كيف أصبحت تونس بؤرة لتجنيد التكفيريين؟

كيف أصبحت تونس بؤرة لتجنيد التكفيريين؟


22/11/2020

كشفت تظاهرات العام 2011، في عدد من الدول العربية، الغطاء عن غفلة الأنظمة السياسية في التعامل مع التنظيمات الإسلامية الحركية، سواء من الناحية السياسية والأمنية، أو السياقات اللازمة والضرورية التي تتصل بسبل مواجهة تمدد تلك الأفكار، وكذا وأد قدرتها على ضخ أعضاء جدد إلى تكويناتها التنظيمية.

بدت تونس وهي تزيح نظام الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، تعيش تحت وطأة ولادة عدد غير محدود من التنظيمات الراديكالية، خاصّة في ظل غياب مؤسّسات الدولة، فيما اصطلح على تسميته بظاهرة السلفية الجهادية.

النفزي: جامعة الزيتونة لها دور كبير في نشر صورة الإسلام الحقيقيّة، ومواجهة التيارات المتشددة والعنيفة

التأصيل المعرفي للسلفية الجهادية

تستمد السلفية الجهادية في تونس مناهجها الفكرية من مصادر مختلفة؛ إذ تشكلت من خلال تيارات إسلامية عديدة، خاصّة ما استمدته من أفكار سيد قطب "التكفيرية"، ومنهجه في استخدام القوة والعنف ضد الدولة، وتفكيك أو هدم مؤسّساتها، وكذا أدبيات جماعة الإخوان المسلمين.

يذهب البعض إلى اعتبار أنّ السلفية الجهادية، برزت كتيار مستقل عن التيار السلفي الدعوي والتقليدي، في إطار ظرف إقليمي ودولي، خلال نهاية عقد  الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك بعد عودة "الأفغان العرب" لبلادهم، بينما تشكل داخل تلك التنظيمات التكفيرية، عدد كبير من الشباب التونسي الذي اكتسب الخبرات التنظيمية، القتالية والميدانية، في معسكرات أفغانستان وقت الحرب ضد الاتحاد السوفياتي.

 جاء تأسّيس أول حركة سلفية، في تونس، العام 1988، وحملت اسم "الجبهة الإسلامية التونسية"، وترأس الجبهة كل من محمد خوجة، ومحمد علي حراث، وعبد الله الحاجي، بينما كانت توجهات الجبهة الاسلامية قريبة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في الجزائر، والتي صنفتها وزارة الخارجية الأمريكية ضمن "المنظمات الإرهابية العالمية". بيد أنّ الهيكل التنظيمي لهذه الحركة تلاشى بعد هجرة أغلب قادتها إلى المنفى، واعتقال البعض الآخر، في تونس، خلال عقد التسعينيات بتهمة الإرهاب.

أثر الفكر الجهادي على أرض الواقع

نفذ التيار الجهادي مجموعة من العمليات الإرهابية والهجمات المسلحة الفردية، خلال فترة حكم الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، مثل عملية تفجير الكنيس اليهودي، بواسطة سيارة مفخخة، في جزيرة جربة، جنوب شرق تونس، في نيسان (أبريل) العام 2002؛ وقد راح ضحيتها عدد من السياح الألمان. كما حدثت مواجهات بين العناصر المسلحة والتكفيرية والجيش التونسي، في الضاحية الجنوبية لتونس، نهاية العام 2006، والتي تعرف بأحداث "سليمان"، وقد نفذها تنظيم أطلق على نفسه اسم "جند أسد بن الفرات"، بينما راح ضحية العملية الأخيرة عناصر من الجيش التونسي، وأعقبتها حملة اعتقالات واسعة شملت المئات من الجهاديين.

وفي إطار ذلك يذهب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في جامعة منوبة، عبد اللطيف الحناشي، في كتابه الصادر، مؤخراً، بعنوان: "السلفية التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول"، نحو التأكيد بأنّ السلفية التكفيرية ظلت حبيسة مجال جغرافي محدد، طيلة فترة زمنية طويلة نسبياً، ثم ما لبثت أن انتقلت، في عقد الثمانينيات، على إثر جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية، من المحلية إلى ما يمكن توصيفه بـ"الأممّية الإسلامية".

وعليه، يلفت الحناشي في حديثه لـ"حفريات"، إلى أنّه، ومنذ تلك اللحظة، اتخذت السلفية التكفيرية أبعاداً جديدة، تداخل فيها المحلي بالعالمي، على المستوى النظري والعملي، ما أسهم في تمدّد  ظاهرة السلفية التكفيرية المتشددة، عالمياً وكذا داخل بيئاتها المحلية، كما أنّ انحسارها مرتبط أشد الارتباط بقرارات وتوجهات دولية، خاصّة وأنّ قابلية الانجذاب إليها على الصعيد الفردي أصبحت ترتبط بأطر وسياقات متباينة، بما يهدد سلامة واستقرار مؤسّسات الدولة، أيّ دولة. ويضاف إلى ذلك، أنّ تطور وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، يفاقم من تأثيرات الأفكار الراديكالية، وتلك مسألة تبدو واضحة عبر انخراط آلاف الشباب العربي في ساحات الصراع، مرة في أفغانستان ومرات أخرى، في سوريا واليمن مروراً بالعراق وليبيا.

اتخذت السلفية التكفيرية أبعاداً جديدة، تداخل فيها المحلي بالعالمي، على المستوى النظري والعملي

ويضيف الحناشي، أنّه كان من الملفت أن تضحى تونس من بين الدول التي اندفع شبابها مبكراً نحو الانخراط في النشاط السلفي الجهادي والتكفيري، على المستوى الإقليمي والدولي، وصولاً إلى النشاط المحدود في تونس، ثم الاندفاع القوي الذي تجلى بعد مطلع العام 2011، حيث تحصّل هؤلاء على حرية النشاط والتمدّد منذ صدور العفو التشريعي على رموز هذه المجموعات وقياداتها التنظيمية، في حين لم تتردد هذه المجموعات في خداع قطاع هام من النخبة السياسية والاجتماعية، من خلال الادعاء بأنّها حركة دعوية وإصلاحية، لا تنتهج العنف والتدمير؛ بيد أنّ نشاطها وممارساتها العنيفة ذات الطابع الإرهابي تفند تلك الادعاءات وتكشف زيفها.

ويختتم الأكاديمي التونسي، مؤكداً أنّ خطراً حقيقياً يتمثل في حاضر ومستقبل الدولة الوطنية، وهي تواجه أزمة تنامي تلك الجماعات السلفية التكفيرية، التي "نشطت في مجتمع يبدو أنّ له قابلية للتطرف، وذلك في ظل قدرتهم على حشد آلاف التونسيين من الشباب، وهو ما أثبتته إحصائيات وزارة الداخلية التونسية، التي تكشف يومياً عن عشرات الخلايا الإرهابية، فضلاً عن المجموعات التي تمكنت مؤسسات الدولة المعنية من حظر سفرها، للاشتباه في رغبتهم بالانخراط في جبهات الصراع".

اقرأ أيضاً: كيف وصلت السلفية المتشددة إلى تونس؟

وعلى خلفية ذلك يؤكد الحناشي أنّ كتابه حول السلفية التكفيرية في تونس، يأتي في إطار التشديد على "ضرورة التحرك نحو البحث عن الأسباب والعوامل الداخلية المركبة، التي ساعدت وتحكمت في هذا الحضور والتمدد لتلك المجموعات والتيارات".

ومن جانبه، يشير العميد المختار بن نصر، المتحدث الرسمي السابق باسم وزارة الدفاع التونسية، إلى أنّ خطر التنظيمات السلفية التكفيرية، يتبلور في دعوتهم وحركتهم نحو تغيير أنظمة الحكم القائمة عن طريق العنف، كما أنّ تلك التنظيمات استطاعت بعد العام 2011، أن تندس في الفضاء التونسي، من خلال الجمعيات وأن تخترق الأجهزة الأمنية، كما يكشف الرئيس السابق للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، أنّ التنظيمات السلفية التكفيرية، انسلخت نحو اتجاهين بعد المرحلة الأفغانية؛ منها ما يدعو لعولمة الجهاد، ومنها من يدعو إلى الجهاد القُطري. 

الحناشي: إنّ خطراً حقيقياً يتمثل في حاضر ومستقبل الدولة الوطنية وهي تواجه أزمة تنامي تلك الجماعات السلفية التكفيرية

ويثمن العميد المختار في تصريحه لـ"حفريات"، ما أشار إليه كتاب أستاذ التاريخ بجامعة منوبة، بخصوص الحديث عن أعداد المقاتلين التونسيين، الذين قاتلوا على دفعات، وفي فترات مختلفة؛ في العراق وسوريا وليبيا؛ إذ أشار إلى أنّ عددهم يتجاوز الآلاف، فضلاً عمن شارك في مالي والجزائر وأفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان، لافتاً إلى منع وزارة الداخلية التونسية، في العام 2012، نحو 29 ألف تونسي من مغادرة البلاد، للالتحاق ببؤر الصراع المتاخمة للأراضي التونسية.

الزيتونة ذراع ديني لتطويق الإرهاب

وحول دور المؤسسات الدينية في مواجهة التنظيمات التكفيرية والجهادية، تشير الأكاديمية التونسية، منجية النفزي السوايحي، لـ"حفريات"، إلى أنّ جامعة الزيتونة لها دور كبير في نشر صورة الإسلام الحقيقيّة، ومواجهة التيارات المتشددة والعنيفة، وتحدّد هذا الدّور في عدّة محطات: الأولى وتتمثل في المشهد التاريخي، كون التاريخ يشهد أنّ شيوخ جامعة الزيتونة وأساتذتها-قديماً وحديثاً- اشتهروا بمناصبتهم العداء للتيارات السلفية المتشددة والعنيفة، والتصدي لها بقوة، فقد رفضوا المذهب  الوهابي المتشدد، في معركة شهيرة في تاريخ تونس، وانتصروا للمذهب المالكي في المغرب العربي، وقادوا حركة إصلاح وتحديث، كان من أبرز رجالها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، والشيخ وسالم بوحاجب، وعبد العزيز الثعالبي، والطاهر الحداد، وأبو القاسم الشابي، والشيخ الخضر حسين، وكان لهم دور كبير في التحرر الوطني من المستعمر، وبناء الدولة المدنيّة، والمحطة الثانية؛ تتمثل في عدد كبير من الأساتذة الذين يدرسون بالجامعة، والذين قدموا قراءات معاصرة للقرآن وللأحاديث، وهناك أكاديميات طرحن قضايا معاصرة كالقراءات النسوية للقرآن، وحرية العقيدة، والحوار والتعايش والأنسنة؛ كالدكتورة هند شلبي، والدكتورة إقبال الغربي، والدكتورة سارة حفيز، والدكتورة منية العلمي، والدكتورة منية الغربي.

محطة ثالثة، توقفت عندها منجية النفزي، وهي برامج التدريس، مؤكّدة أنّ المواد التي يتلقاها الطلبة في جامعة الزيتونة بمعاهدها المتنوعة، تجمع بين النقل والعقل، وبين المواد الشرعية، وعلوم الوسائل كاللغات والفلسفة وعلم الاجتماع والتّعَلُّميّة، وحوار الحضارات والأديان والمناهج، ومقارنة الأديان، ما مكّن الطلاب من اكتساب فكر نقدي تنويري.

وكذلك تتبدى أهمية الندوات والمؤتمرات العلمية التي تقيمها جامعة الزيتونة، والتي تتصدى للسلفية المتشددة والعنيفة، فتقدّم المعالجة الفكرية لهذه الظاهرة، مثل: ندوة  "المرأة والإرهاب" 2016، التي نظمتها جامعة الزيتونة والمعهد العالي لأصول الدين، والندوة الدولية "الوسطيّة الدّينيّة والهويّة المغاربيّة" العام 2018، والندوة الدولية "الحوار والتعايش بين الأديان السماوية "التي نظمتها جامعة الزيتونة والمعهد العالي لأصول الدين ومدرسة الدكتوراه ومنظمة أندا-العالم العربي بالتعاون مع المنتدى الإبراهيمي بألمانيا ندوة 20 حزيران (يونيو) العام 2019 .إضافة إلى رسائل الماجستير والدكتوراه والمجلات المحكمة والمؤلفات، التي يتناول فيها الباحثون موضوعات جريئة، تساهم  في الحدّ من التّطرف العنيف.

اقرأ أيضاً: كيف وظفت السلفية الجهادية مفهوم الطاغوت في القرآن الكريم؟

ورغم كل تلك الجهود، إلا أنّ الأكاديمية التونسية تؤكد أنّ مواجهة تلك التيارات والتنظيمات التكفيرية، أمر يحتاج إلى جهود كافة مؤسسات الدولة، فضلاً عن ضرورة تمهيد السياق الاقتصادي والاجتماعي، لتطويق قدرة تلك التنظيمات على جذب عناصر جديدة إلى صفوفها، وكذلك توحيد الجهود الإقليمية والدولية ضد الإرهاب بكافة أشكاله.

الصفحة الرئيسية