هل يصبح لبنان ثلاثة "لبنانات"؟

هل يصبح لبنان ثلاثة "لبنانات"؟


كاتب ومترجم جزائري
19/09/2021

ترجمة: مدني قصري

في ظلّ الأزمة متعددة الأشكال، والخلافات السياسية العميقة التي تشلّه، وتعرّضه لتأثيرات خارجية، فإنّ لبنان كما نعرفه ربما لم يعد موجوداً.

قال البنك الدولي في تقرير صدر في الأول من حزيران (يونيو): إنّ الأزمة في لبنان واحدة من أسوأ الأزمات التي يشهدها العالم منذ عام 1850؛ فهي تؤثر الآن في جميع جوانب الحياة اليومية.

اقرأ أيضاً: واشنطن تفرض عقوبات جديدة تستهدف حزب الله اللبناني... تفاصيل

نقص الأدوية والوقود والمواد الغذائية وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة تصل إلى 23 ساعة في اليوم، وانهيار العملة الوطنية، والارتفاع الجنوني للأسعار، واختفاء شبكات الأمان الاجتماعي، تُغرق غالبية اللبنانيين في حالة من الاضطراب والفوضى والبلبلة، والذين يملكون الوسائل غادروا البلاد، وكثيرون لا يحلمون إلا بالفرار مِمّا أصبح بالنسبة إليهم جحيماً حقيقياً.

تتميّز الأزمة بحدوث خلل شامل في الخدمات العامة، وضعف في سلطة الدولة، وينتج عن ذلك تصاعدٌ في التوترات الاجتماعية والمجتمعية، ونموّ ظاهرة العنف.

في الأيام القليلة الماضية كاد جدالٌ أمام محطة وقود أن يثير خلافاً حاداً بين مسيحيين وشيعة بالقرب من مدينة صيدا، على بعد 40 كيلومتراً جنوب بيروت. كما أسفر تبادلٌ لإطلاق النار في مدينة طرابلس شمال البلاد، في الأيام الأخيرة، عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة بجروح.

هذه هي الحياة اليومية للبنانيين، المحكوم عليهم بالانتظار لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة لملء بضعة لترات من البنزين، وقضاء الليل على ضوء الشموع، كما كان حالهم في أيام الحرب الأهلية (1975-1990).

اقرأ أيضاً: وزير لبناني سابق يثير الجدل بحديثه عن "الدعارة".. ما القصة؟

"لو كان هناك أدنى أمل في تحسّن الوضع، لكنت على استعداد لتحمّل ألوان الحرمان، ولتقديم تضحيات، لكن ليس هناك أفق للمستقبل"، هكذا يأسف وليد، مدير شركة خدمات طبية، على وشك المغادرة إلى فرنسا لتعليم أبنائه الثلاثة.

لا حكومة لأكثر من عام

الأزمة ليست اجتماعية واقتصادية ومالية فحسب، بل هي سياسية أيضاً.

تعطّلُ المؤسسات وأوجُه القصور الدستورية لا يشجعان على إدارة سليمة وهادئة للحياة السياسية، لقد حالت العلاقات المتضاربة بين قوى المجتمع السياسي الرئيسة دون تشكيل الحكومة لأكثر من عام.

وتتداخل التناقضات الداخلية مع الرهانات الجيوسياسية الإقليمية التي تتجاوز قدرات لبنان على الصمود، وتهدّد وجوده ككيان إقليمي موحّد وذي سيادة، ومستقل.

في تحليل لموقع "ميدل إيست آي/ Middle East Eye"،  قال ناظم الخوري، الوزير والنائب السابق: "وحدة لبنان، بلا شكّ، مهددة بشكل خطير، وكذلك المجتمع اللبناني المشتت اليوم بسبب مكوناته الدينية والعرقية والسياسية".

 وقال هذا السياسي: "تتجلى الخلافات الداخلية السياسية والطائفية والمذهبية في دولة فشلت في خلق مقاومة وطنية موحدة في مواجهة التدخلات الخارجية"، و"أدّى ذلك إلى انقسامٍ بين جزء من السكان ذوي الولاءات الخارجية الواضحة وطرف آخر يدافع عن هُوية لبنانية ليبرالية ومتعدّدة الأديان".

كما أنّ الجغرافيا والتاريخ لا يخدمان لبنان أيضاً، الواقع في منطقة تجتاحها، كما قال ناظم الخوري مستنكراً "صراعات واجتياحات دائمة، مع سوريا من جهة، التي ما تزال لا تعترف بسيادة لبنان رغم اعترافها بشرعيته، ومع الطرف الآخر، إسرائيل، الدولة العدو التي ما انفكت تنتهك سيادته"، كما ندد ناظم الخوري بـ "جشع القوى الأجنبية الإقليمية والدولية".

ما يعانيه لبنان ناتج عن موقف رئيس الجمهورية، ميشيل عون، وحزب الله، والفصائل السياسية الأخرى المؤيدة للمحور الإيراني وحلفائه، وهو موقف لا يُجمِع عليه اللبنانيون

في هذا السياق، قد يؤدي إعلانُ الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وصولاً وشيكاً لسفن إيرانية محملة بالنفط إلى لبنان،  إلى مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران.

لقد حاولت واشنطن تجاوز مبادرة الزعيم الشيعي بالإعلان عن توصيل الغاز والكهرباء من مصر والأردن وسوريا ، وهي دولة ما تزال مع ذلك منبوذة بـ "قانون قيصر"، الذي يمنع أيّة صفقة تجارية أو مالية معها.

من ناحيتها، حذّرت إيران من أيّ هجوم على ناقلاتها المتّجهة إلى لبنان، وهو ما قد يؤدي إلى "ردٍّ  مزدوج (من طهران ومن حزب الله)، بحسب تحذير أبو فضل عموي، عضو مفوضية الأمن القومي. ومن جهتها أكدت الخارجية الإيرانية أنّ "تسليم النفط إلى لبنان عمل سيادي".

إغراء التقسيم لم يختف أبداً

بالإضافة إلى العوامل الخارجية؛ فإنّ وحدة لبنان قد تصبح مهدّدة من قبل "الدول العميقة" التي تتنافس على النفوذ، بحسب جمال واكيم، أستاذ العلوم السياسية في جامعات بيروت.

وقال إنّ "أولى هذه "الدول" الكنيسة المارونية التي تزعم أنّها هي التي أسست لبنان، والذي يجب، في نظرها، أن يكون مارونياً أو لا يكون على الإطلاق".

وأكد الباحث، لـموقع "ميدل إيست آي/ Middle East Eye": "منذ إعلان لبنان الكبير (دولة مستقلة كانت جزءاً من سوريا الانتدابية، الخاضعة آنذاك لإدارة فرنسا)، في الأوّل من أيلول (سبتمبر) 1920، لم يختف قط إغراء التقسيم، للحفاظ على الطابع الماروني للبلاد، المرتبط برؤوس الأموال الغربية".

"هذا يفسر الدعوات إلى نظام فيدرالي؛ لأنّ الكنيسة المارونية غير قادرة على فرض نفوذها على البلد كلّه بسبب ظهور "دول عميقة" أخرى وهي الطوائف الأخرى".

اقرأ أيضاً: الغاز المصري إلى لبنان بعد هذا الاتفاق

مع تفضيل المقاربة الاقتصادية والمالية في تحليله، يؤكد جمال واكيم ظهور رأسمال آخر، وهو رأسمال الشتات الشيعي، لمواجهة ذلك المرتبط بالغرب، وفي هذا السياق قال: "هذه القوة الجديدة تدفع باتجاه الشرق".

هناك إذاً في لبنان فجوة عمودية بين من يرغبون في البقاء راسخين حصرياً في الغرب، والذين يطالبون بالانفتاح على "الشرق"؛ أي إيران والصين وروسيا.

من جانبه، يقول ناظم خوري: "ما يعانيه لبنان ناتج عن موقف رئيس الجمهورية، ميشيل عون، وحزب الله، والفصائل السياسية الأخرى المؤيدة للمحور الإيراني وحلفائه، وهو موقف لا يُجمِع عليه اللبنانيون".

وأضاف جمال واكيم: "يهدف المشروع الأمريكي، المنفَّذ منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، إلى تدمير دور لبنان كمركز تجاري ومالي في شرق المتوسط​​، ومنافس لإسرائيل، وقادر على الربط بين رؤوس الأموال الأوروبية ودول الخليج، وبالنسبة إلى الغربيين فإنّ ميناء حيفا هو الذي يجب أن يلعب هذا الدور، وليس ميناء بيروت".

منذ عام 2017، شدّدت الولايات المتحدة عقوباتها على حزب الله، مخاطِرة بإضعاف القطاع المصرفي اللبناني والتسبب في انهيارٍ اقتصادي ومالي شامل في لبنان.

ربما يعكس هذا الموقف قناعة بأنّ تأثير المحور الموالي لإيران قد نما لدرجة أنّه لم يعد من الممكن اعتبار بلاد الأرز حليفاً حصرياً للغرب.

وقال نائب لبناني مقرّب من المعسكر الرئاسي، لموقع "Middle East Eye": "نظراً إلى عدم قدرتها على ممارسة نفوذها على كلّ لبنان، ترّوج القوى الغربية لفكرة انسحابٍ إلى لبنان الصغير، حيث ما يزال جزءاً من السكان والقوى السياسية تحت السيطرةً".

سيكون هناك ثلاثة (لبنانات)"؛ بحسب دبلوماسي أوروبي: لبنان المؤيد للغرب، ولبنان الموالي لإيران، والشمال الهشّ، الذي تجتازه تأثيرات متعدّدة، بما في ذلك تأثير الحركات الإسلامية المتطرفة

دحض ناظم الخوري فرضية وضع مناطق معيّنة تحت إشراف دولي، لا سيما أراضٍ من جبل لبنان.

وقال الوزير السابق: "الوضع الصحي المأساوي في العالم، والصراعات التي تهز كوكب الأرض، تقلّل من دور الأمم المتحدة، وقدرة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن"، وفي غياب الإشراف، يدعو إلى إعادة صياغة "الوظيفة" الإقليمية للبنان على أساس "الحياد".

أكّد جمال واكيم، من جانبه؛ أنّ الأمريكيين بدأوا بالفعل في ممارسة الوصاية على جزء من لبنان من خلال الوجود العسكري في المناطق ذات الغالبية المسيحية، مثل سفارة أوكار وقاعدة حمات (تقعان على التوالي على بعد 10 و 60 كيلومتراً شمال بيروت).

غير أنّه جرس الإنذار قرع، محذراً من أنّ "مثل هذا المشروع لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال حرب قد يختفي في نهايتها الوجود المسيحي".

قد ينقسم لبنان إذاً، بحكم الأمر الواقع، إلى منطقتي نفوذ؛ الأولى تحت سيطرة القوى الغربية، والثانية تحت سيطرة المحور الموالي لإيران.

"سيكون هناك ثلاثة (لبنانات)"؛ هذا ما صرح به دبلوماسي أوروبي في بيروت لـ "ميدل إيست آي": "لبنان المؤيد للغرب، ولبنان الموالي لإيران، والشمال الهشّ، الذي تجتازه تأثيرات متعدّدة، بما في ذلك تأثير الحركات الإسلامية المتطرفة".

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

www.middleeasteye.net/fr




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية