من التشدُّد إلى التراخي: كيف تعمل أسعار النفط على رسم ملامح السلوك الأمريكي تجاه إيران؟

من التشدُّد إلى التراخي: كيف تعمل أسعار النفط على رسم ملامح السلوك الأمريكي تجاه إيران؟

من التشدُّد إلى التراخي: كيف تعمل أسعار النفط على رسم ملامح السلوك الأمريكي تجاه إيران؟


17/08/2023

تُشكِّلُ أسعار النفط إحدى مُحدِّدات السياسة الخارجية الأمريكية بوجه عام، نظراً للأثر الواسع الذي تتركه في الاقتصاد الأمريكي. ولكنْ عندما يتعلّق الأمر بالانتخابات فإنّ أسعار النفط تُصبحُ "هاجساً" لدى صانع القرار الأمريكي، ويتزايدُ تأثيرها في سلوكه مع تزايُد الحاجة إلى دعم الرأي العام، سواء أكان ذلك بهدف اكتساب الأغلبية، أو الحفاظ عليها.

انتشار فكرة التصدي لـ "أوبك"، و"أوبك بلس"

نتيجةً لارتفاع أسعار النفط المتكرّر على مدار السنوات الماضية، انشغلت مراكز صنع القرار الأمريكي بالبحث عن طرقٍ لخفض الأسعار. وكان من بين أبرز المقترحات: الضغط على مُنتجي النفط لزيادة الإنتاج، والعمل على رفع إنتاج النفط الصخري، واللجوء إلى الاحتياطي الاستراتيجي من خام النفط الأمريكي. 

ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية اختبرت هذه الحلول جميعاً خلال العامين الماضيين، إذ تُظهِرُ المعطيات ارتفاعاً مُطرداً في إنتاج النفط الصخري الأمريكي منذ مطلع 2021. كما لجأت الإدارة الأمريكية أكثر من مرّة إلى استخدام ذخائرها الاستراتيجية من خام النفط، ومارست مختلف أشكال الضغوط على أعضاء "أوبك"، و"أوبك بلس" في محاولةٍ لضبط الأسعار، ومواجهة قرارات خفض الإنتاج، أو المطالبة بزيادة أكبر. وتتّهم الإدارة الأمريكية "أوبك بلس" بالوقوف خلف زيادة الأسعار، ولذلك اتّجه صُنّاع القرار الأمريكي، وبعضُ مراكز التفكير في الولايات المتحدة، نحو البحث عن سبل للحدّ من سيطرة هذه المنظمات على أسواق النفط العالميّة. 

وفي هذا السياق، تؤكّد تقديرات صادرة عن بعض مراكز التفكير الأمريكية على التأثير الإيجابي للتصدي لـ "منظمة أوبك" و"أوبك بلس". بلْ إنّ بعض التحليلات ذهبت إلى حدّ القول بأنّ انهيار "أوبك بلس" سيؤدي إلى انخفاض أسعار النفط بما لا يقل عن 35 دولاراً للبرميل الواحد، وأنّ ذلك سيعني انخفاضاً في السعر بنسبة 45% على أقلّ تقدير. إنّ مثل هذه النظرة الأُحاديّة تتجاهلُ -ربّما بشكلٍ متعمّد- أهميّة الحفاظ على توازن السوق، والدّور الإيجابي لهذه المنظمات في إدامة استقرار الأسواق العالميّة عبر الالتزام بحصص الإنتاج، أو رفعها، وخفضها عند اللزوم.

على المستوى الرّسميّ، ظهرت بوادر الرّغبة الأمريكية بالتصدي لـ "منظمة أوبك" و"أوبك بلس"، من خلال محاولات بعض المُشرعين الأمريكيين إقرار قانونٍ لإزالة الحصانة عن الدول المصدرة للنفط، بهدف زيادة الضغط، ورفع الإنتاج العالمي، وخفض الأسعار. وأفادت تقارير بأنّ مجلس الشيوخ الأمريكي تحرك في أبريل 2022 نحو إقرار قانون نوبك (NOPEC) بهدف التصدي لإجراءات "أوبك"، و"أوبك بلس" في التحكم بأسعار النفط العالمية. وكان مشروع قرار نوبك (NOPEC) قد طُرح في الأعوام السابقة، لكنّه لم ينل دعماً من المشرعين الأمريكيين؛ إذ لم يتجاوز عدد داعميه 11 مُشرِّعاً في عام 2007. أما اليوم، فإن تزايُد تأثير "أوبك"، و"أوبك بلس" في أسعار النفط العالمية، أعاد هذا المشروع إلى السطح، خاصةً بعد بروز دور "أوبك بلس" وتأثيرها بشكلٍ لافتٍ في الأعوام الأخيرة. وكانت "أوبك بلس" تأسست عام 2017 بعد تجربة انهيارات مريرة في أسعار النفط، نتيجة انفلات الإنتاج، وأثبتت فاعليّةً في ضبط السوق.

وتُؤكّد تقارير أنّ التصدي لـ "أوبك بلس" من خلال قانون داخلي أمريكي، يُعدُّ أمراً مُسْتعصياً. لكنّ صُنّاع القرار الأمريكي ظلّوا مهتمّين بإيجاد طرقٍ بديلة للتصدي لارتفاع أسعار النفط على مدى الأعوام الماضية. خصوصاً بعد قرارات "أوبك بلس" بخفض الإمدادات. وكان من أهم هذه الطرق على الصعيد الداخلي: اللجوء إلى النفط الصخري، واستخدام الاحتياطي الاستراتيجي، واللجوء إلى النفط الكندي. أما على الصعيد الدولي، فتمثّلت بتغيير التعامل الأمريكي مع ملف العقوبات على القطاع النفطي الإيراني تبعاً لتطورات أسعار النفط، حيث تُشير البيانات إلى أنّ الإدارة الأمريكية تعاملت مع ملف العقوبات المفروضة على قطاع النفط الإيراني استناداً إلى هاجس أسعار النفط، أو على الأقل شغلَ هذا الهاجس مساحةً كبيرةً، ضمن الدوافع التي شكّلت ملامح السلوك الأمريكي حيال العقوبات النفطية الإيرانية.

العقوبات تحت تأثير مخاوف ارتفاع الأسعار 

تكشفُ بعض المحطّات تأثيرَ هاجس ارتفاع أسعار النفط في التعامل الأمريكي مع العقوبات النفطية بشكل أوضح. وعلى سبيل المثال، تحركت دول "أوبك بلس" في أكتوبر 2022، نحو خفض إنتاجها بنحو 2.5 مليون برميل لتعزيز أسعار النفط العالمية. وبالتزامن مع هذه الخطوة، أبدت الإدارة الأمريكية تساهُلاً في تطبيق العقوبات على صادرات النفط الإيرانية، بحيث أدّى هذا التساهُل الأمريكي إلى ارتفاع صادرات النفط الإيرانية بنحو 300 ألف برميل يوميّاً، مقارنةً بصادرات سبتمبر 2022. ومرةً أخرى، في مايو 2023، تساهلت الإدارة الأمريكية في تطبيق العقوبات النفطية على إيران، وكان ذلك بالتزامن مع قرار "أوبك بلس" خفض الإنتاج بنحو مليون برميل. وأدّى هذا التساهُل الأمريكي إلى ارتفاع صادرات النفط الإيرانية بنحو 550 ألف برميل مقارنة بشتاء 2023.

وكانت الإدارة الأمريكية في بداية 2022، قد أبدت انفتاحاً حيال المطالبات الإيرانية المتعلقة بالملف النووي، بحيث جرى تداول أنباء حول عودة وشيكة إلى الاتفاق النووي. وأسهمت هذه الأنباء في انخفاض أسعار النفط بشكل واضح. وفي أبريل ومايو 2022، أبدى الاتحاد الأوروبي انفتاحاً على إيران من خلال مقترح يقضي بمنح المزيد من الامتيازات لإيران مقابل عودتها إلى الاتفاق النووي، وهو ما رحبت به الإدارة الأمريكية، وترك أثراً واضحاً في خفض أسعار النفط. ومرّةً أخرى، كان من اللافت أنّ هذا الانفتاح جاء مباشرةً بعد قرار "أوبك بلس" الذي خيّب آمال المجموعة الغربية، كونه أقرّ زيادةً في الإنتاج، كانت أدنى بكثير من توقعاتها.  

من خلال تلك المحطات، يمكن ملاحظة نوع من العلاقة بين خشية صانع القرار الأمريكي من ارتفاع أسعار النفط ورغبته بمواجهة "أوبك بلس" من جهة، وطبيعة التعامل الأمريكي مع العقوبات المفروضة على القطاع النفطي الإيراني من جهة أخرى؛ إذ يبدو أن مخاوف صانع القرار الأمريكي من ارتفاع أسعار النفط، دفعته إلى التراخي في تطبيق العقوبات النفطية على إيران في أكثر من مرحلة خلال العامين الماضيين. وهو ما سمح لإيران ببيع المزيد من شحنات النفط، من دون أن تضطرّ إلى العودة إلى الاتفاق النووي، أو التوصل إلى أي اتفاق بديل.

ويبدو أن "هاجس النفط" عمل على ترجيحِ توجُّهاتٍ، على حساب توجُّهات أُخرى، داخل الإدارة الأمريكية؛ إذْ دعم موقف "حمائم الإدارة" الذين فضلوا التعامل مع إيران (ومع بلدان أخرى من ضمنها فنزويلا) بتساهلٍ أكبر، على حساب موقف "الصقور" الذين يفضلون التعامل مع الملف الإيراني بصرامة. ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية تحت ضغط الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، تميل نحو التشدد مع إيران، لكنّ القلق من ارتفاع أسعار النفط تعمل على تغليب خطاب "الحمائم" في التعامل مع الملف الإيراني. 

مع ذلك لا يمكن القول إنّ تأثير "هاجس النفط" بلغَ مستوىً، يمكنُ معه توقُّعُ العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، أو حتى بلورة اتفاق بديل، لكنّ رغبة صانع القرار الأمريكي (في حلته الديمقراطية) باستخدام الورقة الإيرانية للضغط على "أوبك"، و"أوبك بلس" أسهم في إضعاف أثر العقوبات، وتعزيز اتّجاه الطرفين (الأمريكي والإيراني) نحو مزيد من التأجيل لحلّ العقدة النووية. وهناك حقيقة ينبغي ألّا تغيب عن الأذهان، وهي أن أيّ حلّ للملف النووي سيتضمن رفع العقوبات، وبالتالي عودة إيران إلى حصصها النظامية في "أوبك"؛ ما سيؤدي إلى زيادة تأثير "أوبك"، و"أوبك بلس"، بينما يعمل التراخي في تطبيق العقوبات، واستمرار ظاهرة بيع النفط الإيراني في الأسواق الرمادية، على بقاء إيران ورقة ضغط في يد واشنطن في مواجهة "أوبك بلس"؛ إذ يعمل على خفض الأسعار، وإضعاف أثر قرارات "أوبك بلس".

استنتاجات

لم يكن التغاضي عن بيع "النفط الإيراني" في الأسواق الرمادية الدولية هو الآلية الوحيدة التي استخدمها الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، للضغط على أسعار النفط العالمية، ومواجهة قرارات "أوبك بلس"، لكنّه كان من بين الآليات المؤثرة. ويبدو أن "هاجس ارتفاع أسعار النفط" ترك أثراً في عمليّة القرار داخل الإدارة الأمريكية حيال الملف الإيراني، كما ترك أثراً في تحديد مصير المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني؛ إذ رجّح استمرار حالة الجمود القائمة، وتأجيل الحلول.

عن "مركز الإمارات للسياسيات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية