ديكتاتورية الجماهير: كيف تتحول الثورات إلى أدوات لقمع الحريات؟

ديكتاتورية الجماهير: كيف تتحول الثورات إلى أدوات لقمع الحريات؟


13/10/2020

ترتبط كلمة الاستبداد مجازاً بالسلطة الشمولية المتحكمة بالموارد الاقتصادية، وبالتالي فإنّ الصورة النمطية وربما الأدبية عن الثورات في تاريخ البشرية، هي انتفاضة الجماهير ضدّ الطبقة الحاكمة، سعياً لإرساء قواعد العدالة الاجتماعية، ولرفع الظلم عن الشعوب المُستبدّ بها سياسياً، والتي تئنّ من نظام ضريبي قاسٍ.

اقرأ أيضاً: حكم الغلبة..كيف رسخ الإسلاميون نزعة الاستبداد السياسي؟

لذا يُسيطر على مفهوم الثورات فلسفة الخير الشعبي المغلوب على أمره، الذي ينتصر على الأقلية الحاكمة المتجبرة، وهي صورة متوارثة من الأساطير القديمة بل ومن الأديان، مثل ديانة الطاوية في الصين في القرن الرابع قبل الميلاد، أو المانوية في بابل في القرن الثالث الميلادي، وكما وردت في الأديان الإبراهيمية كذلك.

 ترتبط كلمة الاستبداد مجازاً بالسلطة الشمولية المتحكمة بالموارد الاقتصادية

هذه الصورة الأدبية عن الثورة تستند إلى إحداث تغيير سياسي يُطيح بالاستبداد الكامن في أعلى هرم السلطة السياسية ليحلّ محله حكم الشعب، وهي صورة صائبة جزئياً لا كليّاً؛ لأنها تفترض وتُسلّم بأنّ الجماهير الثائرة غير مستبدة ولا تُنكر حرّيات وحقوق الآخرين.

شرعنة الاستبداد

قد تُستبدل السلطة المستبدة بسلطة منتخبة بالفعل، ولكنها تظلّ مستبدة بغيرها، فيصبح الاستبداد شرعياً، كونه صعد إلى سدّة الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، وتتمّ شرعنة التنكيل بالمعارض الذي قد يُعدّ كافراً أيضاً في نظر السلطة والمجتمع على حدٍّ سواء.

وهذا لا يعني أنّ فلسفة الثورة خاطئة بشكل مُطلق، لكن قد يعني أنّ مفهوم الثورات المستوحاة من اليوتوبيا، التي تؤدي حتماً إلى نموذج ديمقراطي سريع، هو أمر مغلوط في الذهنية العامة، خاصّة إذا تمّ اختزال الثورة في تغيير الحُكام فحسب، بدون الانتباه للأعراف التي تؤصل لممارسة ديكتاتورية مجتمعية على الآخرين.

 وتلك اليوتوبيا الثورية كانت مجالاً للكتابة الأدبية العالمية، كما جاءت في رواية (النجمة الحمراء) في العام 1908، للأديب الروسي والثائر البلشفي أليكساندر بوغادينوف.

المفهوم المغلوط للعدالة الاجتماعية

العدالة الاجتماعية التي تُنادي بها الجماهير الثائرة، غالباً ما تعني إزالة الفوارق الطبقية وانصهارها، والعدالة قيمة ضرورية، كونها تؤسّس للسلم المجتمعي، لكنّ مفهومها الشائع يتضمّن شيئاً من اللغط في الوقت نفسه، على النحو التالي:

أولاً: العدالة الاجتماعية لا تتحقق بالضرورة عن طريق انصهار الشعب في طبقة واحدة، وإنما تتحقق برفع التمييز الخدمي الذي ينحاز لطبقة ضدّ أخرى، فتتجلى العدالة الاجتماعية ـمثلاً- في توفر علاج طبي آدمي لا يخضع لمنظومة استثمار مؤلمة يجد فيها المواطن نفسه غير قادر على التكفل بعلاجه، أو تعجز منظومة العلاج الطبي التي يخضع لها المواطن عن علاجه لعدم توفر الإمكانات الضرورية.  

 

قد تُستبدل السلطة المستبدة بسلطة منتخبة بالفعل ولكنها تظلّ مستبدة بغيرها فيصبح الاستبداد شرعياً

 كما أنّ العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة في الفقر فحسب، وإنما هي معنية بتقليل تعداد الفقراء، وخلق مساحات عمل، والحدّ من سياسات احتكار الأسواق الحرّة، فكلما زاد حجم الطبقة المتوسطة في تعدادها وتأثيرها الاقتصادي، قلّ هامش الفقر، وكان المجتمع أكثر استقراراً.

 تلك النظرية فنّدها الخبير الاقتصادي (ديفيد مادلاند) بشكل معاصر في العام 2015 من خلال كتابه: Hollowed out: why the economy doesn't work without a strong middle class الفجوة: لماذا لا يزدهر الاقتصاد بدون طبقة متوسطة قوية؟

ثانياً: العدالة الاجتماعية غير منوطة بالفوارق الطبقية فقط، فجزء من العدالة الاجتماعية هو تكافؤ الفرص بين الجنسين، وخلو القانون من التمييز على أساس النوع، حتى لا تكون المواطنة جندرية، أي مواطنة جزئية تستند إلى تفوق جنس على آخر تشريعياً، كما تتجنب العدالة الاجتماعية في فلسفتها الاستناد إلى مصادر فوق دستورية أو إلى أصولية دينية تعدّ التكافؤ بين الجنسين بمثابة الاعتداء على الذات الإلهية.

مفهوم الثورات المستوحاة من اليوتوبيا التي تؤدي حتماً إلى نموذج ديمقراطي سريع أمر مغلوط في الذهنية العامة

 لعل هذه الظاهرة تتجلى بوضوح في رفض المجتمعات الثائرة ضد الطغيان السياسي (في حال سقوط الأنظمة) لقوانين أحوال شخصية مدنية في الطلاق، ورفضها لإلغاء القوامة والولاية القانونية، بل قد تعدّها مطالبات فئوية، إلى حدّ اتهامها بعرقلة المسار الثوري، وتُتهم النساء المطالبات بهذه التعديلات القانونية بأنهنّ يقدن ثورة مضادة، وهنا يصبح الاستبداد قائماً على أساس النوع الاجتماعي. وقد يصل هذا الاستبداد بحقوق المواطنة إلى دعوة بعض الأصوليين إلى إجراء استفتاء ديمقراطي على نزع ما وصلت إليه النساء من حقوق سياسية أو اجتماعية.

كما أنّ العدالة الاجتماعية معنية بالمساواة في حقّ وحرّية الاعتقاد، وحرّية تغيير العقيدة بدون ملاحقات أمنية أو مجتمعية، لذا يُعدّ حقّ تغيير فرد لعقيدته حقاً أساسياً، سواء أكان ينتمي للأقلية الدينية أم للأغلبية الدينية، بل يصبح الحقّ في عدم الاعتقاد نفسه شكلاً من أشكال حرّية العقيدة.

العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة في الفقر فحسب وإنما هي معنية بتقليل تعداد الفقراء

كما تتضمّن الحرّية الدينية حقّ ممارسة الشعائر وبناء دور العبادة، ليس فقط لأصحاب الديانات المعترف بها مجتمعياً أو سلطوياً، وإنما للأديان كافة، فيكون قانون دور العبادة الموحد قائماً على أساس الحقّ في الاعتقاد، وليس نوعية الاعتقاد، طالما لا يحرّض الاعتقاد على إيذاء ضدّ الآخر.

 أي إنّ الحرّية الدينية هي حالة يُصاب فيها المجتمع باللامبالاة تجاه معتقد الآخر، وينصبّ اهتمام الجماهير على مفاهيم العدالة الاجتماعية المنوطة بالخدمات الآدمية وتكافؤ الفرص.

أقليات دينية تنكر حقوق أقليات أخرى

العدالة الاجتماعية القائمة على حقّ الاعتقاد، مفهوم تمّ اختزاله في تأمين حقوق أقليات دينية بعينها، يرضى عنها المجتمع ويباركها، كونها من الأديان السماوية، لكن يرفض المجتمع نفسه أيّ معتقد آخر لا يعدّه سماوياً.

 أمّا اللافت للانتباه، فهو أنّ الأقلية الدينية المعترف بها مجتمعياً، والتي قد تعاني من هجمات إرهابية على دور عبادتها، قد تنكر حقوق أقلية دينية أخرى، فنجد الجماهير ثائرة ضدّ الاستبداد السياسي وثائرة ضدّ الاستبداد الأصولي للأغلبية (دون تعميم)، لكنها تنكر حقّ الاعتقاد على أصحاب أديان أخرى لا تعترف بها، كما هو الحال تجاه رفض الديانة البهائية في معظم البلاد العربية.

  العدالة الاجتماعية القائمة على حقّ الاعتقاد مفهوم تمّ اختزاله في تأمين حقوق أقليات دينية بعينها

قد تتحد الأغلبية مع الأقلية الدينية المعترف بها ضدّ حقوق أقليات أخرى دينية أو لا دينية، بل قد تتحد بعض الأصوليات الدينية التي تتناحر فيما بينها ضدّ الحقوقيين الساعين لترسيخ حقوق المواطنة المدنية، ممّا يصنع دائرة استبداد مفرغة، وتتجلى ديكتاتورية الجماهير، فترسخ لشمولية جماهيرية غير مركزية.

حركة الحقوق الشخصية في مواجهة ديكتاتورية الجموع

وهناك خطأ متخيل كذلك بأنّ ديكتاتورية الجموع مرتبطة فقط برفض الحقوق النسوية، حتى وإن كانت إشكاليات النساء أكثر شيوعاً، لكنّ الاستبداد الرافض للحقوق الشخصية يطال الرجال أيضاً، وهو ما عبّر عنه الكاتب الأمريكي (جون ماكلين) في مقاله الصادر في العام 1918  وعنوانه: The Tyranny of The average Man وقد نترجمه بتصرّف إلى: "استبداد رجل الشارع"، حتى لا تفقد الترجمة معناها، وفيه يفنّد أسباب الاستبداد الناتجة عن المنظومة الأخلاقية المتخيلة والتقاليد المجتمعية الراسخة التي قد تُنكل بمن يخرج عليها في المُطلق.

نقد نظرية الاستبداد الجماهيري

"لا مجال للحرّية التي تنشغل بإنكار حرّية الآخرين" مقولة وردت على لسان المفكّرة الفرنسية سيمون دي بوفوار في كتابها الصادر في العام 1945 (أخلاق الغموض) Pour une morale de l'ambiguïté، وأضحت المقولة تُعبّر عن أزمة الاستبداد المجتمعي.  

قد ترفع الثورات شعار الديمقراطية بعد الإطاحة بالسلطة الشمولية، ولأنّ ديكتاتورية الجماهير في بعض المجتمعات قد تُنكر الحرّيات الاجتماعية والدينية، ما قد يُعرّض العملية الديمقراطية إلى سلاح مضاد ضدّ الديمقراطية نفسها، لذا تعرّضت الديمقراطية في إطارها العام للنقد.

اقرأ أيضاً: من أين نأتي للإسلاميين بأنظمة استبدادية كي يجدّدوا رصيدهم النضالي

وقد أوحى هذا السجال للباحث الأكاديمي المتخصص في العلوم السياسية (روبرت دال) أن يصدر كتاب: الديمقراطية ونقادها Democracy and its critics في العام 1989،  وفيه أجرى حواراً بين مؤيد ومعارض للديمقراطية، ليخرج بنظرية تطرح نقاط الضعف والقوة، مع السعي لسدّ الذرائع ضدّ مسألة الديمقراطية.

وفي هذا الصدد، تطرّق (دال) إلى التخوّف من استبداد الأغلبية في ص 171 من كتابه،  وأشار إليها بالمعضلة الزائفة، وبالتمعن في النص سنجد أنّ (دال) يشير إلى الأغلبية كونها عرقية أو دينية ضدّ أقلية أخرى، كما ينصبّ اهتمامه فقط على مباشرة الحقوق السياسية التي يرى فيها أنّ الأغلبية قد تعجز عن حرمان الأقلية من ذلك، حتى إن كانت لديها السلطة في فعل ذلك.

اقرأ أيضاً: "من الاستبداد الديني إلى العسكري".. الحرس الثوري يستغل كورونا لفرض سيطرته على إيران

 لكن ما يغيب عن هذا النصّ هو ما يُمكن أن يُمارسه المجتمع من ديكتاتورية من منطلق أخلاقي حسب تصور الأغلبية، اعتراضاً على اختيارات شخصية وحرّيات فردية لمواطنين آخرين، سواء أكانوا من ضمن الأغلبية أم الأقلية الدينية، وسواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً.

 هنا تصبح الحقوق الشخصية والحرّيات الفردية للأفراد رهن الاستفتاء الجماهيري، فيتحقق مبدأ استقواء الغلبة، الذي هو أكثر شمولاً من مجرّد تحكمات الأغلبية الدينية والعرقية ضدّ غيرها من الأقليات. فتحيد الثورات ـفي بعض الحالات- عن الإصلاح السياسي، وتتبدّد شعارات الحرّية على صخرة ملاحقة الحرّيات الفردية للآخرين.

نظرية الاستبداد المألوف

تستخدم الحكومات الشمولية ذريعة استبداد الجماهير، وما تخلفه من أحكام قبلية وفوضى عارمة، وسيلة لكبح جماح المطالبين بإصلاحات سياسية، وحفظاً على بقاء السلطة في مكانها، لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ الذريعة واهية أو غير حقيقية.

الثورة المضادة قد تتجلى في صورة ديكتاتورية جماهيرية ترفض الحرّيات الاجتماعية والدينية والفردية للآخرين

قد تتمتع النساء أو الأقليات الدينية، بل الأغلبية أيضاً، بهامش من الحرّيات والحقوق في ظلّ الحكومات الشمولية، ولكن يظلّ هذا الهامش بمثابة الحدّ الأدنى الذي تخشى الجماهير من فقدانه، ولهذا تصبح الدعوة لثورة سياسية غير مستساغة، ليس تأييداً لمنظومة الحكم، ولكن خوفاً من استبداد الجماهير، وهو ما يُمكن أن نسمّيه ظاهرة التعايش مع استبداد مألوف. مع الأخذ في الاعتبار أنّ الحالة المعيشية والبطالة المترتبة على الفراغ السياسي من الأمور التي تكبح كباح الجماهير التي تخشى من فقدان الحدّ الأدنى من سبل المعيشة.      

لذا، قد يكون مفهوم الثورة المضادة النمطي، والمقصود به عمل مراكز قوى قديمة ضدّ الثورات، مفهوماً يحتاج إلى استزادة، فيضاف إليه أنّ الثورة المضادة قد تتجلى في صورة ديكتاتورية جماهيرية ترفض الحرّيات الاجتماعية والدينية والفردية للآخرين؛ ممّا يقحم المجتمعات في معارك دفاعية عن الذات والهويّة والنوع لا نحو الإصلاح والتمدين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية