لماذا يكره السلفيون التصوف؟

لماذا يكره السلفيون التصوف؟


03/04/2021

كان الإسلام ديناً واحداً، يقبل تعدّد الأفهام والتصورات، يفتح ساحته الواسعة للجميع، ديناً فطرياً يدلف للقلوب دون عناء، تقبله العقول وفق منطق صحيح؛ فلا تعيا الأفهام دونه، وهو دين الفطرة. ولأنّ الإنسان بنيان الربّ، هذا الكيان المركب من جسد وعقل ووجدان، فقد جعل الله لكلّ عنصر غذاءه المناسب، فجعل الطعام والرياضة ممّا يقوى به الجسد، ويستطيع النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، فحرّمت الشريعة كل مسكر ومفتر، حرصاً على حياة هذا الجسد قوياً وصحيحاً من العلل والأدواء، وامتدحت السنة الجسد القوي "المؤمن القوي أحبّ الى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير"، ولم تأمر الشريعة أبداً بأمر يخالف العقل أو المنطق، وإن اختبأ ذلك خلف نصّ أو تأويل، فالإسلام يمضي مع العقل والمنطق الهوينى، وسنن الله في خلقه لا تتخلف ولا تتبدل، ربّما كان العنصر الأخير المتعلق بالوجدان أو الروح، التي تبقى في حاجة دائمة إلى شراب يطفئ عطش الروح، ويقيم السلوك على مراد الله في يسر وجمال، وهذا ما يحققه التصوف الصحيح؛ غذاء الوجدان وشرابه، الذي دونه يبقى المسلم يتنفس هجيراً، ويأكل هجيراً، ويشرب هجيراً، فلا تصفو نفسه، ولا يحيا وجدانه، أو يستقيم ضميره على منهاج الله.

 

التصوف معنيّ بإصلاح النفس، عبر منهج تزكية الروح والطبع بمكارم الأخلاق، عبر طرق الذكر والمناجاة والتفكّر

ولأنّ التصوف معنيّ بإصلاح النفس، عبر منهج تزكية الروح والطبع بمكارم الأخلاق، عبر طرق الذكر والمناجاة والتفكّر، تلك العبادة المهجورة التي لم يعد لها الاعتبار سوى فنون التصوف ومدراسه.

هذه المدرسة التي تعنى بإصلاح أخلاق الناس عبر الدخول إلى مسارب النفس البشرية، تلك الكهوف المظلمة المليئة بالأسرار، لم يكتب خريطتها سوى علوم التصوف، ولم ينجح في علاجها من أدوائها سوى التصوف، على طريقة رواد هذا الطريق من أئمة التصوف؛ كالحسن البصري، وسفيان الثوري، والغزالي، والجنيد، والجيلاني، وغيرهم.

بين تقديس النصوص التي لم تنجح في تغيير النفوس، عندما أشهرتها السلفية جافة في وجوه الخلق، وبين فئة حملت السلاح متصورة أنّ الطريق هو في إكراه الناس على تصورات منحرفة للشريعة والحدود، مضت فئات من المسلمين، راق للبعض تسميتها بالمتصوفة، أو فرق التصوف، أو طرقه، تحاول استعادة سلطان الدين على نفوس المسلمين إطاراً قيمياً وأخلاقياً، يصنع نفساً صحيحة الإدراك لموقعها في الكون بين كلّ الخلائق، تتعلم التواضع حين تتأمل الجبال الشاهقة، والبحار الواسعة بأمواجها العالية، والأجرام السماوية بألقها وضوئها، وابتعادها في السماء، وتفهم الرحمة حين تتأمل أحوال الإنسان والحياة بضمير المؤمن، وطول التفكّر في سنن الله في كونه.

الصوفية، طريقة كانت أم حقيقة، هي محاولات فريق من الأمة استشعرت مسؤولية شرعية وأخلاقية، فتقدمت لأدوارها

الصوفية، طريقة كانت أم حقيقة، هي محاولات فريق من الأمة استشعرت مسؤولية شرعية وأخلاقية، فتقدمت لأدوارها، مع تراجع بهاء الوحي في النفوس، فأصبحت نفوساً جافة لا يصلحها نصّ، ولا يهذّبها واقع، مهما بلغت قساوته، انطلقت تلك الفرق من الصالحين لتستعيد فعل الوحي في النفوس، بإصلاح المحل، الذي هو القلب، ليطيع منهج الله في خلقه، ويصلح النفس لتكون لائقة بقيم هذا الدين، فتصوغ إنساناً سليما لكلّ شيء في الخلق، يتحقق فيه مراد الله "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده".

ماذا فعلت السلفية التي كانت الأرضية التي أنبتت داعش وغيره من فرق الموت والدمار؟ وماذا أهدت العالم من سلام؟ اليوم في سوريا الجريحة تتقاتل عشرات الفصائل، كلّها تحمل شعارات الإسلام، وتدّعي نصرته، فهذه هيئة تحرير الشام تقاتل أحرار الشام التي تقاتل جيش النظام، الذي يقاتل بدوره الجيش السوري الحرّ، الذي يقاتل سوريا الديمقراطية، التي تقاتل بدورها تركيا، أما داعش فتقاتل حزب الله مع القاعدة، أي وبال هذا! وأي نفوس تلك! وأي عقول تلك التي تقبل هذا الجنون، تحت راية الإسلام!

محاولات التشويه للصوفية مستعرة فقط؛ لأنّها تستعيد سلام الإسلام في مواجهة أباطرة الحرب، الذين يشعلون أوار الحروب المستمرة

ولأنّ السلفية أنجزت لنا كلّ تلك الساحات من الخراب، فليس غريباً أن يكون رأيها في التصوف، أنّه تلك الفرقة المجانبة لمنهج أهل السنة والجماعة، التي تتشبه لديهم برهبان النصارى، والتي يدّعون أيضاً أنّ أصلها صوفي من "صوفيا"؛ وهي كلمة يونانية في التراث اليهودي.
والصوفية عندهم أقسام كثيرة جداً، وطوائف لا حصر لها، كلّ طائفة تطلق على نفسها طريقة، وكلّ طائفة تبتدع بدعاً تخالف الأخرى، لكنّها تجتمع في أصول يعدّونها مبتدعة عامة، فيلحقون بها كلّ الطوائف المعروفة؛ كالقادرية، والرفاعية، والعدوية، والبيانية، والجشتية، والشاذلية، والسطوحية، والعلوية، والبرهامية، والبرهانية، والنقشبندية، والتيجانية، والنور بخشية، والعيدروسية، والمهدية، والخلوتية، الإدريسية، والرشيدية، والفرغلية، والسالمية، والمشعشعية، والعزمية، وهم يخلطون الطريقة بالحقيقة، فمن المعروف أنّ التصوف معنى وعلم، أوسع بكثير من هذه العناوين، التي صدق بعض الذين جعلوا الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، لكنّ هؤلاء تضيق نفوسهم بالتنوع، ولا تقبل سوى الأحادية الضيقة، التي لا تعرف سوى فسطاط إيمان لا يعرف إيماناً، وفسطاط كفر هو كلّ ساحة لا تطأها أقدامهم التي ملأت العالم عنفاً وخراباً؛ لذا ستبقى محاولات التشويه للصوفية مستعرة فقط؛ لأنّها تستعيد سلام الإسلام في مواجهة أباطرة الحرب، الذين يشعلون أوار الحروب المستمرة، بادّعاء نصرة الدين، فلا أقاموا ديناً، ولا أبقوا دنيا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية