التطرف بما هو الخوف والشعور بالتهديد

التطرف بما هو الخوف والشعور بالتهديد

التطرف بما هو الخوف والشعور بالتهديد


02/10/2023

تحدد كاثلين تايلور (كتاب القسوة وشرور العقل البشري) التهديدات التي لازمت الإنسان زمناً طويلاً أنّها تنتمي إلى (3) مجموعات: تهديدات تثير "الخوف" مثل الكوارث الطبيعية؛ البراكين والزلازل والفيضانات، والأعداء من الناس، والحيوانات المفترسة أو المؤذية، وتهديدات تثير "الغضب"، النزاعات الاجتماعية أو المالية، وتهديدات تثير "الاشمئزاز"، مثل الأشياء التي تهدد سلامة البدن بطريق غير مباشر بسبب السموم، أو الكائنات ناقلة المرض التي تطلقها، أو تهدد المكانة الاجتماعية لفرد ما.

لم يحقق أسلافنا نجاحاتهم ببناء العضلات حتى يتغلبوا على الوحوش الضارية والمتزايدة في الضخامة، ولكنّ نجاحهم كان بأن طوروا القدرات اللازمة للعمل كجزء من جماعة، وأهم هذه القدرات وأعلاها هو تخمين وتصور ما سوف يحدث مستقبلاً... في كل من العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي المعقد والمسيطر باطراده، وقد واجهنا الطبيعة لأننا عرفنا أن نتنبأ بها، وأفضل الأفراد في القدرة على التنبؤ هم الأكثر احتمالاً للنجاة.

يستدعي الاشمئزاز الرفض، سواء بالتجنب أو الطرد، أو الحدّ من مصدر العدوى، ومن يعترض، فهو مثل المجذوم الذي يجب تجنّبه وعزله، وينشأ خيار طرد هؤلاء غير المرغوبين من بيننا، وإن لم يكن هذا ممكناً، فعلينا اللجوء إلى التدمير الجسدي، وما يعنينا هنا هو أنّ كل ذلك بدافع حماية الذات، كما هي ردود أفعالنا تجاه مريض مرضاً مُعدياً، لكنّ الجذام له علامات ظاهرة، بينما لا تظهر علامات في حالة الأفكار الخطيرة، وقد يفشل الطرف الثالث في فهم ردّ فعلنا المشمئز تجاه هذه الحالة، لأنّهم لا يرون التهديد لعقائدنا بالقدر نفسه الذي نراه، وربما تبدو لهم أفعالنا وردود فعلنا بلا مبرر أو قاسية.

إنّ الدماغ يعمل بطريقة معقدة، أكثر تعقيداً ممّا نتخيل وبدرجة كبيرة، وتملك عقولنا وسائل ينشأ عنها تراكيب ذهنية مفرطة تفوق ما نحتاجه ونرغبه منها

وتخلص تايلور إجابة عن سؤال لماذا توجد القسوة؟ إلى أنّ الناس يتسبّبون في الإيذاء والضرر لأسباب عديدة؛ كي ينقذوا حياتهم، ويحتفظوا بمكانتهم الاجتماعية أو يرفعوها، أو لكي يعلموا الشباب والصغار، أو لكي يفرضوا النظام...، ومن حيث مبادئ الأخلاق فإنّ كل هذه التبريرات تكفي حتى نتحاشى تهمة القسوة، خصوصاً عندما يكون التهديد سريعاً وفيه خطر واضح على الحياة أو على جانب رئيسي فيها، أو يهدد الأخلاقيات العامة، لكنّ بعض أشكال الإيذاء تستخدم لتفرض بُعداً اجتماعياً عند الاستجابة لتهديدات غير واضحة وليست داهمة، وقد لا تبدو خطيرة بصفة خاصة، أمّا في حالة التهديدات المعنوية، فإنّ الحاجة إلى الإبعاد والعزل قد تكون غير مقنعة لطرف ثالث، خصوصاً إذا كان هذا الطرف لا يشاركنا معتقداتنا، فماذا يعني الدفاع ضد تهديد ماحق لهويتنا إذا عرفناه وكان رمزيّاً وليس ماديّاً؛ وهذا يمثل قسوة بالنسبة إلى المراقب البعيد أو الضحية.

وبما أنّ القسوة فعل، فنحن في حاجة إلى أن نسأل عن السلوك ونتحرّاه، "والناس تبدأ بالأفعال وليس بالأفكار"، وعلينا أن نرى كيف يأخذ دماغ الإنسان حزمة من المؤثرات؛ ملاحظات، ذكريات، معتقدات، رغبات، عواطف، وغالباً ما يتحول كل ذلك إلى ردّ فعل ذكي وحقيقي.

يقول دافيد فرانكفوتر: "في كل القضايا التاريخية هناك أسطورة المؤامرة الشريرة التي تحرك الناس بأعداد كبيرة لارتكاب أعمال وحشية ضد المتهمين من المتآمرين، ويعني ذلك ما هو أسوأ من الجرائم الفظيعة التي ترتكب على مدار التاريخ في طقوس وشعائر فاسدة، ولكنّها ترتكب على سبيل تصفية بعض العقائد من العالم الواقعي".

الناس الذين نصفهم بأنّهم ضعفاء، خونة، أنانيون، مقززون، يصبحون "آخرين"، ويشكلون تهديداً إذا تحدوا هذه الأنماط بأن يكونوا عكس ذلك أقوياء، جديرين بالثقة، عطوفين، لديهم مشاعر دافئة، يهتمون بالغير.

القسوة بما هي فعل وسلوك إنساني تفهم بمعرفة عمل الأجهزة العصبية في الإنسان، فهذه الأجهزة هي الوسيلة التي تتحول بها معلوماتنا عن أجسامنا وتاريخنا الشخصي وبيئاتنا إلى تجارب نحسها، وإلى أفكار ومعتقدات وذكريات وعواطف وأمزجة ومؤثرات غير واعية تحكمنا، وإلى المؤشرات الحركية التي نطلق بها حركاتنا، والإقصاء ونبذ الغير والتقمص العاطفي والغضب والشفقة والرغبات والازدراء والنزوع والمجازفة والحاجة إلى ضبط النفس...، وفي هذه المادة العصبية تنشأ الرقة واللطف والقسوة.

وقد تبدو صادمة مقولة كورت فونجوت في رواية جالاباجوس (Kurt Vonnegut Galapagos):

"ما المصدر الخفي للشرور التي نشاهدها ونسمع عنها؟ ببساطة؛ ليس لدينا غير دارات كهربائية عصبية زائدة التعقيد؟ وأجيبك فأقول: لا يوجد مصدر آخر. لقد كان كوكبنا بريئاً جدّاً لولا هذه العقول الكبيرة العظيمة. إذ تبدو مسألة التطرف والقسوة مسألة عصبية قد يتسنى علاجها في العيادات الطبية!

تقول تايلور: إنّ الدماغ يعمل بطريقة معقدة، أكثر تعقيداً ممّا نتخيل وبدرجة كبيرة، وتملك عقولنا وسائل ينشأ عنها تراكيب ذهنية مفرطة تفوق ما نحتاجه ونرغبه منها، وأفكارنا ومعتقداتنا ورموزنا وملاحظاتنا هي كقبضة من ضباب، أو هي صلبة مثل حجر من الجرانيت، وفي الحالتين نحتاج في تمثلها والتعبير عنها إلى أداء عصبي، وتتناسب قوة هذه الأفكار مع قدرتها على التأثير على حياة الفرد أو صياغتها وفي التغييرات الجسمانية التي تحدثها. أمّا بالنسبة إلى الوازع الأخلاقي، فإنّ ذلك يعني أنّه ما لم تكن الأنماط القامعة نشطة في أثناء كون الحافز في مرحلة الاستعداد "التحضير"، فإنّ هذا الوازع لن يكون له صوت في  الجهاز العصبي، ولذلك سوف يفشل في التأثير في قرار الفعل.

وهناك اثنان من المعاني يستحقان الأخذ في الاعتبار:

الإنسان قد يملك كل ما يمكن أن يعطيه له المجتمع من تربية أخلاقية، وقد يبدي تفهماً واضحاً للمبادئ الأخلاقية الحاكمة لثقافته، وربما يتصرف بحنان وطيبة مع من حوله، ومع ذلك يصبح ممّن يعذب الغير أو يكون قاتلاً، وقد يتعلم بالفعل كيف يقتل الأطفال الرضع دون التخلي عن أخلاقياته، ولكنّه قد يجد من الصعب أن يعدّل نفسه ويعود للعيش السويّ المألوف فيما بعد، فالتعاليم الأخلاقية لا جدوى منها إذا لم تفعّل ويعمل بها وتكون مشاركتها فعالة ونشطة عند اتخاذ قرار الفعل.

إنّ إقصاء الآخر، ولو بشيء من الاعتدال، يجهز الناس ويؤهلهم للعدوان، سواء شجعهم هذا السلوك بوضوح أم لم يشجعهم على أن يسلكوا سلوكاً عدوانيّاً

إنّ إقصاء الآخر، ولو بشيء من الاعتدال، يجهز الناس ويؤهلهم للعدوان، سواء شجعهم هذا السلوك بوضوح أم لم يشجعهم على أن يسلكوا سلوكاً عدوانيّاً، وعند التفكير في فعل قاسٍ فإنّ ذلك يعني اتخاذ خطوة في سبيل إقصاء الآخر؛ ممّا يؤدي إلى السلوك القاسي، وسواء اتخذت الخطة التالية أم لا؛ فذلك يعتمد على الطريقة التي سيكون فيها ردّ فعل الشخص على فكرة كونه قاسياً، فقد يتقبل الفكرة بلا جدال على أنّها فكرته هو بذاته وطبيعته كجزء من دوامة نشاطه الذهني الدائم الذي يشعر بأنّه سار، أو لم يعد غير سار؛ كأيّ عمليات ذهنية يومية، وإذا كان الأمر كذلك، فستكون هناك "مناقشة" محدودة بين الخلايا العصبية تميل بالاستنباطات العصبية الكامنة تحت الفكر إلى أن تقوى، وعندما تنشط وتثار بعد ذلك سيكون الشخص أكثر استعداداً لأن يعبر "عتبة" هذا التفاعل إلى التعبير اللغوي... ربما للأصدقاء والمقربين أوّلاً، ثم بصراحة وتوسع أكبر إلى أن ينشرها عبر الشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت"، فيمتدحه الآخرون ممّن يماثلونه في الفكر على ما فعله.

ومن جهة أخرى، لو كان الفكر يثير مشاعر غير سارة أو يحدث تنشيطاً مصاحباً لأنماط عصبية "غير ذاتية"، فإنّ تصارع الخلايا العصبية الناتج عن ذلك سوف يدفع بإشارات مثبطة قامعة من مناطق أخرى في المخ كي تعترض سبيل انسياب الفكر حتى يصفى التصارع (والقياس الواقعي لعمل هذه الإشارات المخّية يماثل من يمدّ قدمه كي يمنع مرور شخص ما)، وعملية تصفية الصراع هذه إمّا أن تصف الفكر بأنّه مقبول للنفس ويتوافق مع الذات وتصدر حكمها بأنّه داعم شرعي وقانوني لسلوك الفرد، وإمّا أن ترفضه باعتباره غير شرعي "وغير ذاتي".

مواضيع ذات صلة:

محاولة لتعريف عملي للاعتدال والتطرف الديني

كيف نميز بين التطرف والاعتدال؟

لماذا تحضّ جماعات التطرف أعضاءها على المبالغة في العبادات؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية