قراءة في الأزمة الأمنية الروسية بعد "فشل" تمرد فاغنر

قراءة في الأزمة الأمنية الروسية بعد "فشل" تمرد فاغنر

قراءة في الأزمة الأمنية الروسية بعد "فشل" تمرد فاغنر


23/08/2023

لعلّ الحقيقة المؤكدة هي أنّ تمرد فاغنر، وبمعزل عن مآلاته، شكّل بصورة أو بأخرى محطة بارزة ذات دلالات عميقة بانكشاف "هشاشة" المنظومة الأمنية الروسية، وبصورة منسجمة تماماً مع هشاشة وإشكالات انكشفت منذ انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا، أو العملية الخاصة كما تسميها القيادة الروسية، وذلك بالرغم من عدد من السيناريوهات المفسرة لتمرد فاغنر، والتي تستند لمرجعيات مقاربة "المؤامرة"، وتراوح ما بين أنّ هذا التمرد جاء في إطار خطة أعدتها القيادة الروسية لإعادة انتشار قوات فاغنر في مناطق جديدة من بينها أفريقيا، استناداً للعلاقة الوثيقة بين الرئيس بوتين وقائد فاغنر (بريغوجين) الموصوف بأنّه "طباخ بوتين"، وبين تفسيرات أخرى تذهب إلى أنّ التمرد حقيقي، بدلالة الانتقادات الحادة التي وجهها قائد فاغنر لقادة الجيش، وفي مقدمتهم وزير الدفاع (شويغو)، بما فيها من اتهامات بالخيانة وكشف ظهر قوات فاغنر عسكرياً؛ ممّا تسبب في خسائر في صفوفها بمعارك (باخموت)، وعدم تزويدها بالأسلحة والذخائر.

وإذا كانت المهمة الأساس للأجهزة الاستخبارية هي جمع المعلومات بالطرق السرية والعلنية، عبر المصادر البشرية والفنية، وتقييمها وتحديد حجم ومستوى المخاطر قبل وقوعها، فإنّ تمرد فاغنر يطرح تساؤلات حول ما إذا توصلت تلك الأجهزة "الأمن الفيدرالي الروسي، والحرس الوطني الروسي، واستخبارات الجيش الروسي"، وهي أجهزة موصوفة بالقوة والقدرة، لتقدير موقف بإمكانية تمردها، أم توصلت لذلك وتمّ حجب هذه التقديرات عن الرئيس بوتين، في إطار علاقات غامضة بين قائد فاغنر والرئيس الروسي، ومع قادة في مؤسسات الدولة الروسية بما فيها الأمنية والعسكرية، وهو ما عكسته الغيابات الغامضة والمفاجئة لجنرالات في الجيش الروسي، بالإضافة إلى التغييرات التي شهدتها مستويات قيادية في تشكيلات الجيش الروسي، الذي يخوض معارك يفترض أنّها ليست ضد أوكرانيا بل ضد قوات الناتو، ولعل أبرز ما يذكر هنا اختفاء نائب وزير الدفاع (سورفكين) بعد إنهاء تمرد فاغنر.

قصة تمرد فاغنر كشفت بوضوح أنّ الرئيس بوتين متمسك بفاغنر، الشركة الأمنية الخاصة، بيدها الطولى داخل روسيا وخارجها بوصفها ذراع الكرملين وبولائها التام له، ولكن بقائد بديل لـ (بريغوجين) الذي تمرد

كان لافتاً الطريقة التي تعاطى فيها الرئيس بوتين مع تمرد فاغنر، والتي مرت عبر مراحل؛ بدأت بمفاوضات عبر بيلاروسيا، وإنهاء التمرد، وتقديم عروض لكوادر فاغنر بالانضمام للجيش عبر عقود خاصة، أو المغادرة إلى بيلاروسيا، ومنها إلى أفريقيا والدول التي تمارس فيها فاغنر نشاطات عسكرية واستثمارية "مناجم الذهب"، والخيار الأخير هو العودة إلى الحياة المدنية لمن يرفض أيّاً من تلك العروض، وبالتزامن مع ذلك تم التقليل من حجم التمرد، "الأرقام الروسية تشير إلى أنّ عدد عناصر فاغنر لا يتجاوز (25) ألفاً، وأنّ المشاركين في التمرد بحدود (5) آلاف عنصر فقط"، إلّا أنّه من غير المعروف على وجه التحديد مصير كوادر وعناصر فاغنر، في ظل معلومات وتسريبات متضاربة حول انتقال بعضهم بالفعل إلى بيلاروسيا أو بقاء غالبيتهم في روسيا، أو انتقال بعضهم إلى أفريقيا، علماً بأنّ كل تلك الاحتمالات واردة، بما فيها الانتقال إلى أفريقيا.

قصة تمرد فاغنر كشفت بوضوح أنّ الرئيس بوتين متمسك بفاغنر، الشركة الأمنية الخاصة، بيدها الطولى داخل روسيا وخارجها بوصفها ذراع الكرملين وبولائها التام له، ولكن بقائد بديل لـ (بريغوجين) الذي تمرد، واعتقد أنّه وصل إلى قوة تمكنه من فرض شروطه، ليس على الدولة الروسية ومؤسساتها، بل على صانعها الرئيس بوتين، هذه الفرضية تفسر التعاطي اللافت والذي تميز بالتريث الذي انتهجه الرئيس بوتين في إخماد تمرد فاغنر، رغم يقينه أنّ التمرد لم يستهدفه شخصياً بقدر ما استهدف قيادات في وزارة الدفاع مقربة هي الأخرى من الرئيس بوتين، عكست تضخماً في الأدوار التي أصبح يمارسها (بريغوجين)، واعتقاده بأنّه يستطيع أن يفرض ما يريد من قرارات.

عملياً؛ انتهت صيغة تمرد فاغنر عبر صور الأرتال العسكرية المتوجهة إلى موسكو أو إلى غيرها من المدن الروسية، فقد نجح الرئيس بوتين في عزل فاغنر عن الجيش والأجهزة الأمنية وإضعافها في الداخل الروسي على الأقل، لكنّ جملة تحديات جديدة وجوهرية تواجه استقرار نظامه السياسي، فالانتقادات التي تصدر عن جنرالات في أعلى هرم القيادة ما زالت قائمة، وثبت أنّ فاغنر تخترق قيادات في الجيش والأجهزة الأمنية الروسية، عبر شراء ذمم وولاءات، اكتسبت شرعية عبر الصيغة الغامضة التي تمارس فيها فاغنر نشاطتها، والغطاء الذي توفر لها عبر علاقة "خاصة" من غير الواضح حدودها ومداها مع الرئيس بوتين شخصياً، وفقاً لكثير من المصادر الروسية.

ثبت أنّ فاغنر تخترق قيادات في الجيش والأجهزة الأمنية الروسية، عبر شراء ذمم وولاءات، اكتسبت شرعية عبر الصيغة الغامضة التي تمارس فيها فاغنر نشاطاتها

ورغم أنّ وضعية "الشلل" التي أصابت أجهزة الأمن الروسية خلال ساعات التمرد، ما بين انطلاقه إلى حين توقفه، لا يتم تداولها في إطار الإعلام والدعاية الروسية رسمياً إلّا بحدود رسائل تؤكد متانة الأجهزة وولاءها للرئيس بوتين وليس للدولة، على غرار ما يجري في العالم الثالث، إلّا أنّ حقيقة ما يجري داخل هذه الأجهزة من عمليات غربلة وإقصاءات وغيابات لكثير من القيادات تُعدّ من أبرز تداعيات تمرد فاغنر، ومن غير الواضح الشكل الذي يمكن أن تستقر عليه، لكنّ المؤكد أنّها تداعيات عميقة، وتشكّل تحدياً للرئيس بوتين، لا سيّما أنّ تسريبات غربية حول تداعيات التمرد تؤكد أنّ هناك "اختراقات" أمنية واسعة لأجهزة استخبارية أوروبية، لا سيّما بريطانيا وألمانيا وفرنسا، بالإضافة إلى اختراقات أمريكية، أثبتت مخرجاتها أنّ الساحة الروسية مخترقة "أمنياً" من قبل الغرب، وهو جانب من جوانب ملفات معقدة أبرزتها الحرب في أوكرانيا، عسكرياً وأمنياً واقتصادياَ، ويبدو أنّ الغرب يعوّل عليها في بناء خططه ضد الرئيس بوتين، الذي يبدو أنّ الدائرة المحيطة به لم تعد موضع ثقة، رغم الصورة المخالفة لذلك التي يقدمها الإعلام الروسي الرسمي.

مواضيع ذات صلة:

توترات بين أمريكا وروسيا في سوريا: ما علاقة ميليشيات إيران؟

تبادل فتح الجبهات بين أمريكا وإيران وروسيا.... شرق الفرات السوري نموذجاً

أوكرانيا "تعاقب" إيران بسبب تحالفها الاستراتيجي مع روسيا



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية