هل هناك نظام عالمي جديد يتشكل ... ما ملامحه؟ وما موقع روسيا منه؟

هل هناك نظام عالمي جديد يتشكل ... ما ملامحه؟ وما موقع روسيا منه؟

هل هناك نظام عالمي جديد يتشكل ... ما ملامحه؟ وما موقع روسيا منه؟


06/09/2023

تحولت مفردة النظام العالمي الجديد، بمستوييها "المصطلحي والمفاهيمي"، إلى لازمة من لوازم الخطاب الروسي، عند الحديث عن العالم الجديد الذي أصبح أكثر حضوراً مع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، لدرجة أنّ الدولة الروسية تقدّم نفسها بوصفها القطب الآخر، ومعها الصين، المقابل للقطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما جعل موسكو تتبنّى خطاباً شاملاً يعكس رغبتها بتسويق مقاربتها للنظام الدولي الجديد، بمرجعيات حضارية وبمنظومات قيمية اجتماعية، للدرجة التي ظهرت معها روسيا حامية للمسلمين والإسلام، ومزودة أفريقيا الجائعة بالحبوب مجاناً، والمدافعة عن نظمها السياسية عبر (فاغنر)، وبالمناسبة فرغم أنّ هذه المفردة لم تغب عن الخطاب الصيني، لكنّ بكين لا شكّ، "وضمن سياساتها الناعمة في علاقاتها مع الآخرين"، تطرح مفردة النظام الدولي الجديد بصورة أقلّ من روسيا، وبمرجعية إمكانية إيجاد آليّة توافقية مع أمريكا تضمن معها أن تكون القطب العالمي الثاني، وهو ما يطرح دلالات حول الفروق الجوهرية بين روسيا "المتشنجة" والصين "الهادئة" التي تريد نظاماً عالمياً جديداً تتقاسم فيه النفوذ مع أمريكا والغرب.

لا شكّ أنّ نظاماً عالمياً يتشكل بالفعل، وأنّ الحرب الروسية الأوكرانية عجّلت تبلور أسس هذا النظام الدولي الجديد وخرائطه وتحالفاته في ميادين السياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى ميادين الصناعات العسكرية والدفاعية وما يتبعها من تحالفات، ويبدو واضحاً أنّ غالبية التحالفات الجديدة عابرة تتسم بالشمول في السياسة والاقتصاد والعسكرة، رغم بعض الاستثناءات، خاصة بالنسبة إلى الصين التي تبني علاقاتها مع الدول بمرجعيات متعددة، وفي مقدمتها المرجعية الاقتصادية، استناداً لاستثمار الصين هذه المرجعية بوصفها المرجعية الأكثر قوة لديها، فيما تبدو التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة أكثر انسجاماً واتساعاً وشمولاً، إذ أنّها عابرة بتحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية، رغم بعض الاستثناءات في علاقاتها مع قوى إقليمية تطمح بتحقيق مكاسب في شراكاتها مع أمريكا والغرب، في مناطق مختلفة من العالم.

 الحرب الروسية الأوكرانية عجلت تبلور أسس هذا النظام الدولي الجديد

ملامح النظام الدولي التي تتشكل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تشير مخرجاتها إلى أنّها تسير "حتى الآن" باتجاه تشكل تحالفات جديدة، عنوانها القطبان الدوليان "أمريكا والصين"، وتكتلات إقليمية تتراوح بين التبعية لواشنطن أو الحوار مع بكين، فيما يجهد العديد من الدول لإعادة إنتاج صيغة ما يُعرف دوليّاً بـ "عدم الانحياز"، ومن الواضح أنّ موقع روسيا في هذا النظام الجديد هو "التبعية" للصين، وليس العكس، إذ إنّ الدلائل تشير إلى أنّ موسكو تحولت إلى دولة تدور في الفلك الصيني، بعد اشتداد محاصرتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ومن قبل الغرب، بما في ذلك المواقف الأوروبية المحكومة بالجغرافيا السياسية والتبعية بالنهاية لأمريكا، رغم ظهور تصدعات بين واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، لا سيّما مع فرنسا، غير أنّها في النهاية أنتجت صيغة تتشكل، تشير لقطيعة أوروبية قادمة مع روسيا.

ملامح النظام الدولي التي تتشكل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تشير مخرجاتها إلى أنّها تسير "حتى الآن" باتجاه تشكل تحالفات جديدة، عنوانها القطبان الدوليان "أمريكا والصين"، وتكتلات إقليمية تتراوح بين التبعية لواشنطن أو الحوار مع بكين

المعطيات العسكرية الجديدة وتمثلاتها مع الحرب الروسية على أوكرانيا ستبني نظاماً عسكرياً دولياً جديداً، عنوانه تراجع روسيا وانكسار هيبة الجيش الأحمر وانكشاف عوراته في ظل حروب الذكاء الاصطناعي، التي يتفوق فيها الغرب، وتوقف روسيا عند استراتيجيات حروب الاتحاد السوفييتي السابقة، وتكتيكات الحرب العالمية الثانية، وضعف قدرتها على إنتاج تحالفات واصطفافات عسكرية جديدة، وذلك بالرغم من أنّ روسيا ما زالت تحتل موقع القوة العسكرية الثانية بعد أمريكا، وتليها الصين، وربما نشهد قريباً تفوقاً للصين على روسيا، بحيث تتحول إلى القوة الاقتصادية والعسكرية الثانية بعد أمريكا.

ولعل ما يؤكد تلك الانكشافات وقوف بيلاروسيا وإيران فقط إلى جانب روسيا، فيما تجهد الصين وهي تؤكد أنّها لن تدعم موسكو عسكرياً بهذه الحرب، وبالمقابل أنتجت هذه الحرب تكتلات عسكرية عالمية جديدة بقيادة أو مشاركة أمريكية، بدأت في أوروبا من خلال "استفاقة" أوروبية كانت قد "تراخت" عسكرياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأعادت تأكيد بقاء (الناتو) وإثبات حاجة أوروبا له بقيادة أمريكية، بالتزامن مع أحاديث حول قوة عسكرية أوروبية لا يستبعد أن تكون بقيادة ألمانيا، وفي الشرق يتبلور تحالف عسكري على غرار (الناتو)، بين اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا والهند، بمشاركة من الفلبين وإندونيسيا وتايوان، ودول أخرى شرق آسيا، لمواجهة تهديدات صينية في شرق آسيا، كما أتاحت الحرب فرصة للغرب للتخلص من أسلحته وإنتاج أسلحة جديدة، وإجراء اختبارات لأسلحته الأكثر قدرة على مواجهة الجيش الروسي.

إذا كانت هناك (3) معايير للدول للدخول بنادي القطبية الدولية؛ وهي: حجم القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، وحجم التأثير الثقافي بمفاهيم العولمة، فإنّ واشنطن، ومعها أوروبا، تشكّل قطباً دوليّاً يقابله قطب صاعد وهو الصين، وهو ما يعني أنّ روسيا لن تتجاوز الدوران في المدارات الصينية

أمّا على الصعيد الاقتصادي، فتبدو الصورة أكثر قتامة بالنسبة إلى روسيا والنظام الاقتصادي العالمي الذي يتشكل، فترتيب روسيا في الاقتصاديات العالمية هو (11)، وهي عضو بمجموعة الـ (20)، وتظهر بيانات صندوق النقد الدولي للعام الحالي 2023 أنّ روسيا ليست من بين أقوى (10) اقتصاديات في العالم، في مقدمتها أمريكا ثم الصين ثم: "اليابان، ألمانيا، الهند، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، كندا، البرازيل"، وباستثناء البرازيل فإنّ (8) دول من الاقتصاديات الأعلى في العالم تدور في الفلك الأمريكي، وتكاد مساهمة روسيا في الاقتصاد العالمي تقتصر على حصة في سوقي الطاقة والحبوب، وهما العنوانان اللذان تلوح بهما روسيا، خاصة الحبوب، بعد تحييد ملف الطاقة الروسية والاستغناء عنها أوروبيّاً، ولعل ما يلفت النظر هنا، وفقاً لهذه البيانات الدولية، أنّ (4) دول أوروبية منفردة تتفوق اقتصادياتها على الاقتصاد الروسي، وهو ما يعني أنّ روسيا لن تكون أكثر من قوة إقليمية تنافس هذه الدولة الأوروبية أو تلك.

على الصعيد الاقتصادي تبدو الصورة أكثر قتامة بالنسبة إلى روسيا

وفي ضوء ذلك، فإنّ هذه الحقائق تجيب على تساؤلات حول أهمية وقدرة منظمات دولية تحاول روسيا الترويج بأنّها ستكون قطباً جديداً بمواجهة الغرب، مثل منظمة (شنغهاي)، و(بريكس) التي عقدت اجتماعها الأخير في جنوب أفريقيا الشهر الماضي،  ففي هذه المنظمات تتقدم الصين والهند على روسيا، وهو ما يجعل احتمالات نجاح مثل هذه المنظمات لصالح الصين أو الهند، فيما ستتحول روسيا إلى تابع لهذا الطرف أو ذاك، ويؤخذ بعين الاعتبار هنا أنّ دولاً مثل الهند وغيرها في المنظمتين المذكورتين ترتبط بعلاقات أمنية وعسكرية واقتصادية مع أمريكا والغرب، بصورة وأرقام أكبر بكثير من علاقاتها مع الصين أو روسيا، لا بل أنّها تستبطن تناقضات أكثر بكثير من التجانس، وهو ما تعكسه العلاقات المتوترة بين الصين والهند، وهو ما يؤكد حقيقة أنّ القطب الدولي هو الصين، وليس روسيا، بأيّ حال من الأحوال.

وإذا كانت هناك (3) معايير للدول للدخول بنادي القطبية الدولية؛ وهي: حجم القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، وحجم التأثير الثقافي بمفاهيم العولمة، فإنّ واشنطن، ومعها أوروبا، تشكّل قطباً دوليّاً يقابله قطب صاعد وهو الصين، لا سيّما بعد التطور الذي شهدته الصين في حقل الصناعات العسكرية، وهو ما يعني أنّ روسيا لن تتجاوز الدوران في المدارات الصينية، وهو ما تعمل عليه بكين في المواجهة الناعمة مع الغرب، عبر جعل روسيا تابعة لها،، كما ظهرت أوروبا تابعة لأمريكا، غير أنّ الأهم في تحولات النظام الدولي الحالي، المبني على نتائج الحرب العالمية الثانية، يطرح تساؤلات حول إمكانية وصوله إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وإعادة النظر بالمعايير التي أنتجت صيغة الدول الـ (5) الكبرى صاحبة حق النقض "الفيتو"، بما في ذلك أحقية فرنسا وبريطانيا وروسيا بهذا الحق، فإذا كان بقاء أمريكا والصين مؤكداً بهذه الصيغة في حال التوافق على استمرارها، فماذا بالنسبة إلى اليابان وألمانيا والهند والبرازيل؟

مواضيع ذات صلة:

مسرح الرعب الروسي يواصل عروضه.. من الذي قتل زعيم فاغنر؟

ما التحولات الجديدة في مسارات الحرب الروسية ـ الأوكرانية؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية