التحولات الكبرى: الطبقة الوسطى مضافاً إليها الإنترنت

التحولات الكبرى: الطبقة الوسطى مضافاً إليها الإنترنت

التحولات الكبرى: الطبقة الوسطى مضافاً إليها الإنترنت


27/12/2023

يمكن وصف الأحداث والتحولات التي تجري في العالم منذ أواخر الثمانينات وانتهاء بـ "الربيع العربي"، وما صحبها من أصوليات دينية وقومية وتحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية، بمقولة "الطبقة الوسطى مضافاً إليها شبكة الإنترنت"، ففي ملاحظتها وإدراكها الواضح للفرق بين واقعها وما تتطلع إليه تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وتبحث عن أدوات وفرص للتأثير، كما نشأت أيضاً أزمات وتحديات، وقد أتاحت الشبكية القائمة حول الإنترنت وشبكات التواصل فرصاً جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق يسعى للعمل والتشكل نحو أهدافه وتطلعاته، وفي التعولم التقني والاقتصادي والثقافي الذي يشكل العالم اليوم يتشكل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه، مستمد من اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم من أحداث وتطورات، هذه القدرة الواسعة على الاطلاع والمشاركة التي أتاحتها الشبكية عرّفت المجتمعات بما ينقصها، وما يمكن أن تفعله، وما يجب أن تكون عليه.

إنّ كل مرحلة من المراحل الاقتصادية والاجتماعية تفرض طبيعة نخبها وقياداتها، من الأرستقراطيين وملاكي الأراضي والمواشي والقبائل في مرحلة الاقتصاد والمجتمعات الزراعية، إلى المهنيين والأحزاب والقادة السياسيين والعسكريين في مرحلة الصناعة، لكن ما يميز المرحلة الحاضرة، التي يمكن وصفها بالشبكية والعولمة؛ أنّها جعلت الناس جميعهم على قدم المساواة تقريباً في التأثير والمعرفة والمشاركة، ولم تعد المجتمعات تقودها أحزاب ونخب سياسية أو مؤسسات هرمية وقيادية، فـ "الربيع العربي" تغيير مستمد من حراك الطبقات والمصالح والمجتمعات بشبكيّتها، إنّه تعبير واضح عن التحولات الكبرى والجذرية من الهرمية إلى الشبكية، ومن الأرستقراطية والنخب إلى الطبقة الوسطى، ومن الحتمية إلى الاختيار، ومن التلقي إلى المشاركة. الدول والمجتمعات تتحول إلى شبكة ليس لها مركز؛ إذ كل عضو في الشبكة قادر على التأثير والمشاركة والوصول (Access) على قدم المساواة مع الآخرين مهما كانت ثرواتهم ومواقعهم.

يمكن وصف الأحداث والتحولات التي تجري في العالم منذ أواخر الثمانينات وانتهاء بـ "الربيع العربي"، وما صحبها من أصوليات دينية وقومية وتحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية، بمقولة "الطبقة الوسطى مضافاً إليها شبكة الإنترنت"

الثورة الفرنسية (1789) والثورة الأمريكية (1776) كانتا تعبيراً عن أثر الصناعة والآلة، ثورة المحرك البخاري، التي أنشأت المدن والأحزاب والطبقات الوسطى، والرواية والموسيقى والفنون، ولكنّ "الربيع العربي" تعبير عن "الشبكية"، والمجتمعات والموارد والثقافة التي تتشكل حول الشبكة، والتي أنشأت المجتمعات التي تعلم نفسها بنفسها، والتي تحيط عبر شبكة الإنترنت بكل شيء وبدون وصاية، وفي مسار معبّر: من رجل الدولة إلى رجل الأعمال إلى رجل الشارع، هذه باختصار قصة التحولات السياسية والاجتماعية منذ قيام الدولة الحديثة. كانت الدولة هي مفتاح التنمية والنهضة والصراع، ثم هبط القطاع الخاص كحلّ لفشل الدولة، واليوم تنهض المجتمعات لتكون شريكاً مكافئاً للقطاع العام والقطاع الخاص في الموارد والتأثير، ثم ينهض الفرد أو الذات الفاعلة ليكون ضامناً شريكاً أو بديلاً للقيم والسياسات والمصالح. 

قامت مشروعات الاستقلال والوحدة والتحرير والنهضة للدول والحركات مصحوبة بروايات تحررية قومية أو أممية، تشارك في إنشائها أو تشكل تحدياً لها، ومدعومة بالكهرباء والآلة. ثم هبطت الشركات لتكون شريكاً أو بديلاً، وجاء معها على نحو مستقل الجماعات الدينية والأصولية، وشاركت في المشهد السياسي وفي بعض الأحيان والأماكن هيمنت عليه، جاءت الشركات والجماعات الدينية مدعومة بالإعلان والترويج والدعوة والاستهلاك. واليوم تصعد المجتمعات شريكاً على أساس تحسين الحياة، ومدعومة بالإنترنت.

في المرحلة الأولى تراجعت "الديمقراطية" لمصلحة التنمية والتحرير، ولم تكن هدفاً اجتماعياً وشعبياً، وأوقفت إنجازات ديمقراطية غير مأسوف عليها. وفي المرحلة الثانية لم تكن الديمقراطية مطلباً أو أولوية لدى المجتمعات، وإن كانت تجري انتخابات نيابية ونقابية وبلدية، ولكنّها لم تكن فلسفة أو أسلوب حياة أو مطلباً جوهرياً تقوم عليه مصالح الناس وأعمالهم.

وفي المرحلة الأولى كانت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هرمية تسلسلية، يصعد الناس في الهرم ويهبطون من خلال الدولة، وبحسب قواعد وتقاليد بيروقراطية قائمة على المهارات والتعلم والارتقاء والقرابة والاستبعاد والإقصاء والتهميش والولاء والمعارضة، وفي مرحلة الخصخصة وهيمنة الشركات ورجال الأعمال جرت تحولات عميقة في بنية الهرم وداخله، وإن حافظ على مظهره الخارجي، صارت في أعلاه نخبة مغلقة احتكارية لا تكاد تخترق ولا يمكن الوصول إليها إلا بقواعد قاسية ومحكمة من القرابة والتبعية والشراكة والمصالح، وتكدست في القاع أغلبية محرومة ومهمشة، لا أمل لها بالارتقاء، وفي مرحلة الدولة استخدمت المعرفة والموارد لبناء الدولة ومؤسساتها وصياغة المجتمعات وتحديثها وتحديد هويتها، وفي مرحلة الخصخصة جرت عمليات احتكار للفرص وتهميش واسع للمجتمعات، وفي المرحلة الثالثة تبدو الدول والمجتمعات (حتى الآن) تمضى إلى المغامرة والتجربة.

لقد عبّر "الربيع العربي" بكلّ ما صحبه من آلام وتحديات وانهيارات عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة وموارد وأعمال ونخب وقيم وأفكار وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدراً هائلاً من التحولات الكبرى والجذرية، وتبدو الدول والمجتمعات اليوم بصدد تشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة ومختلفة، وظهور نخب وقيادات ومجموعات جديدة ومختلفة أيضاً.  

عبّر "الربيع العربي" بكلّ ما صحبه من تحديات وانهيارات عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة وموارد وأعمال وقيم وأفكار وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدراً هائلاً من التحولات الكبرى والجذرية

جاءت العولمة في مرحلتها التسعينية محملة بالوعود والآمال المفرطة والتفاؤل حول انفتاح الأسواق وتحرير التجارة وانتشار المؤسسات الديمقراطية والدساتير الليبرالية والحكم الرشيد والتوسع النشط لحقوق الإنسان والإمكانات الهائلة للإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية المتعلقة بها، ولكنّها جاءت أيضاً مصحوبة بموجة صعود للأزمات الإثنية والعرقية والحروب الأهلية، والأصوليات الدينية والقومية واليمينية والتطرف والإرهاب، وفجوة متسعة بين الفقراء والأغنياء في العالم وفي الدولة الواحدة، ثم تُوِّجت بأزمة اقتصادية عالمية ما زالت تنشئ حراكاً في جميع أنحاء العالم، ليس "الربيع العربي" سوى واحدٍ من تجلياتها وتحولاتها الكبرى الجارية أو المتوقع حدوثها.

عندما كانت العولمة الليبرالية في مرحلة الزهو والصعود، نشأت حركات واسعة ونشطة لمناهضة العولمة، ولكنّ هذه الحركات اكتشفت بسرعة أنّها مؤسسات أنتجتها العولمة نفسها، فتحولت بسرعة للتعبير عن نفسها بأنّها العولمة الاجتماعية البديلة، واليوم في مرحلة الأزمة، فإنّ العولمة برمّتها تبدو كأنّها تتحول إلى عولمة اجتماعية شاملة، أو كأنّ العولمة تتحول إلى الانتصار للفقراء والمهمشين، ولعل مردّ ذلك إلى أنّ أزمة الفقراء والأغنياء أصبحت أزمة واحدة ومشتركة.

وقد ردّت الأزمة الاعتبار للرأسمالية في نموذجها "الكينزي" القائم على الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة دون تخلٍّ عن حرية السوق، أو بعبارة أخرى، فإنّ الرأسمالية تجدد نفسها، أو تعيد صياغة نفسها على نحو جديد يقوم على المجتمعات والمسؤولية الاجتماعية للشركات، ومشاركة الدولة والقطاع الخاص والمجتمعات معاً، وتمكين المجتمعات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة من القيام بدور اقتصادي واسع.

مواضيع ذات صلة:

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية