يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً


26/11/2023

تنشئ الدول والمجتمعات في علاقاتها وتجاربها القيم والأخلاق التي تدور حولها المؤسسات السياسية والعامة، أو تستهدف تغييرها وتطويرها الحركات والتيارات السياسية والاجتماعية. ولكنّها قيم وأخلاق يفترض أن ينشئها موقفٌ عقلاني، فإذا لم تكن الأخلاق والقيم عقلانيةً، فإنّ السلوك السياسي والاجتماعي، الفردي والجمعي، يتحول إلى تسويات غير أخلاقية، ويزود التخلف بمبرّرات ومسوغات دينية أو اجتماعية وثقافية.

الحال أنّ النزعة البشرية في تاريخها الطويل، وفي آليات الدفاع عن الذات، تميل إلى التعامل مع العالم المحيط من دون مساواة في اعتبارات عديدة، تقول كاثلين تايلور: نحن ـالبشرـ بطبعنا وما جبلنا عليه نهتم بأقاربنا (أو الأقارب الرمزيين) وبمن نرى أنّهم أعضاء أقوياء في جماعتنا، وبالمعتقدات التي تتفق مع ما نعتقده ونراه، إننا بالطبيعة نولي اهتماماً أقلّ بالغرباء، وبالناس الأقلّ في المكانة الاجتماعية، أو للأفكار التي تناقض معتقداتنا، ونحن محدودو القدرة على تنظيم المعلومات، ونجهل كثيراً ممّا تخبرنا به حواسّنا، لأنّها لا تتناسب مع ما نريد أن نعتقده وما يرضينا، كما أننا نبتعد عن الموضوعية في رؤيتنا للحياة بمرور الوقت، ونعتبر النتائج المستقبلية والعواقب البعيدة شيئاً أقلّ في الأهمية من الأحداث المعاصرة أو القريبة، وهي ظاهرةٌ يطلق عليها علماء النفس إسقاط الزمن من الاعتبار. 

لقد تحولت "مواجهة التطرف" إلى برامج معزولة عن السياقات والمكونات الثقافية والنفسية، وفي الوقت نفسه يبدو واضحاً في الشأن العام والمتابعة أنّ التطرف منتشر ومتمكن في الحياة اليومية والأفكار والمعتقدات والمشاعر والسياسات والممارسات، لكنّ أحداً لا يريد الاعتراف بوجوده ولا حتى مناقشته مناقشة حقيقية عامة ووطنية، برامج الانتخابات في الأردن على سبيل المثال، سواء في الانتخابات النيابية أو البلدية أو النقابية، لا ترى التطرف موضوعاً يستحق التفكير والجدل وتقديم المرشحين لأنفسهم أمام الناخبين.
ثمّة إجماع تقريباً على أنّ ظاهرة التطرف مرشحة للبقاء والنمو؛ لسبب واضح هو أنّها تحظى بقواعد اجتماعية واسعة وبمصادر آمنة للتجنيد والحشد والتمويل، وأنّها حالٌ لا يمكن مواجهتها أمنياً أو فكرياً. وبطبيعة الحال، فإنّ العنف والكراهية على مدى التاريخ والجغرافيا هما حالة اجتماعية تنشئ إيديولوجيتها الملائمة لها، ومن ثم فإنّ الحل لتغيير أفكار الناس، كما يقول ماركس، يستدعي تغيير واقعهم. 

يبدو واضحاً في الشأن العام والمتابعة أنّ التطرف منتشر ومتمكن في الحياة اليومية والأفكار والمعتقدات والمشاعر والسياسات والممارسات، لكنّ أحداً لا يريد الاعتراف بوجوده ولا حتى مناقشته مناقشة حقيقية عامة ووطنية

هكذا، فإنّ التطرف أساساً هو نوع من أنواع الصراع الاجتماعي، وهذا يعني بالضرورة أنّه باقٍ ومستمر على نحو دائم، وأنّه يأخذ حالات وأشكالاً متعددة، وأنّ الإيديولوجيا، سواء كانت دينية أو قومية أو وطنية، ليست جزءاً أصليّاً أو بنيويّاً في هذا الصراع، ولكنّه مورد إضافي يتمّ استحضاره وتوظيفه في الصراع، ومن ثم فإنّ مواجهة الإرهاب والتطرف والتوظيف غير الصحيح للدين والخروج على الدولة والقانون باسم الدين يجب أن تقوم في شكل رئيسي على الفصل بين الدين ـ التدين والصراع القائم، وضرورة النظر إلى الصراع باعتباره اجتماعيّاً واقتصاديًاً.

السياسات الاجتماعية والاقتصادية الإصلاحية تفشل أو تتعثر إن لم تصحبها سياسات باتجاه الفصل بين الدين والصراع الاجتماعي والسياسي والأزمات الاجتماعية والثقافية القائمة. وفي ذلك فقط يمكن إضعاف المتطرفين والخارجين على الدولة والقانون باسم الدين وعزلهم، ووضع الدين والتدين في السياق الصحيح لسياسات الدولة والمجتمع وأهدافهما في الإصلاح والارتقاء بالنفس والتماسك الاجتماعي، وإزالة الحواجز التي تعيق اندماج المواطنين في برامج الدولة والمجتمع وتعزيز مشاركتهم على أساس قضاياهم وأولوياتهم الأساسية، وكما هي في جميع الدول والمجتمعات القائمة على تحسين مستوى الحياة والرفاه والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وحصر الصراع السياسي والاجتماعي في قضيته المنشئة ووقف حلقات الشر التي تطور الخلاف والصراع إلى سلسلة من الصراعات المدمرة والمختلفة عن القضية الأصلية المنشئة هذا الصراع، وتطوير الخلاف بين الحكومات والمعارضين أو بين الدولة والمجتمعات أو طبقات أو فئات اجتماعية معينة إلى خلاف سلمي محدد يستخدم في تسويته المبادئ العامة والسلمية من التأثير والجدال والحوار والرأي العام والإعلام.

وبالنظر إلى التطرف على أنّه مؤشر اجتماعي، فإنّ ذلك يساعد على تصحيح السياسات والبرامج الاجتماعية والثقافية ومراقبتها ومراجعتها، والتأكد من أنّها تخدم تطلعات المواطنين عامة والشباب خاصة إلى المعنى والجدوى وتشجعهم على الاندماج الاجتماعي والمشاركة الاقتصادية والعامة وبناء أدوات سلمية وإيجابية في العمل والتأثير، وبذلك فإنّه يمكن التأكد أيضاً من أنّ المنظومات الاقتصادية والسياسية وإدارة الموارد والإنفاق تخدم الهدف الأساسي لها وهو التقدم والتنمية. ولعله يمكن في المحصلة أن نكون مثل هذا العالم القائم على مجتمعات شريكة ومستقلة، تتحمل مسؤوليتها وتواجه بنفسها تحدياتها التي لا يمكن الدولة أو الشركات أن تؤديها بالنيابة عنها.

تفضل فئة من السلطات والنخب المهيمنة أو تنزع إلى اعتبار الإنسان كياناً تحركه المحفّزات والدوافع، لكنّ الإنسان أكرم من ذلك وأعقد أيضاً بكثير. ولا تشكّل المحفزات والدوافع في فهم الإنسان وسلوكه وتفكيره سوى جزء ضئيل. أسوأ ما في هذا التفكير أنّ الأوليغاركيين ينظرون إلى أنفسهم غير ذلك، ويعتقدون أنّهم كيانات تمتلك شبكة من المشاعر والعواطف والأفكار أسمى وأوسع، وفي ذلك فإنّ الدول والجماعات والنخب على مدى التاريخ والجغرافيا تلجأ إلى إثارة الكراهية وتحريك غرائز العداء نحو الخصوم. صحيح أنّ المجتمعات والجماهير تميل إلى الانسياق وراء التعصب والكراهية، لكن يجب ألّا يشجع ذلك قادة الدول والجماعات على اللجوء إلى إثارة الكراهية؛ لأنّها سياسات تعود بعد فترة قصيرة على أصحابها، فهي تعني بالتأكيد عدم احترام المواطنين، وعدم الاعتراف بالاتجاهات والنزعات الإنسانية السامية لدى الناس وبأهميتها في التشكلات الاجتماعية والسياسية. 

تزدهر السادية عندما تكون مفيدةً أو ممتعة، وفي ذلك يمكن فهم الإغراق بالتحريض والكراهية الذي تمارسه سلطات سياسية يفترض أنّها معادية للإرهاب، لكنّها لا تريد ملاحظة المنسوب العالي للكراهية والتطرف في خطابها وسلوكها

هناك حالة "سادية" تؤثر في إدارة الصراعات والاختلافات تستعيد المخزون الثقافي في القسوة والكراهية، ومن الضروري اليوم التأكيد على ملاحظة أنّ حالةً من الارتقاء الإنساني تشكلت منذ منتصف القرن الـ (20)، تنشئ قيماً ومنظومات جديدةً؛ من القوانين والعلاقات الدولية والحريات والعدالة والمساواة حقوق الإنسان وحماية البيئة والتضامن العالمي الإنساني والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والتعاطف مع الأطفال وكبار السن والمعوقين، وتمكين المرأة والتمييز الإيجابي للأقليات والمستضعفين والمهمشين، بعد تاريخ طويل غير مشرّف لجميع الأمم والحضارات في العبودية والظلم والقتل والاعتداء على الطبيعة والمستضعفين.

لكن، وكما يدفع الجوع مثلاً الإنسان إلى التخلي عن القيم المنظمة للمجتمعات، أو حتى يدفعه إلى أكل لحوم البشر، فإنّه من المتوقع أنّ بعض الظروف قد تشجع على القسوة والتطرف، وتحوّل أشخاصاً طيبين إلى قتلة وإرهابيين يستمتعون بالأذى والإضرار، وقد يكون سهلاً أو مغرياً ردّ القسوة والنزعة إلى الأذى والإضرار من غير سبب أو ضرورة إلى الأفكار والمعتقدات الدينية. وهناك أسباب كثيرة يمكن أن تجعلنا قساةً حتى من غير الأفكار والمعتقدات الدينية المتطرفة، وإن كان من الضروري أيضاً إجراء مراجعات فكرية نزيهة للمصادر الدينية والتراثية والثقافية للقسوة والكراهية والعنف، أو تمجيدها والدعوة إليها، وأن يُعاد بناء الخطاب الديني وفهم النصوص الدينية وقراءتها، بمناهج عقلانية منبثقة عن روح العصر ومنجزاته، ذلك أنّ الخطاب، بما هو معالجة منهجية لفكرة أو موضوع مستقل عن النص أو المعتقدات، وإن كان مستمداً منها، أو قراءةً وتحليلاً للنصوص والتجارب؛ يجعل الدين والمنظومات العقائدية مصدراً للقسوة والكراهية الحقيقية والمتخيلة، كما يزود الأتباع بالحافز والدوافع، ويمكن أيضاً أن يضع الدين في سياق الإصلاح والتقدم، فالدين في بعده التطبيقي أو في فهمه (الخطاب)، منتج حضاري يعكس الحالة الاجتماعية والثقافية السائدة.

تزدهر السادية عندما تكون مفيدةً أو ممتعة، وفي ذلك يمكن فهم الإغراق بالتحريض والكراهية الذي تمارسه سلطات سياسية يفترض أنّها معادية للإرهاب والكراهية، لكنّها لا تريد ملاحظة المنسوب العالي للكراهية والتطرف في خطابها وسلوكها.

مواضيع ذات صلة:

هل نؤمن حقاً بالاختلاف؟ ومتى نتحرر من مرض التطرف؟

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً

التطرف والعشوائية الاجتماعية والحضرية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية