بخصوص النسوية العربية العابسة

بخصوص النسوية العربية العابسة


28/11/2018

(لا تعاملني بوصفي أنثى رقيقة، بل عاملني بوصفي مقاتلة)! هذا هو موجز ظاهر الخطاب السائد في أوساط النسويّات العربيّات. ورغم ضرورة التذكير بأنّ ظاهر هذا الخطاب لا يعكس باطنه غالباً، إلا أنّ من حقنا - رجالاً نساءً- أن نسأل: من قال بأنّ أنوثة المرأة ورقّتها وأناقتها تتناقض مع كونها (نسوية)؟ وكيف تسلّلت أسطورة المرأة الحديدية للخطاب النسوي العربي في عصر الانفتاح وحرية الانخراط في الأحزاب ومنظمات العمل المدني؟
وقد يكون طريفاً، التنويه بأنّ كثيراً من مناضلي النصف الثاني من القرن العشرين، ما زالوا يذكرون بوافر الحنين، أولئك الرفيقات والمناضلات الحقيقيات اللواتي اكتوين بالملاحقة والاعتقال والحرمان من السفر والعمل، وظللن - مع ذلك- حريصات على أنوثتهن ويفاخرن بها ويبرزنها، دون مستحضرات باهظة الثمن أو عمليات تجميل مكشوفة. لكن ما يدعونا للاستغراب أن تتصاعد (الآن) الرغبة في تقمّص صورة المرأة الحديدية، رغم كل ما تحظى به النساء من امتيازات، سواء على صعيد (الكوتا) المضمونة في أي تشكيل حكومي أو برلماني عربي – إرضاء للغرب- أم على صعيد تعاظم فرص الالتحاق بسوق العمل، أم على صعيد الأجور التي راحت تفوق أجور الرجال أحياناً، أم على صعيد حرية الانخراط في العمل العام بكل صوره، أم على صعيد حرية الكتابة والنشر.

الصورة النمطية التي تجتهد النساء العربيات في إنتاجها للرجل أنه وغد وماكر وأناني وجبان ومتسلّط ومحظوظ جدًا لأنّه رجل

ورغم تسليمنا بأنّ المرأة العربية ما زالت تعاني من الاضطهاد والتمييز بوجه عام، وبأنّ مستويات هذا الاضطهاد تتفاوت من قُطر لآخر، بل ومن منطقة لمنطقة داخل القُطر ذاته، إلا أنّ ما يسترعي انتباهنا حقاً هو هذا التوجه للتنصل من الأنوثة وإدانتها بصور متعدّدة؛ بدءاً من الإصرار على التزيي بأزياء مشابهة لأزياء الذكور – وخاصة في بيئة المال والأعمال- مروراً بتحميل الأنوثة كل أوزار الضعف الذاتي في كثير من نصوص وكتب القاصات والروائيات والشاعرات، وليس انتهاء بما تدرجه ناشطات بارزات في مواقع التواصل الاجتماعي من منشورات.
إنّ القيام بتحليل مضمون أولي لمنشورات بعض النسويات في الفضاء الإلكتروني، كفيل بأن يفضي بنا إلى ملاحظتين رئيستين؛ فعلى صعيد الشكل ثمة تعمد لاستخدام لغة ذكورية قاسية، وأحياناً نابية، لتأكيد التنصل من الأنوثة، فضلاً عن الميل لاستخدام اللهجة العاميّة الغاضبة. وعلى صعيد المضمون ثمة تعمد لإبراز التفاصيل والهوامش التي كانت المرأة تحرص على إخفائها، مثل التركيز على رثاثة هيأتها وإدمان التدخين والقهوة وعدم الاستحمام وتناول ما تيسّر من الطعام البائت في الثلاجة! وقد يعن لبعض المثقفين القول بأنّ هذه الوتيرة من الكتابة والانشغالات، لا تعدو كونها شكلاً من أشكال ما بعد الحداثة التي تأخر انطلاقها كثيراً في الوطن العربي، جرّاء انصياع الخطاب الثقافي لمواصفات الحداثة العقلانية والأنيقة لعقود طويلة، ثم انفجرت فجأة (ما بعد الحداثة) مخلّفة المئات من النصوص المشظّاة والشقية والمترعة ببطولة الهامش وهواجس تحطيم النسق واليقين، فضلاً عن فائض السخرية والتهكم. إنّ هذه المعاينة – في الواقع- لا تنفي ما ذهبنا إليه، بل هي تؤكده على الصعيد النقدي الخاص، وعلى الصعيد الفكري العام.

اقرأ أيضاً: النسوية الإسلامية: ما الجديد؟
وإذا كانت الصورة النمطية التي تتطوّع كثير من النسويات لترسيخها عن ذواتهن، لا تحتاج إلى مزيد شرح وتفسير، فإنّ الصورة النمطية التي يجتهدن في إنتاجها للرجل تستحق بعض التفصيل؛ فهو وغد وماكر وأناني وجبان ومتسلّط ومحظوظ جدًا لأنّه رجل! لكن أطرف بُعدٍ في هذه الصورة يتمثل في مواصفات الرجل الحبيب؛ فهو وغد وماكر ومتسلّط ومحظوظ أيضاً! بل إنّ ثمة ما يشبه الاستمتاع بوضاعة هذا الحبيب وما يشبه مطالبته بالاستمرار في هذه الوضاعة! ولا أحب أن أستعيد مع القارئ العزيز، المنظور الفرويدي العتيد بخصوص الحسد الأنثوي التاريخي للذكورة، فهو أقدم وأشهر من أن يستعاد لفهم مضمر الخطاب الرقمي لطائفة من النسويات الغاضبات- ولا يقل الخطاب الرقمي لكثير من الذكور الغاضبين عنفاً وساديّة – لكنني أحب التذكير بأنّ النسوية الغربية- التي مثّلت المعبد التاريخي الذي طالما تعبّدت في محرابه كثير من النسويات العربيات الغاضبات- قد اجتازت منذ سنين (حاجز الألم) التاريخي، وتخلّصت إلى حد بعيد من خطابات الغضب والضغينة وضرورة الثأر من الذكر الغاصب، وغدت أكثر استعداداً وحماسة للتأمل والتحليل والتركيب المعرفي الإنساني غير المُجَنْسن، جنباً إلى جنب الخطاب الذكوري المعرفي الإنساني. وخاصة بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة التي اتخذت من المرأة على جانبي الصراع، وقوداً مثالياً لتأجيج المواجهات الأيديولوجية التي جمّلت – في الواقع- كثيراً من واجهات المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فحوّلت المرأة الشيوعية إلى مزارعة بعضلات مفتولة، وحوّلت المرأة الرأسمالية إلى راقصة بسيقان ممشوقة!

النسوية الغربية مشغولة بالمرأة الهادئة المتأمِّلة الناقدة المفكّرة الأكثر استعداداً لتجاوز جروح التاريخ والأكثر تفهماً لضرورة التصالح مع الرجل

نعم، لقد امتلكت النسوية الغربية الشجاعة اللازمة للمراجعة، وتجاوزت طروحات الحداثة وما بعد الحداثة، وصولاً إلى الموجة النسوية الرابعة (ما بعد ما بعد الحداثة النسوية) التي تفاعلت وتساوقت جدلياً وإيجابياً مع طروحات (الطريق الثالث) الذي أبرز حقيقة أنّ الرأسمالية -رغم كل مساوئها البنيوية وبحكم جوهرها البراغماتي الراسخ- قد أفادت من ماركس أكثر مما أفاد منه الماركسيون أنفسهم، وأنها أكثر قدرة على توظيف الديالكتيك الاجتماعي من الأحزاب الشيوعية، فكان أن شرّعت تنظيرات (جيدنز) بخصوص (سياسات الحياة) كثيراً من الأبواب للإطلال على متطلبات الحيوات القادمة، والتي يقف على رأسها ضرورات: التفهم والتجاوز والتعاون.

اقرأ أيضاً: هكذا تقف الحركة النسوية في إيران بوجه نظام الملالي
وفقاً لهذا المآل، فإنّ النسوية الغربية في طريقها لتوديع المرأة الغاضبة الرافضة لسلطات المجتمع والدولة والعائلة والجامعة والعمل... والمرأة المنكوشة الشعر والمدمنة والمثلية؛ لأنها مشغولة بالمرأة الهادئة المتأمِّلة الناقدة المفكّرة؛ المرأة الأكثر استعداداً لتجاوز جروح التاريخ والواقع، والأكثر تفهماً لضرورة التصالح مع الرجل، والأكثر اعتزازاً بأنوثتها وأزيائها وعطورها، إيماناً منها بأنّ ما أنتجته من خطابات غاضبة في عقود خالية، لا يقل تحيّزاً أو تعصّباً عما أنتجه الرجل المتحيّز والمتعصّب طوال قرون.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية