هل للعلمانية الغربية وجه متدين؟

هل للعلمانية الغربية وجه متدين؟

هل للعلمانية الغربية وجه متدين؟


21/05/2023

داليا محمد

بالنسبة إلى المتابعين من خارج بريطانيا الذين شاهدوا زعيم كنسية إنجلترا تشارلز الثالث، يتوج ملكاً جديداً للبلاد في بداية هذا الشهر في احتفال كان الطابع الديني طاغياً عليه، قد يبدو أن التدين لا يزال ملمحاً واضحاً في المجتمع، لكن تقريراً نشر في 26 أبريل (نيسان) الماضي على موقع حكومة المملكة المتحدة يشير إلى الحاجة العميقة لتحسين معرفة البريطانيين بالدين بشكل عام وحماية الدين ضمن المشهد العلماني المتوسع في البلاد.

تبين هذه المراجعة المستقلة التي تحمل عنوان "هل تتعامل الحكومة مع الله؟" التي كانت بطلب من بوريس جونسون في عام 2019، سعي الحكومة للتعامل بشكل أفضل مع مسألة الإيمان وخوفها من غياب هذا العنصر تماماً، بخاصة في ظل الإحصائيات التي تشير إلى أن أكثر من نصف السكان يعتبرون أنفسهم علمانيين ولا يؤمنون بدين معين، على عكس الدولة التي يبدو أنها ما زلت مؤمنة بأهمية الدين ودوره.

ما العلمانية؟

الجواب السريع هو فصل الدين عن الدولة، لكن بشكل أقل اختصاراً هي مبدأ ومنهج فكري ينطوي على مجموعة من الأفكار والمبادئ والمعتقدات التي تؤكد عدم إشراك الدين في أي من المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدول والفصل بين الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية عن السلطة الدينية أو الشخصيات الدينية. وترى العلمانية أن التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي وليس روحانياً وتدعو إلى إزالة أو تقليص دور الدين في الشؤون العامة.

بدأ مفهوم العلمانية بالانتشار في العصور الوسطى في أوروبا كرد فعل بعد الميل الواضح السلبي والنزعة المتطرفة لدى المتدينين نحو ازدراء الأمور الإنسانية والحاجات البشرية وإهمالها، والتوجه نحو العبادات والتفكير في الحياة الآخرة فقط. جاءت العلمانية كنوع من النفور من الغيبيات والاقتراب من التفكير بالأمور الدنيوية في العالم الذي نعيشه.

كذلك كانت العلمانية نتيجة صراع مرير بين الكنيسة ورجال الدين فيها وبين عامة الناس في أوروبا، بعد أن صار رجال الدين طغاة يمارسون السياسة باحتراف أكثر من أهلها ومستبدين مختبئين تحت عباءة الدين، وانحطت أخلاقهم وأعماهم الطمع والجشع، حيث راحوا يبيعون المناصب في الدنيا والجنة في الآخرة بصكوك الغفران، إلى جانب دخول الكنسية في نزاع شرس وطويل مع الملوك والأباطرة على السلطة والنفوذ.

الدولة العلمانية

الدولة العلمانية هي بلد أو دولة ذات نظام حكم علماني، وتضمن بشكل رسمي أن تنتهج الحياد تجاه القضايا المتعلقة بالدين، كما أنها تعامل جميع مواطنيها بمساواة بغض النظر عن انتماءاتهم أو معتقداتهم أو أفكارهم الدينية. وسياسياً، تتبع الدولة فصل الدين عن حكمها حيث لا تستند مبادئها إلى تعاليم كنسية أو مسجد أو كنيس أو معبد. وتفرض الالتزام بهذا الفصل في تشريع القوانين المدنية وفي سلطتها القضائية.

من هنا تكونت النظرة التي ترى أن العلمانية أداة مساعدة للديمقراطية، حيث تحمي حقوق الأقليات الدينية وتساوي بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم. على كل حال، لا تقتصر المساواة على الدول ذات الحكم العلماني، إذ قد تكون الدولة غير علمانية لكن يرد في دستورها أن المواطنين متساوون بغض النظر عن عقائدهم.

هناك بعض الدول تنص دساتيرها بشكل صريح على هويتها العلمانية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند وكندا وتركيا، ودول أخرى لا تذكر العلمانية في دساتيرها ولكنها لم تحدد ديناً للدولة، وتنص قوانينها على المساواة بين جميع المواطنين وعدم تفضيل أحد الأديان على الأخرى والسماح بحرية ممارسة المعتقد والشرائع الدينية وتغيير الدين، بما في ذلك التحول إلى الإلحاد أو استحداث أديان جديدة بطريقة تصون حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وعلى هذا النحو تعتبر دولاً علمانية بالمضمون. وهناك دول تنص دساتيرها على دين معين للدولة مثل اليونان ومالطا وموناكو ومصر والإمارات العربية المتحدة، غير أن دساتيرها تشمل مبادئ علمانية عامة، مثل المساواة بين جميع مواطنيها وكفالة الحريات العامة، مع تقييد لهذه الحريات تختلف درجته بحسب الدولة ذاتها.

العلمانية ابنة المسيحية

رغم أن العلمانية تبدو في ظاهرها ثورة على الدين، فإن هناك مفكرين يرون أن الفكر العلماني يعتمد وبشكل مكثف على المنطلقات والمعتقدات المسيحية وأن ما يسمى المبادئ الليبرالية والأخلاقيات الغربية الحديثة ما هي سوى إرث مسيحي. يرى الباحث الكندي غرايم سميث في كتابه "تاريخ موجز للعلمانية" أن العلمانية ليست نهاية للمسيحية ولا دليلاً على إلحاد الغرب وإنما صورة أكثر حداثة للديانة المسيحية وتمثل أخلاقيات ومبادئ المسيحية لكن من دون طقوسها الدينية، وأنها نموذج أكثر معاصرة من الدين فرضته روح العصر. ويؤكد أن المجتمعات العلمانية عندما تحاول الالتزام بالأخلاقية، تبقى معتمدة على الأفكار والمصادر المسيحية التي لا يمكن فصلها عن جوهر المجتمع الغربي حتى بعد اعتناقه العلمانية.

يقول الباحث والكاتب جون غراي صاحب كتابي "اختراع الله" و"سبعة أنواع للإلحاد"، إن الغرب الليبرالي الحديث هو من صنع الديانة المسيحية ويؤكد في يومنا هذا على عالمية قيمه حتى ولو كان يرفض العقيدة التي ألهمته. ويؤكد أن المسيحية ليست بحاجة إلى مسيحيين مؤمنين حتى تستمر مبادئها بالازدهار، إذ إن عناصرها مستمرة في حياة الناس والقواعد التي تحكمها، ويشبهها بذرات الغبار التي لا يراها أحد بالعين المجردة ولكن الجميع يستنشقونها بالتساوي: مؤمنين وملحدين وحائرين، وحتى أولئك الليبراليون العلمانيون الذين يتعاملون مع المسيحية وكأنها قصة خيالية، إلا أن قيمهم ونظرتهم للتاريخ تظل مسيحية في الأساس.

يقودونا هذا إلى أهمية التوضيح الذي أورده الدكتور عادل ضاهر في كتابته "الأسس الفلسفية للعلمانية" حيث يفرق ما بين العلمانية التي تعتبر المعرفة العلمية، المتمثلة في العلوم الطبيعية بشكل خاص، نموذجاً لكل أنواع المعرفة، وبين العلمانية وهي نهج فلسفي يحدد موقف الإنسان والقيم والدين ويؤكد استقلالية العقل الإنساني وموقفه من المعرفة العملية وعلاقتها بالمعرفة الدينية. ويوضح أن المعرفة الأخلاقية، حالها حال المعرفة العلمية، ليست مرتبطة بالمعرفة الدينية وأنها وليدة ظروف وعوامل معينة ولا تحتاج بالعموم إلى معرفة لاهوتية أو روحانية.

علمانية صورية

لا يزال النقاش في الدول التي تصنف نفسها علمانية بشكل رسمي، يدور حول مدى التزامها بفصل الدين عن الدولة. في فرنسا مثلاً، لم يتوقف الجدل حول العطل الرسمية المرتبطة غالبيتها بالأعياد الكاثوليكية، وتمويل المدارس الدينية الذي يأتي من أموال دافعي الضرائب من مختلف المعتقدات وتقييد الحريات الدينية (ارتداء الحجاب والنقاب وزي السباحة المحتشم). وفي الهند، يرى كثيرون أن هناك تناقضاً بين علمانيتها الظاهرة والإعانات المالية التي تقدم سنوياً إلى الحجاج المسلمين.

وشعار الولايات المتحدة الأميركية "بالله نؤمن" In God we Trust الذي تتبناه منذ عام 1956 يقول الكثير عن عدم قدرتها على فصل المعتقد عن الدولة.

وهناك انتقادات شديدة موجهة إلى الحكومة في كل من أستراليا وسويسرا اللتين تمولان المدارس الدينية التي تهيئ رجال الدين الجدد وتشجعان على الصلاة المسيحية في المدارس الحكومية، إلى جانب اتهامات بتقييد الحريات الدينية وممارسة الشعائر الدينية غير المسيحية والتمييز بين معتنقي الأديان المختلفة (مثل المزاعم بعدم بذل الحكومة الأسترالية جهوداً كافية لمواجهة جماعة "مكافحة انتشار الإسلام").

تشريعات مستقاة من المسيحية

مع هذا، نرى في دول تحكمها، نظرياً، أنظمة علمانية أن المتدينين عندما يصلون إلى السلطة يتخذون قرارات مستقاة من الدين أو تتماشى مع مبادئه. يجادل بعض المسيحيين المؤيدين لحمل السلاح في أميركا بأن الكتاب المقدس يدعم مزاعمهم، معتمدين على آية من سفر لوقا يقول فيها يسوع: "... من ليس له سيف فليبع ثوبه ويشتر سيفاً" (لوقا 22: 36). ويعود كثيرون من مؤيدي الحياة، كما في مالطا التي تجرم الإجهاض، إلى الإنجيل لتبرير رفضهم الإجهاض الطوعي قائلين إنه ليس خياراً بحسب الكتاب المقدس الذي ورد فيه: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (إرميا 1: 5). ويشيرون إلى أن الرب يأمر في سفر الخروج (21: 22-25) بالعقوبة نفسها، أي الموت، لمن يتسبب في موت طفل في الرحم مثل عقوبة الشخص الذي يرتكب جريمة قتل. لذلك، يعتبر الله في رأيهم أن الطفل في الرحم إنسان مكتمل الخلق.

كما أن أكثر آيات الكتاب المقدس المقتبسة شيوعاً في دحض واستنكار المثلية الجنسية هي "ولا تضاجع ذكراً مضاجعة امرأة. إنه رجس" (لاويين 22:18) و"لا يكن متاع رجل على امرأة، ولا يلبس رجل ثوب امرأة، لأن كل من يعمل ذلك مكروه لدى الرب إلهك" (تثنية 5:22)، اللتان تنصان على أنه من المقيت أن يمارس الرجل الجنس مع رجل آخر كما يفعل مع امرأة.

تراجع الدين، الشائع في جميع أنحاء العالم المتقدم وغير المتقدم، الذي أصبح واضحاً الآن حتى في الولايات المتحدة، ليس من قبيل الصدفة وليس نتيجة جهود الملحدين الملتزمين، بل نتيجة عرضية لسلسلة من التغييرات الاجتماعية الدقيقة على امتداد فترة زمنية طويلة، مثل زيادة التنوع الديني وفقدان الدين دوره الاجتماعي وتوفر وسائل أخرى لحل المشكلات والخلافات بين أبناء الدين الواحد أو المنتمين إلى معتقدات مختلفة. يغير هذا التحديث مكانة الدين وطبيعته بطرق تضعفه وتجعل من الصعب تمريره بنجاح من جيل إلى جيل، إلا إذا اعتبر مظهراً تقليدياً ينتقل مع التيجان من ملك إلى آخر.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية