التطرف بما هو رد فعل على الفوضى التي تتحدى العالم

التطرف بما هو رد فعل على الفوضى التي تتحدى العالم

التطرف بما هو رد فعل على الفوضى التي تتحدى العالم


10/01/2024

تتشكل (تشكلت) بيئة موارد وأعمال جديدة ومختلفة جذريّاً عمّا كانت عليه الحال طوال قرون عدة مضت. يتلخص التطور الاقتصادي والاجتماعي للبشرية في أحد جوانبه بالمسار التالي: من "الياقات الزرقاء" إلى "الياقات البيضاء" إلى عمل بلا ياقات. والواقع أنّه مفهوم رغم ما فيه من حيرة وارتباك يعبّر بدقة جميلة عن تشكلات الاقتصاد والمجتمعات والثقافة في عصر الشبكية والمعرفة. وكأنّ الحيرة والشك بذاتهما يمثلان مورداً وقيمة جوهرية في الاقتصاد القائم اليوم، وما ينشأ حوله من قيم وأفكار.

ما تزال الحواسيب تتطور وتتضاعف قدراتها بحدود مرتين كل (18) شهراً، مغيرة كل وسائل الحياة والعمل، ومع تطور البرمجيات تتشكل عوالم جديدة من الفرص وتختفي عوالم أخرى

 

فمفهوم "الشبكة" يلغي فكرتي المركز والهرم اللتين استقرت عليهما البشرية طوال التاريخ المتاح لمعرفتنا، ولا تُعدّ موسوعة (ويكيبيديا) أو نظام (لينوكس) للتشغيل مثالاً نادراً لملاحظة كيف تتشكل موارد ومؤسسات ومنظومات للإبداع والمعرفة والإنتاج تتفوق بأضعاف مضاعفة على بنى تقليدية وراسخة للإنتاج والمعرفة، ماذا عن (مايكروسوفت وغوغل وياهو وجي ميل وفيسبوك وتويتر وإنستغرام والمدونات و"البدائل")؟ نحتاج إلى الملاحظة كيف يشكل الإبداع والمخاطرة جزءاً من الاقتصاد اليوم، وكيف يشكل أيضاً النخب والقيادات أو يهزها من جذورها، وكيف تتحول الشكوك والفوضى إلى مورد وأسلوب للحياة والإدارة، بل هي كما وصفتها كوندي ليزا رايس "الفوضى الخلاقة" دليل السياسة العالمية. هل استحضار الماركسية وازدهارها اليوم هو في حقيقته إدراك للمساواة شبه التامة والإدارة الذاتية المتحققة أكثر ممّا هو بحث عن حلول للأزمة الاقتصادية والمالية القائمة؟

ما تزال الحواسيب تتطور وتتضاعف قدراتها بحدود مرتين كل (18) شهراً، مغيرة كل وسائل الحياة والعمل، ومع تطور البرمجيات تتشكل عوالم جديدة من الفرص وتختفي عوالم أخرى.

ليس الجديد في هذه التقنيات وجودها بالفعل، ولكن انتشارها على نطاق واسع وبأسعار مخفضة، وتحولها إلى مواد وسلع استهلاكية سريعة الزوال مثل المناديل الورقية، وتحولها من إمكانيات سرية وتقنيات يحرسها "كهنة" من الأكاديميين والتقنيين إلى منتج يومي يستخدمه جميع الناس. ألم تكن الكتابة على سبيل المثال قبل فترة قليلة من الزمن مهارة خاصة ومحدودة وسرية، بل كان يجري منع تداولها، وقبل أقل من (150) عاماً كان الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية يعاقبون بالإعدام إذا تعلموا القراءة والكتابة.

ما الثقافة التي يفترض أن تتشكل؟ وما العلاقات الاجتماعية والسياسية المتوقع قيامها حول الاقتصاد الجديد القائم على موارد مختلفة عمّا تعودت عليه الحضارات والمجتمعات والدول، التي أنشأت ثقافة ومدناً وعلاقات ونخباً حول نظام اقتصادي لم يعد أغلبه موجوداً؟ فهل ستختفي هذه المدن والنخب والثقافات، كما اختفت على سبيل المثال المدن التي نشأت حول طرق القوافل التجارية؟

إنّ مرحلة الفوضى الاقتصادية والفكرية التي دخل فيها العالم مدفوعاً بتطور تكنولوجيا المعرفة تنشئ بطبيعة الحال تشكلات اجتماعية فوضوية أو غير متوقعة. وحتى يستوعب العالم هذه التحولات فإنّ التطرف يشكّل ملاذاً للخائفين والقناصين

 

تعود الأدوات والنظريات والمؤسسات التي تنظم الحياة المعاصرة إلى الثورة الصناعية؛ الدول الحديثة والطبقات والدساتير والتشريعات، والمدارس والجامعات، والنظريات الاجتماعية، فعلم الاجتماع القائم يعود إلى المفكرين (أوغست كونت، إميل دوركهايم، كارل ماركس، ماكس فيبر،...) الذين شغلوا بالتحولات الكبرى التي صاحبت الثورة الصناعية والثورات السياسية، لكنّها نظريات ومعارف لم تعد كافية، وربما غير ملائمة، لفهم وتنظيم الثقافة والمجتمعات الجديدة التي تتشكل حول اقتصاد المعرفة، وبدأت بالفعل تظهر تحديات ومآزق كبرى تجعل هذه المعرفة الهائلة والمتراكمة على مدى قرنين من الزمان جزءاً من التاريخ، ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي جون بودريار، الذي يُعتبر من أهم المنظرين في مدرسة ما بعد الحداثة، أنّ وسائل الاتصال الإلكترونية قد دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا.

ويقول أولريخ صاحب نظرية "مجتمع المخاطرة": إنّ المجتمع الصناعي بدأ بالاندثار مفسحاً المجال لمجتمع جديد تسوده الفوضى، وتغيب فيه أنماط الحياة المستقرة ومعايير السلوك الإرشادية، ويرى عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز أنّ مجتمع المعلومات المعاصر يتميز بظهور "الشبكات" و"اقتصاد الشبكات"، والنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد اليوم إنّما يقوم على ثورة الاتصالات العالمية، ولم يعد قائماً كما كان يفكر كارل ماركس على الطبقة العاملة أو على إنتاج السلع المادية، بل إنّه يقوم على التقدم في شبكات الاتصال والحوسبة التي أصبحت هي الأساس لتنظيم عملية الإنتاج.

إنّ مرحلة الفوضى الاقتصادية والفكرية التي دخل فيها العالم مدفوعاً بتطور تكنولوجيا المعرفة تنشئ بطبيعة الحال تشكلات اجتماعية فوضوية أو غير متوقعة. وحتى يستوعب العالم هذه التحولات فإنّ التطرف يشكّل ملاذاً للخائفين والقناصين.

مواضيع ذات صلة:

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية