التطرف بما هو الهروب من استحقاقات الإصلاح

التطرف بما هو الهروب من استحقاقات الإصلاح

التطرف بما هو الهروب من استحقاقات الإصلاح


15/04/2024

بعد حالة من الثبات المديد لقرون متطاولة، يواجه الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي أيضاً حالة من التغيرات تعصف بكل شيء تقريباً، وكأنّ التغير هو الأصل أو القاعدة، والثابت هو الاستثناء، أو لا يكاد يوجد أو يمكن ملاحظته، والحال أنّ التغير هو الأصل في الحياة والموارد والأفكار، لكن إذا أمكن تثبيت الاستثناء كما حدث في عالم العرب والمسلمين، فليس ذلك أصلاً، ولم يعد ممكناً، فالخطاب تعريفاً هو متغير أو قابل للمراجعة والتغيير، وبغير ذلك لا يعود خطاباً، كما لا يجعله الثبات مقدساً أو ديناً.

لم تعد هذه المقولات أفكاراً أنيقة أو صعبة الفهم والتداول، ففي مواجهة هذا الفشل الذي يغمر الحياة والموارد والمفاهيم والقيم، لم يعد سوى الشك لحماية ما تبقى من عالمنا، وحتى لا يطويه الخواء سوى الشك والمراجعة للبديهيات، فضلاً عن النظريات والفرضيات، لم يعد "الديني" ديناً إلا في مجال الإيمان والعبادة والمحرمات الأساسية الكبرى والمنصوص عليها بوضوح، وأمّا المعالجات والتأويلات الفقهية أو المجالات العامة، فإنّها حالة من عدم اليقين. ولم يعد مجال للخطاب الديني سوى أن يكون إنسانياً، بمعنى أنّه منتج إنساني، وليس مقدّساً نزل من السماء، وإن كان مستمداً من الدين الذي يؤمن أتباعه بأنّه نزل من السماء. ولا بدّ أن يكون متغيراً وغير يقيني، فهو بالضرورة، كونه "إنسانياً"، قابل لأن يكون خطأ ويخضع للمراجعة والتغيير والتطوير. وهو نسبي، بمعنى أنّه يسعى إلى الصواب ويحاول الاقتراب منه، ولكنّه ليس الصواب المطلق.

هذا الخطاب الديني القائم الذي يغمر حياة الناس لم يعد منفصلاً عن الفشل الذي يغمرهم، حتى لو ادّعى أنّه يواجه التطرف والكراهية

 

هذا الخطاب الديني القائم الذي يغمر حياة الناس لم يعد منفصلاً عن الفشل الذي يغمرهم، حتى لو ادّعى أنّه يواجه التطرف والكراهية، ليس ثمّة سوى تطرفات تقاتل بعضها بعضاً، ولم يبقَ للمتديّنين وسواهم إلا أن يميزوا بوضوح وصرامة بين الديني وغير الديني، والثابت والمتحول، والمقدس وغير المقدس. وأن يفكروا في السياق الصحيح للدين في الدولة والمجتمعات، وفي جميع الأحوال يجب الاعتراف بأنّه لا يمكن مواجهة التطرف والكراهية والعنف الذي يهدد الحياة والوجود بالخطاب الديني المتداول، حتى وإن كان يدخل في مواجهة صادقة وجدية مع الإرهاب.

صحيح أنّ الدول ظلت لآلاف الأعوام تتشكل حول القلاع والهياكل حتى صار تعريف المدينة في قواميس اللغة بأنّها القلعة أو الحصن، لكنّ ذلك لا يغير من حقيقة أنّها قلاع وهياكل تتداعى وتنحسر، ليس يصلح لهذا العالم المتغير سوى التغيّر! وإن لم نقدر على مواجهة الجنون، فليس أقلّ من حرمانه من الحواضن الاجتماعية والملاذات الآمنة التي ننفق عليها من الموارد العامة ومن أقوات المواطنين الجائعين والخائفين.

في هذا الضبط للإنفاق العام على المؤسسات الدينية يمكن على الأقل حماية الموارد، وتحويل التطرف نفسه إلى مجهود شاق على أهله أو أكثر صعوبة، وتغييب أو تقليل المصالح والدوافع المالية والشخصية في الاتجاهات الدينية، ويمكن أيضاً حرمان الجماعات المتطرفة من الاستفادة من الموارد المتاحة في مؤسسات الدولة التعليمية والدينية والاجتماعية.

ولا بأس بعد ذلك في تشجيع ودعم المجتمع الأهلي ليشارك في المواجهة ويتحمل مسؤوليته، ويطور موارده المستقلة وفرصه، فليس أقدر من المجتمعات على مواجهة الأزمة، أو في عبارة صريحة؛ لا يمكن مواجهة الإرهاب والتطرف والمجتمعات نفسها تسودها الكراهية التي تكاد تذيب الصخر، فما حدث في عالم المسلمين في الأعوام القليلة الماضية حول مواجهة المتطرفين إلى تطرف أشد نكاية بالناس وحياتهم وكرامتهم، ما يجعلنا في انتظار بدهي وحتمي لدورة جديدة من العنف والانتقام.

الإصلاح اليوم يبدو مُرهقاً، ويحتاج إلى خبرات وأدوات جديدة ووعي جديد أيضاً، وفي ذلك يجب إطلاق الطبقات والمجتمعات لتتحرك بحرية وفي مسار من التجريب

 

الإصلاح اليوم يبدو مُرهقاً، ويحتاج إلى خبرات وأدوات جديدة ووعي جديد أيضاً، وفي ذلك يجب إطلاق الطبقات والمجتمعات لتتحرك بحرية وفي مسار من التجريب، بما في ذلك من آلام وأخطاء وتضحيات بجزء كبير من الطبقات والمؤسسات السائدة على النحو الذي تحقق به الانسجام الممكن بين وعيها وواقعها؛ إذ إنّه اليوم في ظل الشبكية وانتشار المعرفة يتشكل اجتماعيّاً وجماهيريّاً ذكاء جمعي ووعي ومعارف واسعة ومتقدمة تنتمي إلى اللحظة القائمة، لكنّ الواقع المهيمن ينتمي في قيمه وأفكاره ومؤسساته وعلاقاته إلى فترة سابقة لم تعد مقوماتها موجودة. وحتى لا تتكرر المواجهة ومحاولات التأجيل مع الاستحقاقات والتداعيات التي نشأت حول المطبعة والكهرباء والمحركات البخارية، فإنّ ما نحتاج إليه بالفعل هو التعجيل بمواجهة ذواتنا بالحقيقة الناشئة عن الشبكية وتحولاتها الاجتماعية والحضارية، وفي ذلك فقط نوقف الصراع، ونقلل من الخسائر والهدر في الأنفس والموارد؛ لأنّها مواجهة قادمة حتماً لكنّ التأخر فيها يزيد الآلام والتضحيات.

مواضيع ذات صلة:

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية