حركة النهضة الإخوانية إذ تضع تونس على مرجل ساخن

حركة النهضة الإخوانية إذ تضع تونس على مرجل ساخن


18/07/2020

تواجه تونس أزمة سياسية متصاعدة، طيلة شهور مضت، على خلفية صراع مستتر؛ امتدّ طرفه الأول ما بين مؤسسة الرئاسة، وحركة النهضة الإخوانية، منذ محاولات تشكيل الحكومة مطلع العام الجاري، وقرار حركة النهضة بعدم الانضمام إلى حكومة الحبيب الجملي، وفشلها في تمرير التشكيلة الحكومية المستقلة داخل البرلمان، واتصل طرف الصراع الآخر في شهر تموز (يوليو) العام 2020 مع رئيس الحكومة المستقيل، إلياس الفخفاخ، بعدما أعلن نيته إجراء تغيير وزاري في حكومته، الأمر الذي دفع كل مستتر نحو العلن، ودفع كل الأطراف؛ رئيس الجمهورية، قيس سعيد، ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، نحو التحرك سريعاً لأخذ زمام المبادرة في اتخاذ القرار، ومحاولة السيطرة والتحكم في مجريات الأمور، بحسب ما يملكه كل طرف من أوراق ضغط، فضلاً عن أهدافه.

الخطوات التي سارت عليها حركة النهضة، خلال الشهور الماضية، تكرّس لحظات صعبة على المشهد التونسي، وتعيد العلقم إلى ذائقة الغنوشي

انفجار الصراع بين النهضة والفخفاخ يطيح بالحكومة

تبدى  سياق التحرك لدى أطراف الصراع، حين أعلن رئيس الحكومة التونسية عن نيته إجراء تعديل وزاري على تشكيلة حكومته، وتلقت النهضة خبر التعديل باعتباره يستهدف أعضاء الحركة، ما دفعها نحو التحرك بآليات البرلمان، بإيداع وثيقة لوم، وطلب سحب الثقة من الحكومة، الأمر الذي حثّ رئيس الجمهورية، بدوره، على ممارسة سلطاته الدستورية التي يخبرها جيداً بطلب تقديم الاستقالة من رئيس الحكومة، وحينها يمنحه الدستور أحقية اختيار شخصيّة توافقية، بعد مداولات مع الأحزاب والكتل السياسية خلال عشرة أيام، وعليه يجري تشكيل الحكومة الجديدة خلال شهر، والسعي نحو نيل موافقة مجلس البرلمان. وفي إطار ذلك، وباعتبار إلياس الفخفاخ رئيس حكومة تصريف أعمال، قرّر الأخير إعفاء جميع وزراء حركة النهضة من مناصبهم.

اقرأ أيضاً: مناورات حركة النهضة في تونس تقودها إلى عزلة سياسية

 ربما جاء تشكل المشهد الافتتاحي لهذه الأزمة المتصاعدة، حين تحركت كتل نيابية في البرلمان التونسي، على وقع الأزمة الليبية، مع انحياز النهضة الصارخ لمصالح أنقرة والدوحة، وكشف اتصالات الغنوشي مع أردوغان، وزيارته لتركيا بعد ساعات من رفض مجلس النواب لحكومة الجملي، وتهنئة النهضة لحكومة الوفاق، عقب السيطرة على قاعدة الوطية، في انحياز للتوجهات الإيديولوجية، بعيداً عن المصالح الاستراتيجية لتونس، ما دفع تلك الكتل البرلمانية نحو تصعيد طلبات الإطاحة برئيس البرلمان، راشد الغنوشي، ومحاولة سحب الثقة منه.

هذا السياق دفع أعضاء حركة النهضة إلى ضغط مسارات الصراع، في خطوة نحو تحريك الأمور الساكنة، والدخول في صراع مع رئيس الحكومة، على خلفية اتهامه بوقائع فساد وتضارب مصالح، وذلك تحت دعوى ابتزاز الفخفاخ لأقصى درجة؛ بهدف أن يصطف داخل بؤرة الحركة، وتوظيفه لصالح الأجندة السياسية الخاصة بها، بيد أنّ الفخفاخ أشار إلى أنّه باع أسهمه في تلك الشركات، وتعهّد أمام البرلمان بتقديم استقالته إذا ثبت ضده أي انتهاك للقانون.

انتهازية النهضة تربك المشهد السياسي

تسعى حركة النهضة نحو الوصول إلى سيناريو إحداث تغيير وزاري، يستهدف توسيع ائتلاف كتل الحكم، بغية القبض على عدد أكبر من الوزارات، غير أنّ مجريات الأمور سارت عكس خطط النهضة، ما دفع رئيس الجمهورية، قيس سعيد، إلى التأكيد على أنّ "رئاسة الدولة لن تقوم بأيّ مشاورات، مع أيّ شخصية، في ظل الوضع القانوني الحالي، وليكن هذا واضحاً للجميع، وليسجله التاريخ"، بحسب تعبيره.

جدير بالذكر أنّ حركة النهضة إبّان هيمنتها على حكومة يوسف الشاهد كانت طرفاً في اتفاق "الكامور" مع المحتجين

من ناحيته، هاجم حينها الفخفاخ تيار النهضة، معتبراً أنّ الدعوة لتشكيل مشهد حكومي أمر مغاير لما هو قائم ومستقر، ويُعدّ انحرافاً عن العقد السياسي الذي التأم مع أطرافه الأخرى، وانتهاكاً صارخاً لاستقرار مؤسسات الدولة .

تلك الخطوات التي سارت عليها حركة النهضة، خلال الشهور الماضية من العام الجاري، تكرّس لحظات صعبة على المشهد التونسي، وتعيد العلقم إلى ذائقة الغنوشي، حين تخلى عن الحكم في العام 2013 إثر احتجاجات المعارضين، وذلك لصالح حكومة تكنوقراط، وتفرض المستقر عند جماعات الإسلام السياسي في رغبة الاستئثار بالحكم، دون طرح مشروع سياسي حقيقي، يستند إلى مبدأ المشاركة والتعددية، وينحاز لقضايا الجماهير، بدلاً من الانحياز وراء إيديولوجيا الجماعة والتبعية لمصالح دول أخرى، الأمر الذي يستتبعه تواجد تلك الحركات خارج دوائر الوطن ومصالحه.

تمثل أطراف الصراع في المشهد السياسي التونسي موجات ضغط على مسار النهضة، من أطراف عدة دخلت معها الأخيرة في مواجهات مباشرة؛ أبرزها رئاسة الدولة، الأمر الذي تجاوز التلميح إلى التصريح، بتحميل الحركة مسؤولية انزلاق البلاد نحو الانسداد السياسي، وسخط الشارع التونسي ممّا آلت اليه أوضاع البلاد، وعدم استقرار الحكومة خلال الشهور القليلة التي تحملت فيها المسؤولية.

اقرأ أيضاً: تونس: هكذا جاء رد سعيد والفخفاخ على حركة النهضة الإخوانية

استناداً إلى الدستور، ستواجه حركة النهضة سيناريو شديد القسوة في مواجهة رئيس الدولة، حيث يلزمه الدستور بحسب المادة 98 باختيار شخصية توافقية لرئاسة الحكومة، وحينها ينبغي أن تُعرض على البرلمان لتحظى بالموافقة، بيد أنّ المادة 89 من الدستور، تشير إلى أنّه في حالة مرور أربعة اشهر على التكليف، دون منح البرلمان الثقة للحكومة، يضحي لرئيس الجمهورية وقتها الحق في حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، في مدة تتراوح بين خمسة وأربعين يوماً إلى تسعين يوماً.

ازدواجية النهضة وسياسة الكيل بمكيالين

تمارس حركة النهضة ازدواجية في أداء الأدوار السياسية في المشهد التونسي، حين تتحدث مرّة بلسان الحكومة التنفيذية، باعتبارها أحد المكونات بداخلها، ومرّة ترفع شعار أنّها لا تملك الأمر كله، وتلقي عبء المسؤولية على رئيس الحكومة، حين تصطدم بمسؤوليات محددة؛ يتبدى  ذلك في واقعة الاحتجاجات التي دارت خلال شهر حزيران (يونيو) الماضي، في جنوب تونس "تطاوين"، التي يراها الغنوشي رصيداً انتخابياً لحركته؛ إذ تشير الإحصائيات الانتخابية الرسمية إلى أنّ أغلب سكان (تطاوين) ذهبت أصواتهم خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة إلى حركة النهضة، وحليفها الإسلامي "ائتلاف الكرامة".

جدير بالذكر أنّ حركة النهضة، إبّان هيمنتها على حكومة يوسف الشاهد، كانت طرفاً في اتفاق "الكامور" مع المحتجين، ووعدت سكان المحافظة بالالتزام بنصّ الاتفاق، الذي رصد 80 مليون دينار للاستثمار، وامتصاص البطالة، وانتداب 1500 عاطل عن العمل في الشركات البترولية، إلا أنّها تخلت عن وعودها بعد ذلك، وساقت مبرراً لنكوصها عن وعودها السابقة، بأنّ عدم تفعيل الاتفاق ناتج عن خلافات سياسية، وليس تقصيراً من جانبها، لمغازلة الأصوات الانتخابية.

كل خطوات الأحداث المؤخرة في تونس تشي بفساد انخراط حركات الإسلام السياسي داخل المشهد العام

مطالعة بيان حركة النهضة، الذي أصدرته صبيحة تقديم رئيس الحكومة استقالته للسيد رئيس الجمهورية، يسطر عدداً من الحقائق، تأتي في مقدمتها أنّ الحركة تمارس مناورة للضغط على أطراف الصراع، من أجل تحييد إحداها لصالح الضغط على الأخرى؛ لتحقيق الأهداف المرجوة نحو إدارة المشهد السياسي لصالحها، وذلك يتضح حين نطالع مقاطع البيان، وهو يشير في المقطع الأول مستطرداً الأحداث، إلى أنّ واقع الاستقالة ما هو إلا تنفيذ لرغبة الحركة من قبل رئيس الجمهورية، في محاولة الخروج من دائرة تعطيل الحياة السياسية أمام الشعب التونسي، وربما تسعى نحو الغاية نفسها في المقطع الثاني، وهي تشير إلى ضرورة الحوار مع مختلف القوى الوطنية، من أجل مجابهة التحديات والظروف، بينما تفعل عكس ذلك في الواقع والحاضر السياسي.

يتحرك البيان في فقرة مهمّة نحو إزاحة الاتهام بتعطيل مصالح الشعب التونسي عن كاهلها، وإلقائه في خندق الرئاسة، حين دعت رئيس الجمهورية إلى تحمل مسؤولياته، في استقرار المرفق العام، وتحييده عن التوظيف السياسي.

اقرأ أيضاً: تحركات حركة النهضة الإخوانية في تونس... ما أهدافها وتطلعاتها؟

تأتي الفقرة الأخيرة من بيان حركة النهضة، لتلقي يقيناً بأنّ هدف نشر البيان في تلك اللحظة، هو من أجل لملمة صورتها أمام الشعب التونسي، بعدما كشفت الأحداث الأخيرة الغطاء عن تحركاتها، من أجل الضغط على أطراف الحكم، وابتزازهم من أجل مصالحها الذاتية، دون الاعتناء بسلامة المؤسسات الشرعية للبلاد، وذلك حينما دعت الشعب التونسي إلى مزيد من التآزر والتكاتف لتجاوز العقبات والتحديات، وأنّ ذلك سيسهم في الحد من الفساد وتحقيق التنمية.

لا ريب أنّ أحداث منتصف تموز (يوليو) الجاري، في تونس، لا يمكن الاشتباك معها إلا من خلال مسار طويل، كل خطواته تشي بفساد انخراط حركات الإسلام السياسي داخل المشهد العام، وتبعيتها اللامحدودة لمراكز القرار المناوئة للصالح العام داخل الأوطان، وعدم قدرتها على إدارة حوار سياسي مع أطراف أخرى، بمنطق يبتعد عن المغالبة، فضلاً عن كون مسار الأحداث يدفع حركة النهضة إلى لحظة مفصلية في واقع تجربتها السياسية، من ناحية تماسك الجماعة وهيكلها التنظيمي، ورغبة راشد الغنوشي في الاستمرار رئيساً للحركة، ومن ناحية أخرى ستسهم تلك الأحداث في تسرّب الآراء المؤيدة للحركة وسط الشارع التونسي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية