أزمة الإسلام السياسي في سياق أزمة المدن العربية

أزمة الإسلام السياسي في سياق أزمة المدن العربية

أزمة الإسلام السياسي في سياق أزمة المدن العربية


05/08/2023


تعكس الجماعات الإسلامية السياسية أزمة المدن العربية، فالتشدد الديني ينشأ بديلاً حين تعجز الطبقات والمؤسسات الاجتماعية والتنظيمية للمدن عن تشكيل الناس وفق أغراض المدن وأهدافها، وفي غياب التشكلات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية المؤثرة في تشكيل العلاقات السياسية وبناء المجتمعات تظهر بطبيعة الحال الجماعات الدينية السياسية والاجتماعية إطاراً لتشكيل الناس واستيعابهم. هل نواجه التشدد والتريف بالتمدن؟ نعم بالتأكيد، فلا حاجة لإثبات ذلك. لكن لا بأس في هذا السياق من اختبار النظر إلى التشكلات "الإسلاموية السياسية" باعتبارها واحدة من الأعراض والمشكلات التي نشأت عن تشوه المدن والمجتمعات، ومثلها التجمعات العشائرية والقرابية لأهداف انتخابية مدنية أو نقابية أو نيابية.

ولا بدّ من الاستدراك هنا وتأكيد القول وتكراره أيضاً بأنّ النقد ليس موجهاً أساساً إلى الدين أو العشائرية، ولا يدعو الكاتب إلى إقصائهما وتهميشهما، فالدين والعشيرة والأسرة مصادر للتشكل والتضامن وتنشئ قيماً مهمة وضرورية لحماية المجتمع ومصالحه وأهدافه، ولكن الفكرة الأساسية هي أن توضع هذه المصادر في مكانها الصحيح والملائم، الدواء على سبيل المثال ضروري جداً لحياة الناس وشفائهم ولكن يجب أن يستخدم لهذا الهدف، وسوف يؤدي استخدامه طعاماً أو للتسلية أو الضيافة أو التوسع في وصفه واستخدامه من غير قواعد وضوابط صحيحة إلى عكس أهدافه، ولا يعني انتقاد ذلك أبداً مهاجمة الدواء أو الدعوة إلى الاستغناء عنه! فأزمة المجتمعات والدول مع "الإخوان المسلمين والإسلام السياسي بعامة" ليست في الإسلام بالتأكيد ولكنها في مجالات توظيفه والصراع عليه والصراع حوله.

في غياب التشكلات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية المؤثرة في تشكيل العلاقات السياسية وبناء المجتمعات تظهر بطبيعة الحال الجماعات الدينية السياسية والاجتماعية إطاراً لتشكيل الناس واستيعابهم

 

يقول اريك هوفر (المؤمن الصادق) إنّ الحركات الجماهيرية المتطرفة سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم قومية، برغم الاختلافات فيما بينها؛ تولد في نفوس أتباعها استعداداً للموت وانحيازاً للعمل الجماعي، وجميعها تولد الحماسة والأمل للكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وجميعها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها. فالتطرف واحد وذو طبيعة واحدة سواء كان تطرفاً دينياً أو قومياً أو إيديولوجياً، وتتشابه الحركات الجماهيرية أيضاً في إخلاصها وإيمانها وسعيها إلى السلطة، وفي وحدتها واستعدادها للتضحية. إنّ الإحباط في حد ذاته كما يقول هوفر يكفي لتوليد معظم خصائص أتباع الجماعات المتطرفة.

عودة إلى أزمة المدن العربية التي تلخص الأزمات السياسية والاجتماعية برمتها، لأنها مبتدأ الإصلاح، ومبتدأ الفساد أيضاً. يقول المقريزي صاحب كتاب "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" والمعروف بخطط المقريزي: "وأذكر ما بمدينة القاهرة من الخطط والأصقاع، فتتهذب بتدبر ذلك نفس القارئ وترتاض أخلاقه، فيحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويتجنبه" فالتفكير والتجمع على أساس الخدمات والمؤسسات المدينية والارتقاء بها ينشئ الخير. والعكس بطبيعة الحال فإن غياب هذه الحالة ينشئ الشر.

المدن وبخاصة العواصم في توسعها السريع، تحولت إلى قرى عملاقة، حولها الوافدون إليها إلى ريف ممتد بدلاً من أن تحولهم إلى متمدنين، وهذا ينشئ متوالية من الأزمات والتوترات؛ فالمجتمعات المدينية في خدماتها واحتياجاتها المعقدة تحتاج إلى منظومة من الثقافة والقيم والعلاقات والتشكيلات الاجتماعية المكافئة لهذه الاحتياجات والأولويات، البلديات، ومنظمات المجتمع المدني، والخدمات الأساسية والاجتماعية والترويحية، وحين تعجز الدولة والمجتمعات عن تلبية أولويات الناس وتطلعاتهم تتحرك منظومات بديلة تشكل الناس حسب روابط القرابة، أو تتحرك الجماعات الدينية ليس لأجل أن يكون الدين مصدراً للتمدن والارتقاء والقيم المشتركة لجميع الناس ولكن لأجل التجمع والتحرك نحو خدمات وأهداف يراها الناس ضرورية ومُلحّة في المدن والمجتمعات، مثل التماسك والتكافل والرضا، أو الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، والأكثر مدعاة للتجمع والتأييد هو الوعود الكبرى بالخلاص، سواء في الدنيا أو الآخرة!

أزمة المجتمعات والدول مع "الإخوان المسلمين والإسلام السياسي بعامة" ليست في الإسلام بالتأكيد ولكنها في مجالات توظيفه والصراع عليه والصراع حوله

 

بالتأكيد فإنّ هذه المقاربة لا تعفي الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية من المسؤولية وضرورة أن تصحح نفسها وتراجع طريقة تفكيرها لتكون في سياق أهداف المجتمع والدولة الأساسية وليست أزمة إضافية مع الأزمات الكثيرة المعقدة، وأن تكون جزءاً من الحلّ وليس جزءاً من المشكلة! فحين نتحدث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تنشئ المشكلات الاجتماعية، مثل الجريمة والإدمان والانحراف لا نبرر للمخطئين خطأهم ولكنا نحاول أن نبحث عن الحلّ وأن نساعد المخطئين أيضاً في علاج أنفسهم.

إنّ المدن تتشكل اجتماعياً حول منظومة من الأعمال والمهن والوظائف والخدمات والموارد، وحين يكون ثمة فجوة بين الواقع الاجتماعي وواقع السوق والأعمال والمؤسسات تنشأ الأزمة، .. كيف تكون الجماعات الإسلامية جزءاً من الحلّ وعوناً للمجتمع والدولة في الارتقاء والتنمية والإصلاح؟ أعتقد أنه لم يفت الأوان على ذلك، ونحتاج جميعاً، أفراداً وحكومات ومنظمات اجتماعية، أن نفكر معاً ومستقلين لنجيب على السؤال كيف نجعل الدين موردا للارتقاء والسلم الاجتماعي؟ كيف نخرج من الصراع الاجتماعي والسياسي إلى العمل؟ أو لنقل ببساطة كيف نجعل الفقر والبطالة عدواً مشتركاً لنا جميعاً نتنافس ونتعاون في مواجهته؟

ربما تكون المسألة في أنّ الإصلاح الحقيقي الذي يرتقي بالكرامة والحريات ومستوى الحياة والتنمية الإنسانية ويؤمن بالحريات الشخصية والاجتماعية؛ تقوم عليه مجموعات وطبقات لا تملك جلد النضال والعمل والتضحية لأجل فكرتها كما هو الحال في الجماعات الدينية سواء المتشددة منها أو المعتدلة، فهم غالباً من الطبقات الوسطى ذات الحسابات والأفكار المنضبطة والبراغماتية، وينتمون إلى أعمار لا تملك من الحماس والصحة والحيوية ما يدفعها للتظاهر والاحتجاج والتجمع في الساحات، ولا تملك أفكارها وتصوراتها قاعدة اجتماعية وجماهيرية واسعة وشاملة؛ لا تملك سوى الوعي والسأم .. وسلبية لا تضر الفساد والاستبداد.

مواضيع ذات صلة:

هكذا جعلت حركات الإسلام السياسي المساجد معقلاً للعمل الدعوي

ما بعد الإسلام السياسي: هل انتهى الشكل التقليدي للحركات الإسلامية؟

"الإسلام السياسي" انتهى في الجزائر




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية