سواء من أولئك الذين يريدون أن تبقى المساجد مفتوحة للعبادة، أو أولئك الذين لا يرون الخطوة مفيدة وصحية.

وركّز بوخليفة على أنّ "(كوفيد 19) خطير جداً، بحكم تركيبته الكيميائية المصطنعة، ويؤثر على صحة الجموع البشرية وينتشر بسرعة ويقتل الضعفاء من الناس، وهناك جملة من الاحتياطات اتخذت للتقليل من الخطر، فالناس مجبرون على اتباعها، أما الاعتقاد الديني الغبي الذي يعتمد فقط على الغيب فهو أخطر من الكوفيد نفسه".

وشرح محدّثنا: "تتجلى في الجدل الدائر العقلية الدينية التعيسة المركّبة من الجهل المقدس، ولا أعتقد أنّ عقيدتنا السمحاء تقرّ هذا النوع من السلوك السلبي، خصوصاً في واقع جزائري بائس يشكو نقص الكلوروكين ووسائل العناية المركزة والتحاليل! ستكون الكارثة الكبرى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية