في فهم التنافس: عذراً ميكافيلي.. الغاية لا تبرّر الوسيلة

في فهم التنافس: عذراً ميكافيلي.. الغاية لا تبرّر الوسيلة

في فهم التنافس: عذراً ميكافيلي.. الغاية لا تبرّر الوسيلة


11/10/2023

 

من أشدّ الأوهام التي يمارسها العقل على نفسه، وهم تعيين أحكام قبليّة، غرضها الوحيد إخراج العقل من مأزق التناقض الذي سوّر نفسه به، وهذا الوهم استثمار مُسبقٌ لهدف عيّنه العقل كإستراتجية تبريرية، لا يمكن أن نقرأ من خلالها سوى حماقة التأكيد على المؤكَّد سلفاً، ما يجعل "الغاية تبرر الوسيلة" طريقاً معبّداً للوصول إلى النتائج. هذا ما دفعني لإعادة النظر في مفهوم التنافس، الذي يحمل ظاهره قيمتين متناقضتين، تتكشّفان في العمق عن القيمة نفسها، فيقال إنّ التنافس إيجابي إذا كان هدفه نبيل، ولكنّ النبالة هنا ما هي إلّا تبرير "ميكافيلي" يعمل كقيمة مضافة لفعل الإقصاء، الذي يستعير معقوليته من الذهنية العامة التي تشكل وعي الفرد، ويقال إنّ التنافس سلبي إذا كانت أهدافه وضيعة، ولكن من يحدد وضاعتها؟ إنّهم المتواطئون على القيمة التي يحملها الهدف، والنتيجة أنّ شطري التنافس وجهان لعملة واحدة. وبالتالي ألا يمكننا أن نجزم بسلبية التنافس أينما وجد ولأي غاية كانت؟ ما الذي يمكن أن يتنافس الإنسان عليه سوى الحماقة؟ أليس الحماقة هي الدافع الوحيد للخصام؟ أليس الخصام المنتِج الوحيد لصيغ النفي والإلغاء؟ من هنا كان لابد من إعادة قراءة التنافس خارج حظيرته الاصطلاحية التي تحدد دلالته وتمنحه قيمة كاذبة.

 

فروم: الإنسان يتخذ من الحرية صورتين اثنتين: الحرية الفردية التي تمارس بأنانية والحرية الإبداعية التي يتعارف بها على الآخرين

إريك فروم في كتابه "الخوف من الحرية" يرى أنّ الإنسان يتخذ من الحرية صورتين اثنتين: الحرية الفردية، التي يمارس الإنسان من خلالها الحرية بفردية وأنانية، وينخرط في تنافس مع الآخرين، لتكون النتيجة أنواعاً منحطة من الشخصيات؛ كالانتهازي والأناني والاستحواذي..إلخ. والحرية الإبداعية التي يمارس الفرد من خلالها حريته بشكل إبداعي، يتعارف فيها على الآخرين بعقلانية ومحبة، ويؤسس لمجتمع صحي يقوم على القبول والتعاون. والسؤال: أي صورة من صورتي الحرية هي التي تتبدى في المجتمعات عامةً وفي مجتمعاتنا خاصةً؟

قد لا تخلو تربيةٌ في مجتمعاتنا من التنافس (من يسبق بإنهاء صحنه، بارتداء ثيابه، بجلب شيء ما، حتى الخصام بين الوالدين قد يأخذ شكل المنافسة على كسب ولاء الطفل). هذه النزعة التي تغذيها الأسرة لا تلبث لاحقاً أن تعززها المدرسة، لتغدو قيم التعلّم هامشية لصالح مركزية التفوق الذي يقرر مصير الطفل من خلال الدرجة، وتصبح الدرجات هي الغاية لا المعرفة التي تتوفر عليها المناهج. من هنا تبدأ رحلة برمجة العقل للتعامل مع العالم بمنطق حسابي يختصره إلى ربحٍ أو خسارةٍ، ومن خلال هذا المنطق تأخذ صورة الآخر، صورة العقبة التي يجب إزاحتها وبأي طريقة كانت. في هذا المناخ يصبح التنافس العلاقةَ الأقوى التي تربط الأفراد، وهذه العلاقة لن تفرز سوى العدائية التي بدورها ستولّد مشاعر الحسد والغيرة والأنانية الظاهرة والمضمرة، ليصبح الآخر هو الجحيم بتعبير سارتر، ويطفو على سطح العلاقات الاجتماعية الغش والخداع كوسيلتين مشروعتين طالما هما توصلان إلى الهدف، وهذا بالضبط ما يؤكد تواطؤنا مع "ميكافيلي". أو بالأحرى تواطؤنا على ذواتنا من خلال النفي والإلغاء، وعدم قبول الآخر وانعدام مقبوليته لنا، لتكون النتيجة "حرب الجميع ضد الجميع"؛ فالمجتمع الذي تسيطر عليه قيمة التنافس، سينتهي به المطاف إلى هدر أفراده وهدر طاقاتهم بحسب تعبير "مصطفى حجازي".

على نقيض التنافس لا يمكن للتعاون إلّا أن يكون اعترافاً متبادلاً بين الأفراد، وهذا الاعتراف ينظر إلى الفعل كقيمة مشتركة

من يهدر هذه الطاقات؟ ربما هي السلطة التي تنتج العالم في عالمنا، سلطة تجعل من المال والشهرة والنفوذ غايات الحياة الاجتماعية، لتحصر العلاقة بين الأفراد في قالب الربح والخسارة، فهناك دائماً شيء ما لتخسره أو لتكسبه، يتحدّد وتُحَدَّد قيمته بالتنافس، السلاح الخفي لهذه السلطة، والذي يجد مقبوليّته من خلال البنية الهرمية لمجتمعاتنا؛ حيث يدغدغ التنافس تعطش أفرادها للتسلق وبلوغ القمم، من دون الاكتراث أنّ القمم ضيقة ويتطلب الوصول إليها فعل إزاحة مستداماً، تقول "هيلاري أنغر إلفينباين" أستاذة السلوك التنظيمي بجامعة واشنطن:"متى وُجدت منافسة طويلة الأمد سيتوفر مجال للتناحر". وهذا المجال الذي يقوم على الإزاحة المتعمّدة سيُبعد الإنسان عن إنسانيته التي لا يمكن أن تتعين خارج التعاون والمحبة.

على نقيض التنافس لا يمكن للتعاون إلّا أن يكون اعترافاً متبادلاً بين الأفراد، وهذا الاعتراف ينظر إلى الفعل كقيمة مشتركة تتحقق بجميع الجهود المبذولة لإنجازه؛ حيث يصبح الهدف نتيجة طبيعية للأسباب التي صاغته، من دون ثقافة الاعتراف، سيحظى الفرد بجرعات متزايدة من القلق والخوف، وربما هذا ما نؤسس أطفالنا عليه، حيث يشير إدغار موران إلى أنّه "يمكن كبت القلق من خلال الولع باللعب، ولكن دون أن نتخلص منه أبداً"، تشير كلمة الولع السابقة إلى انحراف اللعب عن بعده الإنساني المنتَج، ليتحول من مساحة للمعرفة والاكتشاف والنمو، إلى بعد استهلاكي يتغذى الطفل على قلقه ومن ثم يعيد إنتاجه عندما يكبر، يتبدى هذا في سيطرة الألعاب الإلكترونية على عقول مستخدميها بواسطة البرمجة الهائلة التي تُمارَس عليهم، والتي تغذيها بشكل مستمر آليات التنافس، في واقع يقوم أساساً على هدم اللعب الذي أخذ يتعين بالنتيجة فقط، هذا النمط العام المهيمن ينسحب على أغلبية الألعاب، فالولع العالمي بكرة القدم يعود إلى حجم الاستثمارات الهائل لرؤوس الأموال في ملاعبها، الاستثمارات التي تهدف فقط إلى الربح، وهذا الربح الذي يغدو أكبر كلما تضاعف الولع العام باللعب، فتكون ثقافة التنافس التي تفرغ اللعب من معناه، الضامن الأكبر للقلق الذي يتم حكّ جلد البشرية فيه بشكل مستمر، بالمجانية التي تنتج ذاتها وتضاعف الربح. 

الرغبة بالفوز التي تجعل من اللعب ميداناً للمنافسة تنسحب على الحرب فهي الميدان الأقوى للربح عالمياً

الرغبة بالربح (الفوز) التي تجعل من اللعب ميداناً للمنافسة، تنسحب على الحرب، فهي الميدان الأقوى للربح عالمياً، فاليوم بتنا نلحظ بشكل مطّرد، تفشي الحروب في العالم سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم عسكرية أم دينية، هذا التفشي العالمي لظاهرة الحرب، مردّه انحطاط القيم الإنسانية التي تم استبدالها بقيم السوق المرتبطة بالربح، وبصيغ التفضيل التي تشعل جذوة التنافس (الأقوى، الأغنى، الأعتى، الأفضل)، والمخزي هنا أنّنا بعد آلاف السنين من الحضارة، لم يستطع الإنسان أن يُطوّر بما يكفي ثقافة التعاون والحوار، التي تعمق انتماء الإنسان إلى هويته الإنسانية، بدل الانغلاق على هويات حصرية أقل ما فيها أنها "هويات قاتلة"، على حدّ تعبير أمين معلوف.

على ما يبدو أنّ جذور التنافس تمتد عميقاً في التاريخ، لتعود للحظة تشكّله الأولى القائمة على الملكية، والتي لم يكسب الإنسان من خلالها سوى خوفه وقلقه الدائمين " فكل هذه الامتيازات ومظاهر الأبهة في الإنسان، ما أغلى ما دفعنا من أنفسنا من أجلها وكم من الدماء والرعب في أعماق هذه الأشياء الجميلة"، إنّ نيتشه محق في هذا، فحسّ الملكية والاستئثار يعيّنا الوجود داخل "أنا" لا ترى تعيّنها إلّا في انعدام الآخر، هذه "الأنا" التي تنسى في معرض تنافسها أنّ الآخر هو المادة التي تتشكل منه، فعندما تلغي "الأنا" الآخرَ فإنها تلغي نفسها، وبالتالي تلغي إمكانات تفتحها وانطلاقها، وتلغي إمكانات تشكّل وعي إنساني منفتح، يمتلك القدرة على منح الحياة معنى يتجاوز المحدودية التي يتم من خلالها قراءة العالم. "الحياة هي هدية الوجود، فتعلّم كيف تستمتع بها، تلذذ بها، ارقص مع الأشجار والنجوم، أحب بلا غيرة، وتعلّم بلا تنافس، كن نفسك فقط"  بتعبير أوشو.

الصفحة الرئيسية