هل تتجه فرنسا إلى أقصى اليمين؟

هل تتجه فرنسا إلى أقصى اليمين؟


18/10/2021

ترجمة: علي نوار

"بدأت الحرب الأهلية بالفعل"، هكذا دأب إريك زمور على التأكيد في فرنسا يوماً بعد يوم، كان قبل أشهر معدودة مضت صحفياً وكاتب مقال، اكتسب شهرته من حلوله ضيفاً على كبرى القنوات التلفزيونية الفرنسية، والآن، وحتى لو لم يعلن رسمياً ترشّحه، أظهر استفتاءان أنّه سيحلّ في المركز الثالث أو الثاني بسباق الانتخابات الرئاسية المُنتظر إجراؤها، في أيار (مايو) 2020، أي أنّه يملك حظوظاً مساوية لمارين لوبان، المرشّحة التقليدية لليمين المتشدد، وفرص أقل من الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.

يتحدّث زمور بلا أية قيود، في دولة حيث الصوابية السياسية هي من المُسلّمات، ويستفيد لأقصى درجة من المساحة التي عملت مارين لوبان، بلا كلل وعلى مدار أعوام، كي تحوّلها إلى صواب أو نفي الشيطنة، كما يُقال في فرنسا، وإثبات قدرتها على أن تكون رئيسة، وخلع عباءة والدها، جان ماري لوبان، وشركاءه القدامى المعروفين بمعاداتهم للعرب واليهود وميولهم الاستعمارية.

العوامل الجيوسياسية تحتّم الخروج من حلف شمال الأطلسي "ناتو" بهدف التوقّف عن "الخضوع" للولايات المتحدة والتقارب مع روسيا برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها حالياً

وهكذا، بينما كان نجم اليمين المتشدد في دول قريبة يصعد بقوة عن طريق تحرّكات عنيفة وسافرة، ارتأت مارين لوبان انتهاج مسار مختلف، ظنّت أنّه بدأ يؤتي ثماره أخيراً، حتى رُغم النتائج السيئة التي حقّقها حزبها في الانتخابات البلدية، في حزيران (يونيو) الماضي.

إستراتيجية المواجهة

في المقابل، اعتمد زمور إستراتيجية المواجهة، وبصفته مثقّفاً وكاتباً مُلمّاً بتاريخ فرنسا وثقافتها، يعيد زمور إلى الحياة أفكاراً بالية وبشكل ملائم لفترة الأزمة الحالية. إحدى هذه الأطروحات هي أنّ "الحضارة الغربية" و"الحضارة الإسلامية" غير متوافقتين، وأنّ الثانية تنفّذ عملية "احتلال" للأولى عن طريق الهجرة. ويؤكّد الصحفي الفرنسي المخضرم؛ أنّ محصّلة ذلك ستكون "التغيير الكبير" للشعب، وهي نظرية ألّفها الكاتب الفرنسي رونو كامو، ويلتقف منه زمور هذه الفكرة ليبرز، بلا مواربة؛ أنّ "الشعب الفرنسي يتعرّض للإحلال والتبديل بشعب آخر".

يُكرّر زمور في مداخلاته: "ارتكبت النُخب الفرنسية منذ 40 عاماً جريمة مخبولة، باستقطاب ملايين وملايين المهاجرين الوافدين من حضارة عربية-إسلامية مُعادية لحضارتنا المسيحية التي ننتمي إليها منذ ألف عام والسماح بقدومهم"، ثم يُضفي بُعداً آخر على خطابه الأمني، حين يقول: "الجريمة التي نعاني منها ليست جريمة حقيقة؛ بل نوعاً من الجهاد، إنّها حرب نتعرّض لها، صراع بين الحضارات؛ سلب ونهب واغتصاب وقتل"، قبل أن يضيف: "حضارتنا على المحكّ ها هنا".

اقرأ أيضاً: هذا أحدث صدام بين الجزائر وفرنسا... ما علاقة مالي؟

إذاً؛ الأمر لا يقتصر فقط على عنصرية من مُنطلق لون البشرة أو الطبقة، بل يذهب زمور إلى أبعد من ذلك، ويستعير أفكار تيار جان ماري لوبان الذي تطوّع للذهاب إلى الجزائر كي يقاتل حين رفعت جبهة التحرير الوطني لواء النضال من أجل استقلال البلد العربي، والذي تحقّق أخيراً عام 1962، والحقيقة أنّ هذه الحرب لطالما خلقت أجواء من التوتّر، فقد استدعت الحكومة الجزائرية مؤخّراً سفيرها لدى باريس للتشاور ، على خلفية تصريحات ماكرون الذي انتقد في أكثر من مناسبة "الرواية الرسمية" التي تروّج لها الجزائر فيما يتعلّق بالاحتلال والحرب، وبالطبع يتبادر إلى الأذهان أمر واحد؛ ماكرون يسعى وراء أصوات اليمين.

الهجرة

على أنّ الهجرة تظلّ هي حجر الأساس الذي يبني حوله زمور خطابه بالكامل؛ ففي الاقتصاد، على سبيل المثال، يوضح الرجل أنّ أحد أسباب "تحويل فرنسا إلى دولة من العالم الثالث" هو "حالة العناية الإلهية المُفرطة" التي تعيش فيها بلاده، والتي كان من مظاهرها الانتقال من "التضامن على المستوى الوطني إلى نظام تضامن عالمي، نفتح مستشفياتنا والتأمين الاجتماعي خاصتنا في وجه الكل. بالتالي؛ يتأرجح فكر زمور بين "الليبرالية الداخلية والحمائية الخارجية المناقضة للعولمة، ويوجّه اتهاماته لماكرون بتجزئة فرنسا بين أوروبا وأفريقيا" عبر إغلاق الحدود والسماح بموجات الهجرة.

ويرى زمور؛ أنّ العوامل الجيوسياسية تحتّم الخروج من حلف شمال الأطلسي "ناتو" بهدف التوقّف عن "الخضوع" للولايات المتحدة والتقارب مع روسيا برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها حالياً.

ينجح اليمين المتشدد في تركيز النقاش على الملفّات التي يبرع فيها ويتمكّن من إحداث الاستقطاب المطلوب وزرع الخوف والأحقاد إلى مدى كارثي، بينما يتجنّب في الوقت ذاته التعمّق في مسائل الاقتصاد حيث يعجز عن الإقناع، والعدو الأساسي له، خلافاً لأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وإسبانيا، لا الشيوعية أو الاشتراكية أو الماركسية الثقافية أو الشعبوية؛ بل اليسار الفرنسي الذي لم يتسنّ له الوصول للحُكم منذ عقود أو تقديم بديل قوي، باستثناء جان لوك ميلينشون في الانتخابات الماضية، بينما انتهى الحال بالحزب الاشتراكي تحت قيادة فرانسوا أولاند، في الفترة بين 2012 و2017، إلى تبنّي توجّهات نيوليبرالية، أو حتى أفكار كانت تخصّ تاريخياً اليمين المتشدد، مثل نزع الجنسية الفرنسية على مزدوجي الجنسية، وشكّلوا "تهديداً ضدّ المصالح الكُبرى للبلاد".

ما يميّز زمور في المقام الأول: هو أنّه لم ينضمّ قط لحزب "الجبهة الوطنية"، بينما ما يزال اسم مارين لوبان مرتبطاً بالحزب الذي غيّر اسمه من "التجمّع الوطني"

ووفق استطلاعات الرأي؛ يأتي ميلينشون، الذي يؤكّد أنّ زمور "خطر على فرنسا"، في المركز الخامس أو السادس، قريباً من مرشّح الخضر يانيك جادوت، ومتفوّقًا على الحزب الاشتراكي وممثّلته آن هيدالجو، عمدة العاصمة باريس حالياً. وبشكل عام، يحلّ ماكرون في الصدارة، ويليه في المركز الثاني زمور أو لوبان، بينما يظهر حزب "الجمهوريون" اليميني في المركز الرابع، وكانت المرة الأخيرة التي حكم فيها فرنسا عن طريق نيكولا ساركوزي، الذي نال مؤخّراً عقوبة السجن لمدة سنة، ويرجئ الحزب اختيار مرشحه إلى كانون الأول (ديسمبر) المقبل.

ومن الواضح أنّ فرنسا تتّجه بشكل كامل نحو اليمين بعد ولاية ماكرون، التي اتّسمت بالاحتجاجات، مثل حركة "السترات الصفراء" والجائحة والحجر الصحي الممتدّ.

 ما تزال هناك سبعة أشهر متبقية قبل الانتخابات، وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى نسبة إحجام عن التصويت مرتفعة تصل إلى 48%، لكن ذلك لا يمنع أنّ المفاجآت واردة الحدوث، على أنّ التصوّر الأقرب هو جولة ثانية بين ماكرون وأحد ممثّلي قوى اليمين، على غرار ما حدث في انتخابات 2017.

اقرأ أيضاً: ما هي مسؤولية العثمانيين عن احتلال فرنسا للجزائر؟

 لكنّ المثير للتأمّل في حالة زمور؛ أنّه يعبّر عن تيارات الحرس القديم والجديد من اليمين الفرنسي الذي يقف إلى اليمين منه ما يفتح الباب أمام احتمالات وتكهّنات لا حصر لها فيما يتعلّق بالمنافسة والتحالفات مستقبلاً، ومن المتوقّع أن تؤدّي الضجة التي يثيرها زمور، مدفوعة بالهوس الإعلامي به، إلى اتجاه ماكرون بدرجة أكبر نحو اليمين، والأثر نفسه على مارين لوبان ومرشح "الجمهوريون" المُرتقب.

مقابلة لفهم ظاهرة زمور

ولفهم ظاهرة زمور السياسية، التي تختلف عن أسرة لوبان وفرص فوزه، يتحدّث خبير اليمين المتشدد، ومدير "مرصد التشدد السياسي" الفرنسي جان إيف كامو، خلال مقابلة أجرتها معه إذاعة "راديو فرنسا الدولي".

كيف يمكن تصنيف إريك زمور سياسياً؟

هناك رأيان؛ الأول: هو تصنيفه يمينياً متشدداً، نظراً إلى أنّ بعض تصريحاته وأفكاره تتماشى مع ما يقوله جان ماري لوبان، حين كان يرأس حزب "الجبهة الوطنية"، لكن حتى رغم حديث زمور عن إعادة المهاجرين غير الأوروبيين قسراً إلى بلدانهم الأصلية، أو اعتقاده بأنّ الإسلام، لا الإسلاموية، غير متوافق مع فرنسا على حدّ قوله، ما يزال من الصعب وضعه في خانة أقصى اليمين، كما أنّ زمور يرى نفسه يسير على خُطى لرئيس السابق شارل ديجول، ويؤكّد أنّه يميني فقط، وإذا نظرنا إلى استطلاعات الرأي فسنجد أنّه يخصم أصواتاً من مارين لوبان، بيد أنّه يجب الأخذ في الحُسبان كذلك أنّ ثلث الأصوات التي ذهبت إلى فرانسوا فيون، عام 2017، كمرشح لحزب المحافظين، كانت من تيار اليمين التقليدي.

بالتالي، يمكن وضع زمور في المسافة بين اليمين واليمين المتشدد، خاصّة أنّه تنقّل بين عدّة صحف، مثل: "لوكوتيديان دو باري"، و"لوفيجارو"، وهي جرائد يمينية محافظة، وليست ذات توجّهات يمينية متشددة، وحين نتعمّق في دراسة ما ينوي فعله، سنكتشف أنّ ترشّحه لا يستهدف خطف أصوات اليمين المتشدد، ومارين لوبان بل يرمي إلى تفتيت اليمين، والذي يوجد ضمنه شخصيات محافظة ليبرالية ومنفتحة وذات توجّهات أوروبية فضلاً عن ممثّلي اليمين الحادّ، ذي الميول القومية المعادية للهجرة والتعدّدية الثقافية والرافضة لوجود الإسلام.

مما سبق يتّضح أنّ زمور يملك أفكاراً تمزج بين جميع هذه التيارات والسؤال الحقيقي؛ هو كيف سيطوّر حملته الانتخابية؟ ولأيّ المعسكرين سيتجه في نهاية المطاف؟ أعتقد أنّ خطابه سيتبلور أكثر حين يعلن ترشّحه رسمياً وإن كنت أظنّ أنّه سيتّجه لمزيد من التطرّف.

ما الفارق فكرياً بين إريك زمور ومارين لوبان؟

ما يميّز زمور في المقام الأول: هو أنّه لم ينضمّ قط لحزب "الجبهة الوطنية"، بينما ما يزال اسم مارين لوبان مرتبطاً بالحزب الذي غيّر اسمه من "التجمّع الوطني" بيد أنّه ما يزال مرفوضاً من أغلب الفرنسيين.

اقرأ أيضاً: هذا ما قاله تبون عن الأزمة التونسية والليبية.. ماذا عن فرنسا وأمريكا

فارق آخر يميّز زمور عن لوبان؛ هو تركيز حملتها على المسائل الاقتصادية والاجتماعية والقوة الشرائية والبطالة والعقبات التي تواجه مهن بعينها، مثل التجّار والحرفيين. في المقابل، تستند حملة زمور إلى محورين رئيسَين؛ السيادة بمعنى العدائية تجاه الاتحاد الأوروبي، والهوية. وفيما يخصّ الثانية والإسلام، لا يتطابق ما يقوله زمور مع ما تراه لوبان؛ فالأول يعتقد أنّ الإسلام لا يتوافق مع فرنسا، بينما تقول لوبان إنّه حين يفد شخص ما من مكان آخر يجب عليه الاندماج. وقد شهدت قوائم "التجمّع الوطني" في الانتخابات البلدية والمحلّية الأخيرة التي أجريت العام الماضي في فرنسا وجود مرشّحين من أصول مغربية وأفريقية وصينية، ولم يطالب الحزب بتغييرهم أو يقل إنّ اعتناق الإسلام يتنافى مع فرنسا.

هل يُعني ذلك أنّه بوسعنا الاستنتاج أنّ زمور يقف إلى اليمين من مارين لوبان؟

يبدو ذلك، فهو يحاول ملء المساحة التي كان ليشغلها جان ماري لوبان إذا ترشّح عن "الجبهة الوطنية"، ويلعب زمور على وتر مشاعر الإحباط بين جانب من أعضاء الحزب؛ فمارين لوبان ستترشّح للمرّة الثالثة، وسبق لوالدها أن خاض الانتخابات في خمس مناسبات، نحن بصدد حزب حقّق خلال آخر 40 عاماً 10% من الأصوات، ثم 20%، وبعدها 25%، وأخيراً 33%، في انتخابات 2017، لكنه ما يزال عاجزاً عن الفوز بالرئاسة أو حتى الحُكم في أي من الأقاليم، مثلما شهدنا في انتخابات حزيران (يونيو) الماضي.

اقرأ أيضاً: إغلاق مساجد في فرنسا هل يمنع التطرف؟

ويتساءل ناخبو مارين لوبان وأعضاء "الجبهة الوطنية" في الوقت الحالي عن أسباب الفشل، ويرجع تيار الأمر إلى أنّ هناك مشكلتَين أساسيتَين: الأولى هي الاستياء من وجود مارين لوبان نفسها لوقت أطول مما ينبغي وضرورة ضخّ دماء جديدة والدفع بوجوه شابة، والثانية هي "نزع الشيطنة"، والحقيقة أنّ مارين لوبان تقود اليوم حزباً بالمقاييس المعاصرة يتمركز في خندق اليمين التقليدي، ولا مجال للمناورة أو القفز، مثلما كان يفعل جان ماري لوبان، رغم أنّ الأخير لم يجمع أكثر من 17% من الأصوات، ومن منظور حسابي بحت، فإنّ مارين لوبان جعلت "التجمّع الوطني" يحقّق طفرة، إلّا أنّه يخسر أيضاً حين يحاول تغيير موقعه.

نجح "الحاجز الوقائي الجمهوري" في الاتفاق بين الأحزاب الحاكمة المختلفة للحيلولة دون وصول اليمين المتشدد إلى الحكم من الناحية الانتخابية مع مارين لوبان وقبلها والدها؛ فهل سيتكرّر الأمر بكفاءة مع زمور؟

تشير جميع التوقّعات إلى جولة ثانية من الانتخابات وفوز إيمانويل ماكرون على مارين لوبان، وبفارق أوسع على إريك زمور، السبب هو أنّ زمور يعكس قدراً أكبر من الاستقطاب، لكنّ الأكثر إثارة هو ألّا تطلق مارين لوبان أو إريك زمور حملة انتخابية هدفها الفوز رغم تأكيدهما أنّهما سيسعيان وراء التغلّب على ماكرون، لكن الحقيقة هي أنّهما يتنافسان فيما بينهما للعبور إلى الجولة الثانية لمجابهة ماكرون.

الحاجز الوقائي سيظلّ قائماً في الجولة الثانية حول لوبان وزمور، وأنا على قناعة بذلك، لكنّ الخطر الأضخم هو أنّننا سنشهد انتخابات رئاسية "افتراضية"، أي مثلما حدث في 2017، عندما منح كثيرون أصواتهم لصالح ماكرون ليس لأنّهم يؤيّدون أفكاره؛ بل لأنّهم يرفضون وجود مارين لوبان بأيّ شكل، وهذا أمر ليس في صالح الديمقراطية على الإطلاق.

مصادر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/2YTC8GP
https://bit.ly/2YLISX0




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية