العلمانية أم الإسلامية؟ عن الآفاق المثقوبة للإصلاح العربي

العلمانية أم الإسلامية؟ عن الآفاق المثقوبة للإصلاح العربي

العلمانية أم الإسلامية؟ عن الآفاق المثقوبة للإصلاح العربي


12/10/2023

لعلّ من الجائز أن نقول إنّ مسألة الدولة وعلاقتها بالإسلام هي المسألة الأساس التي تسيطر على المخيال العربيّ الحديث، على المستويين؛ الإسلاميّ والعلمانيّ. فمنذ ما يسمّى "النهضة العربيّة"، والمفكّرون المسلمون، بشتّى توجّهاتهم الفكريّة، يبحثون عن حلّ لإشكال السياسة الحديث. اتخذَ هذا البحث عدّة صور، منها: التوفيق بين الدولة الحديثة والإسلام، أو القول بأنّ الإسلام لم يدعُ إلى دولةٍ وهي أمر من أمور التدبير الإنسانيّ (أطروحة علي عبد الرازق)، أو عبر محاولة أخذ منتج الحداثة السياسيّة (الذي تمثّل الدولة أحد تجلّياته الأساس) وتفعيله في سياقٍ إسلاميّ (كما تحاول أن تفعل النسخة الأكثر حداثةً من الإسلامويّة المعاصرة).

 

 

وعلى الرّغم من شتّى هذه المقاربات العربيّة، فإنّ البحث العربيّ لم يتعمّق في بحث سُبل تشكّلات هذه الدولة الحديثة من جهة، وأيضاً لم يتعمّق باستكشاف التراث الإسلاميّ، بتجربته السياسيّة، على المستوى النظريّ، بل كان البحثُ متّجهاً نحو نتيجة مسبقة غير منطوقة في البحث نفسه، ألا وهي ضرورة التحديث، بإيجاد حلّ لمأزق ما سُمّي بـ "التخلّف العربيّ".

طبيعة الإصلاح المطروح، عربيّاً وإسلاميّاً، كانت مختلفة أشدّ الاختلاف عن فكرة الإصلاح السائدة في عصور التراث الإسلاميّ

إذن، تمثّل مفردة الدولة محور النقاشات الحديثة بين التيارات الأيديولوجية العربية على اختلاف توجهاتها. ليس فقط العرب والمسلمون هم من انخرطوا في سؤال الدولة؛ بل إنّ الفكر الغربي الحديث منذ منشأ الحداثة الغربية وهو فكر مهجوس بالدولة؛ لأنّ الحداثة في جوهرها كنظام سياسيّ، كما يحاجج الفيلسوف الألمانيّ ليو شتراوس، هي تخلّص من سياسات قديمة ودولة قديمة إلى سياسة ودولة جديدتين. واجه العرب والمسلمون السؤال في أفق مختلف عن مواجهة الأوروبيين لسؤال الدولة، ربما لطبيعة المرحلة التي "وعى" فيها المسلمون بسؤال الدولة، فقد كانت فترة استعماريّة خارجية من جهة، وأيضاً لاعتبار طبيعة الخلافة العثمانية آنذاك؛ حيث كانت في مراحل ضعفها الشديد، وكانت بمثابة "رجل ضعيف" أمام ولاياته في الشرق وأمام الغرب من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: تونس.. حسابات السياسة تذيب جليد العداوة بين العلمانيين والإسلاميين

ونظراً لهذين السببين، فإنّ طبيعة الإصلاح المطروح، عربيّاً وإسلاميّاً، كانت مختلفة أشدّ الاختلاف عن فكرة الإصلاح السائدة في عصور التراث الإسلاميّ. فعند تفحُّص مسألة الدولة كأساس للإصلاح الإسلامي، لا بدّ من الانتباه إلى أنّ الإصلاح الإسلامي قبل العصر الحديث لم يكن مبدأ الدولة أساساً له؛ لأنّ الدولة لم تكن هي الجهاز الكلّي الذي تتحرّك وفقه الحياة، والمعاش. فقد كان الإصلاحيون قبل العصر الحديث؛ كالغزالي وابن تيمية وابن رشد وغيرهم، لا يفكّرون في الدولة كأساس للإصلاح، إنّما كان إصلاحهم بالأساس منصباً على "إحياء علوم الدين"، وتجديد التجربة العلميّة والروحية للمسلمين. لم تكن الدولة ضمن تفكيرهم ليس فقط لأن مفهوم "الدولة" ظهر بعد ذلك، وإنما لطبيعة الاجتماع السياسي في التاريخ الإسلامي؛ فقد كانت أزمة الاستبداد السياسي بالشكل المتغوّل حديثاً كما نرى، إنّما كان استبداداً على المستوى السياسي باحتكار الإمامة، في حين أنّ المجتمع نفسه كانت له مزايحة وسُبل إفلات واسعة، ونوع من الاستقلاليّة، بمعزل عن الحكم.

اقرأ أيضاً: هل علينا إعادة التفكير في مفهوم العلمانية عربياً؟

بالطبع، لا ينبغي أن يأخذنا هذا التحليل إلى ربط ما أسماه وائل حلّاق بـ"نظام الحكم الإسلاميّ" بالمدائح، والرطانات المفهوميّة التي تنتشر في الكتابات الإسلامية الحالِمة؛ فالاستبداد السياسي جليّ ولا يخفى منذ فترة طويلة في تاريخنا، لكن الإشكال كله، أو ما أردت إيضاحه، هو طبيعة الاستبداد من ناحية، وطبيعة وعي الأفراد والجماعات بآثار هذا الاستبداد.

اقرأ أيضاً: أوهام الإصلاح الديني لدى العلمانيين

كانت دولة الخلافة ودولة الإمبراطورية عموماً في هذا الوقت، تتعامل مع المجتمع كتجمعات وكجماعات وليس كأفراد؛ فمفهوم الفرد هو مفهوم حديث، وهو مفهوم تتعامل معه الدولة الحديثة التي هي دولة تُعنَى بالفرد كذات مستقلة وليس مع جماعات. صحيح أنّ الدولة الحديثة يمكن "تطييفها" ويمكن توظيفها في خدمة مصالح طبقة ضدّ طبقة أخرى، إلا أنّه، بنيوياً، لا تقوم إلا على الفرد؛ ولذلك تعمل على أرشفة حياته ومماته، وتصنفه ضمن أرقام محددة، وتصنع له سجلاً لكل ما يقوم به. بل إنّ الفرد يُعاد نتاجه ضمن الدولة بأن تصنع له "هوية"، ويُعرف معتقده، إلخ. ولذلك فإنّ هوية الفرد في الدولة الحديثة هي هوية مصطعنة سياسياً للتحكم من جهة، ولا مناص عنها كشرط تأسيسيّ من جهة أخرى، ومن هنا ندرك الخلاف الذي يقوم دائماً بين هوية الفرد التي يعتقد أنّها تمثله وبين الهوية التي تضفيها عليه الدولة. فما تقوم به الدولة من تصنيف وتحديد وتقسيم هو في الأساس لأجل تغول السلطة وليس لأجل حرية الفرد. فكلما توزعت السلطة بشكل كبير، ازدادت الدولة في ممارسة سلطتها.

العلمانيّة أو الإسلاميّة كخلاص؟

لطالما طُرحَ سؤال العلمانيّة في العالَم العربيّ باعتباره السؤال الأساسيّ الذي يتوجّب على العرب، دولاً وأفراداً، أن يضطلعوا به، للتحرّر من أيّ ماضويّة، وللسير في ركب الدّول الحديثة على الشاكلة الأوروبيّة والأمريكيّة. ومع التشديد الدائم على أهميّة هذا السؤال، سيّما مع تصاعد الحركات الدينيّة السياسيّة في العالَم الإسلاميّ، كانت هناك لازمة أخرى مصاحبة له، ألا وهي ضرورة تحييد الدين من أجل الحفاظ على التنوّع، والتعدّد، والحفاظ عليهما.

ترك الأفق للإسلاميّة والعلمانيّة، بصيغتهما الأيديولوجيّة، هو البقاء بالفراغ لأنّها حلول مؤقّتة في أحسن الأحوال، وإساءة تدبير سياسيّ واجتماعيّ في أسوئه

هذا، لأنّ العلمانيّة عربياً فُهمت، وما تُزال تُفهَم، على أنّها فصلٌ للدين عن الدولة، وهي الصيغة التي لاقت في العقود الأخيرة تحدياً كبيراً باعتبارها اختزاليّة لا تفسّر كنه العلمانيّة، ولا طبيعة اشتغال الدولة. ورغم أنّ أغلب الأنظمة العربيّة قد رفعت شعار العلمانيّة؛ أي بمعنى الفصل الظاهريّ بين الدولة والدين، إلّا أنّه مع ذلك كانت التأكيدات الثقافيّة متواصلة في ضرورة العلمانيّة.

لا شكّ أنّ العالَم العربيّ بعد انفراط عقد الخلافة العثمانيّة، ونشوء الاتفاقيات التي تمخّض عنها وضع الحدود بين الدول، وهزيمة الاستعمار وقيام دول عالمثالثيّة تنشدُ العدالة والتحرّر قد مرّ بتحوّلات كثيرة فيما يتعلّق بالدّين؛ ففي حين تمّ استعادة الدين باعتباره سبيلاً للتقدّم، فقد نُظِرَ إليه أيضاً على أنّه في شكله السياسيّ يمثّل عائقاً أمام هذه الدول، التي تنشدُ الحفاظ على التنوع القوميّ.

 

 

لقد كان هناك، لدى معظم المثقفين العقلانيين في العالم العربيّ منذ ما يسمّى بالنهضة العربيّة، اعتقادٌ راسخٌ بأنّ العلمنة -أي فصل المجال الدينيّ عن المجالات الأخرى- هي السبيل للتقدّم، الذي نُصبت كافّة الجهود لمعرفة لماذا تأخّر عربيّاً وإسلاميّاً. فبينما كان التقدّم متأخراً، وفقاً للإسلامويين، بسبب الابتعاد عن الشريعة وقيمها، كان الأمر بالنسبة لنظرائهم العلمانيين بسبب الطبيعة الدينيّة المزعومة لهذه الشعوب، وهي السرديّة المتكرّرة بالنسبة إلى الطرفين حتّى يومنا هذا.

لقد انشطرت مهمّة الإصلاح بين فكرتين إلزاميتين: التصوّر بأنّ العلمانيّة أو الإسلاميّة كخلاص. بيد أنّ الطرح العلمانيّ والطرح الإسلاميّ اعتراهما الكثير من الإشكالات، ليس فقط على مستوى فهم الحاضر وما تمرّ به المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، بل في فهم طبيعة التقليد الذي تمخّضنا عنه أيضاً.

طرح العلمانيّة كحلّ باعتبارها فصلاً بين الدين والدولة، أو بين المعتقد الدينيّ والقانون؛ وهو الطرح الذي يتعامل بشكل سطحيّ جداً مع العلمانيّة باعتبارها فوقيّة من جهة، منفصلة عن أيّ سيرورة اجتماعيّة، وعن مخرجات ثقافيّة تختلط بالمزيج الاجتماعيّ، ومن جهة أخرى باعتبارها "إجراء" صوريّاً. إذ إنّ هذه الصيغة للعلمانيّة لا تفحصُ العلمانيّة كإعادة موضعة جديدة للدينيّ. إذ، كما يحاجج طلال أسد في كتابه "تشكّلات العلمانيّ"، لا ينشأ العلمانيّ إلّا في تضافر وبعلاقة مع الدينيّ. وتلك العلاقة بالأساس هي علاقة سلطة، ضبط، وهيمنة.

 

 

تتمثّل هيمنة العلمانيّة تحديداً في أنّها لا تفصل الدين عند الدولة مطلقاً، بل بالأحرى هي تُشرك الدولةَ في الدين بصورة أكبر، وتجعل المجال الدينيّ الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ تحت إمرة الدولة، وبالتالي تغدو الدولة حارسة لنوعٍ معيّن من الدين يتماشى مع طبيعتها السياديّة.

على طرفٍ آخر، طُرحت الإسلاميّة كحل. ورغم أنّ الإسلاميّة مرّت بمراحل (استعادة الخلافة، التصالح مع النظام الملكيّ، العمل وفق الدولة القوميّة، الدخول في أفق ديمقراطيّ بأجندة دينيّة... إلخ)، إلّا أنّها أبقت، مثلها مثل نظيرتها العلمانيّة، على أنّ المشكل في الدين، الذي ينبغي استعادته.

تتمثّل هيمنة العلمانيّة في أنّها لا تفصل الدين عند الدولة مطلقاً، بل بالأحرى هي تُشرك الدولةَ في الدين بصورة أكبر

والحال أنّ الإسلاميّة وهي تستعيدُ الدين، وتدعو لتطبيقه، فهي تقعُ في أفق الدولة التي تعتقدُ أنّها تناهضه. فهي تدعو لتقنين الدين، أو الشريعة، والتقنين هو أداة علمانيّة بالأساس، دولتيّة، تقوم بممارسة إعادة ضبط وتهييء لما يُراد تقنينه من جديد. وبالتالي، فمشروع الأسلمة -سواء السياسيّ (من حسن البنا إلى اليوم)، أو القانونيّ- هو استيهام بماضٍ وتقليد لم يُفحص ويُفهم، وبلبلة فيما يتعلّق بحاضر تتضافر فيها الإشكالات بشكل مريع.

كما تقوم الإسلاميّة على خلط مريع، سعى وائل حلاق في "الدولة المستحيلة" إلى تبيينه، وهو اعتبار أنّ التجربة السياسيّة الإسلاميّة التراثيّة بمثابة "دولة"، وبالتالي فإنّ الخطاب الإسلامويّ عن "دولة إسلاميّة" محض فراغ. إنّ إشارة حلّاق للتفريق بين مفهوم "الدولة" الحديث ومفهوم "الحكم الإسلاميّ"، كما يقترحه، ذات دلالةٍ هامّة في هذا الموضع. فكثيرٌ من الكتابات العربيّة -إسلاميّة وحداثيّة- تعاني من فوضى مفاهيميّة عارمة، تخلع المفاهيم من زمانيّتها لتجعلها كأنّها روحٌ يمكن أن تحلّل بها أيّة ظاهرةٍ كانت. فكم من الكتاب حول "الدولة الإسلاميّة" في تاريخ المسلمين، إلى آخر هذا الكلام المنتشر. ومن ثمّ، فإنّ تفريق حلّاق يدلّ على وعيٍ بنيويّ ومفاهيميّ بطبيعة الاشتغال والحقول التي يحرثُها خطابياً، بحيث لا يُسقط على حقلٍ مفهوم لم يتشكّل -أو لنقُل ليست لديه مقدرة تفسيريّة عالية- في إطار هذا الحقل. هذا من جانبٍ.

اقرأ أيضاً: علمانيون ضد الديمقراطية... ديمقراطيون ضد العلمانية

خلاصة القول، إنّ ترك الأفق -المثقوب حقاً- للإسلاميّة والعلمانيّة، بصيغتهما الإلزاميّة الأيديولوجيّة، هو البقاء في الفراغ؛ لأنّها حلول تبقى مؤقّتة في أحسن الأحوال، وإساءة تدبير سياسيّ واجتماعيّ في أسوئه. ومن ثمّ، فالعمل على إعادة فحص الماضي، وفهم الحاضر، عبر منظور جديد يتجاوز هذين الرؤيتيْن المُعيقتيْن هو من الحاجة بمكان.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية