هل نحن أمام عودة الديني أم استغلال الدين في أغراض السياسة؟

هل نحن أمام عودة الديني أم استغلال الدين في أغراض السياسة؟

هل نحن أمام عودة الديني أم استغلال الدين في أغراض السياسة؟


12/03/2024

مايزال كتاب المفكر اللبناني جورج قرم "المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين" الصادر عن دار الفارابي في بيروت العام 2007 بترجمة أحمد خليل أحمد، كتاباً مثيراً للجدل في مخالفته للكثير من الآراء والتحليلات الغربية والعربية الحديثة التي تصدت لبحث الظاهرة الدينية و"عودة الدين" وتفشي ظاهرة الأصولية الدينية، وتنظيماتها المتطرفة في الغرب والشرق على السواء.

الدين ما يزال حاجة وجودية للبشر ولم يختفِ من حياتهم يوماً ومن اجتماعياتهم وحتى صراعاتهم السياسية

يسعى الكاتب، كما يقول، للقطع مع الأطروحات السياسية التي تعمل على حصر الظاهرة الأصولية في الدين الإسلامي بنوع من "الامتثالية الثقافية" للثقافة التسلطية الأمريكية المهيمنة، والتي تحاول فرض رؤية أحادية للعالم تستبعد كل حس انتقادي وتبرر هيمنة القوة والاقتصاد النيوليبرالي تحت مسميات مختلفة من نوع: "صراع الحضارات" أو "نهاية التاريخ" أو الحرب على الإرهاب"، التي تختصر الحضارة في الدين وتحصر دوائر الصراع بين الغرب الديمقراطي الحديث بمعنى، المسيحي- اليهودي المنفتح والليبرالي، و"قوى الشر" التي أصبحت واقعة في العالم الإسلامي المتخلف والمنغلق في منظور المحافظين الجدد بعد سقوط "إمبراطورية الشر" التي كانت متمثلة بالتهديد الشيوعي السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية سابقاً،  والذهاب نحو معالجة موضوعية للمسألة الدينية من خلال الحفر الأركيولوجي في أسباب الظاهرة الدينية ومفاعيلها وآفاقها، وربطها بأزمة الحداثة ومآلاتها من جهة، وبانتشار الظاهرة التوتاليتارية في أنظمة ما بعد الاستقلال في الدول العربية والإسلامية وفشل مشروعات التنمية فيها من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: العلمانية أم الإسلامية؟ عن الآفاق المثقوبة للإصلاح العربي

غلاف الكتاب
كل ذلك عبر "إعادة النظر النقدية في تاريخنا المعقد بكل ما يتوافر لنا اليوم من أساليب العلم وغنى المقاربات التاريخية بين تطورنا الحديث المشوه وبين  تطور المجتمعات التي استطاعت الإفلات من الهيمنة الغربية"، ووعي الدور المركزي الذي تلعبه دوائر القرار الغربية والسياسة الخارجية الأمريكية في تظهير الصراعات الدينية ورعايتها وتأجيجها، من خلال استخدامها السافر للدين في السياسة الداخلية والخارجية، وتوسّل عودة الدينيّ لإضفاء الشرعية على النظام الجيوبوليتيكي الجديد المقام بعد انهيار الثنائية القطبية للعالم "وإلباس مطامعها الاستعمارية الدنيوية رداءً من الأيديولوجيا الدينية الحادة"؛ أيديولوجيا أشد خبثاً وإيذاءً لأنّها لا تعمل إلا بمقتضى الإرهاب الفكري الذي ينتجه الادعاء بالمقدس والاستعانة به  في زمن الحديث عن نهاية الأيديولوجيات الكبرى التي جرى الإعلان عن موتها.

اقرأ أيضاً: هل علينا إعادة التفكير في مفهوم العلمانية عربياً؟

المفكر اللبناني جورج قرم
الدين ما يزال حاجة وجودية للإنسان، ولم يختفِ من حياة البشر يوماً ومن اجتماعياتهم وحتى صراعاتهم السياسية في جميع المجتمعات والدول، بما فيها الدول الغربية الأكثر علمانية، وما نشهده اليوم حسب ما يرى قرم هو عودة استغلال الدين والاستعانة بقوة الدين وتوظيفه في المشاريع السياسية والاقتصادية والسلطوية الساعية لاكتساب مشروعيتها المفقودة من الدين محلياً وعالمياً، وتحويل الدين إلى أيديولوجيا في مواجهة الفلسفة الإنسانوية وتقويض الفكر التحرري  والعلماني للثورة الفرنسية المنبثقة من عصر الأنوار، والمتهمة اليوم بالفشل في تحقيق عالم أكثر إسعاداً ورفاهاً للبشر من قبل  السياسي الخالي من المثل الذي تسلط كلياً على العالم وراح يوظف كل شيء للوصول إلى أهدافه بما فيها الدين، وليس "عودة الدين" الذي لم يكن غائباً أصلاً.

ما نشهده اليوم عودة استغلال الدين وتوظيفه في المشاريع السياسية والاقتصادية والسلطوية الساعية لاكتساب مشروعيتها المفقودة

في محاولة البرهان على إجابته عن سؤاله المركزي الذي يتمحور حوله الكتاب:هل نحن أمام "عودة الدين" أم استغلال الدين وتوظيفه في السياسة؟ يذهب جورج قرم في إسهاب تفصيلي طويل على مدار ستة فصول متداخلة ومتراكبة يتقنه شخص متبحر في التاريخ الأوروبي بشكل خاص، والتاريخ السياسي العالمي والعربي بشكل عام، في ما يسميه "رحلة مُغامرة في كشف وتحليل المواد التي صُنعت منها الديكورات الجديدة للعالم الذي علينا العيش فيه"، يستعرض خلالها وعلى طريقة العود على بدء المربكة للقارئ في أحيان كثيرة، جملة من الأحداث التاريخية القريبة والبعيدة زمنياً، وما رافقها من التمظهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والدينية التي ساهمت في تشكيل ديكورات العالم الجديد الذي بدأت ترتسم ملامحه بعد انهيار الثنائية القطبية للجيوبولتيكا العالمية والتفرد الأمريكي بالهيمنة على العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وفكرياً وإعلامياً، عالماً يحضر فيه "الدين" حضوراً طاغياً من خلال جملة من الدلالات والأحداث التي يبدو من خلالها وكأنّ (الهوية الدينية تريد أن تحتوي كل شيء) وتشي ولو ظاهرياً على الأقل بعودة الدينيّ إلى واجهة المشهد السياسي المحلي والعالمي،  وتعبر عن نفسها بجملة من المآسي الناتجة من تشظي بلدان تعايش الأديان بفعل الحروب الدينية والطائفية منذ الربع الأخير للقرن المنصرم، كالحرب الأهلية اللبنانية  (1975-1990) وآثارها المدمرة، والبوسنة والهرسك في يوغسلافيا المتلاشية، والحروب الدينية في الشيشان أو في  سريلانكا قبلها، ثم مأساة أفغانستان مع طالبان، ومأساة العراق المتحول إلى سنة وشيعة وكرد بعد الغزو الأمريكي، ومجازر الجزائر العام 1990، وصورة بن لادن الدائمة الحضور، ومآسٍ أخرى في إفريقيا، لا تقل بشاعة عن غيرها.

الإجابة على الكثير من الأسئلة تكمن في انتعاش حركة الإنجيليين والمحافظين الجدد التي تسعى إلى توظيف الدين

إضافة إلى ما رافق هذه الأحداث من سيطرة للمواضيع الدينية على إعلام العديد من الدول الذي بات يتمحور حول قضايا إسلامية تسترعي اهتمام الكثيرين وتشد انتباههم، أو يراد لها أن تشد انتباههم مثل: قضايا الإرهاب وحجاب المرأة، والقضايا المتعلقة بإسرائيل كالصهيونية ومعاداة السامية، وأخرى لها علاقة بالمسيحية كالتغطية الإعلامية الكثيفة لتنقلات البابا يوحنا بولص الثاني ثم لمأتم وفاته، والحضور القوي للمراكز الدينية التوحيدية الثلاث، مكة وروما والقدس، والأصولية البروتستانتية.

 

كما لم تكن القارة الآسيوية بعيدة عن هذا المد الديني الجارف، وترافق كل ذلك بنشاط فكري غربي محموم ومكثف لنخبة من المفكرين الغربيين يقوم على النقد الجذري للحداثة وتراث فلسفة الأنوار والثورة الفرنسية، وتحميلها كامل المسؤولية عن موجات العنف الدموي التي شهدتها أوروبا منذ السنوات الدامية التي أعقبت الثورة الفرنسية باعتبار أنّها مهّدت لنشوء الأيديولوجيات القومية الثورية وقيام الأنظمة القمعية الشمولية، وضيعت المعنى من الوجود بفصل الفرد عن هويته الجوهرانية؛ أي هويته "الدينية الأصلية"، وأوقعت العالم في أتون حربين عالميتين تخللهما الكثير من أعمال العنف والإبادة، كـ"الهولوكوست" التي صار الخطاب السياسي والإعلامي يسترجعها باهتمام مبالغ فيه ويوظفها بغاية إدانة الحداثة والثورة الفرنسية وتحميلها مسؤولية الفشل التاريخي للتمهيد إلى "نهاية التاريخ" وليس بغاية المراجعة والتكفير عن أخطاء التاريخ.

 

يسعى الكاتب للقطع مع الأطروحات السياسية التي تعمل على حصر الظاهرة الأصولية في الدين الإسلامي

ويتساءل قرم: كيف جرى كل ذلك بتلك الطريقة الدراماتيكية المذهلة، وفي زمن قصير لا يتعدى الثلاثين عاماً؟ وكيف تحولت توصيفات الناس إلى توصيفات دينية محضة بحيث أصبحوا مسلمين (شيعة وسنة) ومسيحيين (كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت) ويهوداً وهندوساً وبوذيين، بعد أن كانت قبل ثلاثين سنة فقط تتمحور حول الانتماء الأيديولوجي، بين ليبرالي واشتراكي وشيوعي وقومي؟ وكيف تلاشت الديكورات القديمة "العلمانية" التي حكمت رؤيتنا للعالم، لتحل محلها كل هذه الديكورات "الدينية"؟ وهل يعبر هذا الحضور الديني عن تقدم حاصل في العقيدة وفهم الدين، أم أنّه لا يتعدى التوسع في القراءة الحرفية للنصوص الدينية في الكتب المقدسة  والكراريس الوعظية المطبوعة بسخاء حولها في الديانات السماوية الثلاث؟ وما معنى ودلالة أن ينتشر التدين والتبشير بين العائلات الغنية في الدول النفطية وأماكن تصنيع النفط والإعلام والسينما كما في كاليفورنيا حيث وجود "استديوهات هوليوود ومراكز صناعة الإعلام" بدلاً من مجتمعات الفقر في أمريكا اللاتينية أو مثيلاتها في الدول العربية وغيرها، حيث من المفترض أن يحضر الله دوماً لمواساة المحرومين؟

 

سيجد جورج قرم الإجابة على الكثير من هذه الأسئلة في انتعاش حركة الإنجيليين والمحافظين الجدد التي تسعى إلى توظيف الدين والاستعانة به في ترويج أيديولوجيتها السياسية تحت شعار "مكافحة الإرهاب" أو "الحرب على الإرهاب" والترويج لثقافة العولمة والاقتصاد الحر بمقولة "صراع الحضارات" التي صارت تُقابل بمقولة "حوار الحضارات" التي تمتح من نفس الجذر الديني والتمايزي، في محاولة للخروج من أزمة الهوية التي يعيشها الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بإيجاد شرعية لهوية حضارية غربية ذات أصول يهودية -مسيحية، والتخلص من الفكر التحرري النهضوي الحداثي والعلماني والإنساني الضارب في فلسفة الأنوار وقيم الثورة الفرنسية ومفاهيم المواطنة العالمية وحقوق الإنسان. 

 

كيف تلاشت الديكورات القديمة "العلمانية" التي حكمت رؤيتنا للعالم لتحل محلها كل هذه الديكورات "الدينية"؟

يجدد قرم رحلته في سرد التاريخ المنسي، أو المتجاهَل عمداً من قبل المنظرين للعولمة الأمريكية و"عودة الدين"، تاريخ "الأنماط الأولية لأشكال العنف"، تاريخ الحروب الدينية ومحاكم التفتيش وقمع الهرطقات، والمذابح والحروب الدينية التي قامت في أوروبا التي لم تشهد مثلها أي بقعة جغرافية أخرى من العالم، تاريخ الثورات الدينية وانشقاق الكنيسة الذي قاد في الآخر إلى الإصلاح الديني والعلمنة والتسامح، فيؤكد قرم من خلال ذلك أنّه وفي كل مرة تم فيها استغلال الدين في السياسة حدثت حروب وأهوال وأعمال عنف. وأنّ أزمة الحداثة لا يمكن حلها باللجوء إلى الدين، واستدعاء الهويات الدينية وفتح جروح التاريخ، ولعل قرم في استعراضه لتاريخ العنف والحروب الدينية في أوروبا يرسم جملة مقارنة لقياس ما تشهده المجتمعات العربية التي تتشظى اليوم بفعل توتراتها الداخلية وأزماتها البنيوية المزمنة، وانتشار العنف الناتج من توظيف الدين في السياسة سواء من قبل الأنظمة السلطوية القائمة بغاية كسب الشرعية السياسية المفتقدة، أو من قبل التنظيمات الأصولية الإسلامية الواقعة في فلك السياسة الخارجية الأمريكية ومراكزها الاستخبارية التي ترعى نشاطها وتوجهه وتستثمره من حيث تدري أو لا تدري. 

 

 

يذهب جورج قرم في ختام كتابه على خطى فيلسوف التنوير كانط  في النظر العقلي في أزمة الحداثة وأزمة الدين بالعودة إلى فكر التنوير بما يوفره من حيوية نقدية، وبالدعوة لميثاق علماني عالمي يعيد الاعتبار للتراث الجمهوري الفرنسي الذي ينظر إلى الإنسان كإنسان يستطيع التكيف والتواصل مع أقرانه دون أن يكون مأسوراً بهوية جوهرانية، ويقيم مجتمع الإنسان ودولة المواطنة المطورة عن أثينا بحيث لا تستثني أحداً من مواطنيها الأصليين أو الوافدين، ولا تميز بينهم بالجنس أو العرق أو اللون. 

اقرأ أيضاً: علمانيون ضد الديمقراطية... ديمقراطيون ضد العلمانية
كما يدعو لقيام ما يسميه "تحالفاً جمهورياً عالمياً"، يضم كل من يؤمن بقيم الإنسانوية العالمية التي لا تتناقض مع التوحيد الديني، ولا تتناقض مع مبادئ تحرير الشعوب التواقة إلى الحرية والتحرر من كل أنواع الظلم والقهر، كما ترفض استغلال حاجة الإنسان للدين في الصراع على السلطة داخل كل مجتمع أو ما بين المجتمعات، ومساواة البشر في الحقوق في ظل أنظمة سياسية عادلة سواء أكانت ملكية أم جمهورية، وضمن مجتمع دولي يطبق المبادئ الجمهورية دون معايير مزدوجة، وبدون تطويع منظمة الأمم المتحدة واستخدامها في مشاريع الهيمنة على العالم الذي تقوده الولايات المتحدة نحو "إمبراطورية الفوضى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية