التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة

التطرف بما هو رد فعل معاكس لما بعد الحداثة


07/12/2023

هل التطرف والكراهية يعكسان الخوف والنكوص في مواجهة صدمة ما بعد الحداثة؟

 تتجه الأمم حسب نظرية أرنولد توينبي "التحدي والاستجابة" في التعامل مع الصدمات التي تتعرض لها في أحد مسارين: النكوص إلى الماضي ومحاولة استعادته والتمسك به تعويضاً عن الواقع المرّ، أو محاولة استيعابها والتغلب عليها وتوظيفها إيجابيّاً. فهل تمثل الظواهر والحالات المتشكلة تفاعلاً مع مرحلة الشبكية واستجابة لها أو نكوصاً وخوفاً منها؟ هناك حالتان واضحتان؛ هما الشبكية وما صحبها من ظواهر اجتماعية وثقافية سمّيت ما بعد الحداثة، بما هي تحولات كبرى في مسار الإنسانية، والصعود الديني في العالم عامة وفي عالم المسلمين خاصة، وتشمل الظاهرة الدينية بطبيعة الحال طيفاً واسعاً ومعقداً من أنماط التدين وتطبيقاته، فإذا افترضنا أنّهما حالتان مرتبطتان ببعضهما بعضاً، فهل تعبّر الظاهرة الدينية عن التحولات المصاحبة لما بعد الحداثة؟ 

ثمّة احتمال أن تكون الحالة الدينية ظاهرة طبيعية مستقلة عن الشبكية وما بعد الحداثة، فهل هي كذلك؟ يستبعد هذا الاحتمال بداهة عند ملاحظة أبعاد الظاهرة واختلافها الكبير عن مسار وطبيعة الحالة الدينية على مدى القرون، وخاصة أنّ العالم، ومنه العالم الإسلامي، شهد حالة انحسار واسع للدين من السلوك والحياة العامة، ليعود في حالة غير مسبوقة في قوتها وشمولها وتأثيرها، وليدمّر (تقريباً) الأوعية والمؤسسات التقليدية للدين، مثل الجماعات الصوفية والدينية والشخصيات والمؤسسات الدينية التعليمية والروحية.

لم تعد المواجهة مع التطرف الديني مواجهة مع جماعات منظمة تحمل فكراً متطرفاً، ولكنّها مواجهة مع حالة اجتماعية سائدة

يمتلئ التاريخ بأمثلة وتجارب التحولات الإيجابية أو السلبية تجاه الصدمات والأحداث الكبرى، مثل الدول والحضارات التي انهارت بسبب التغير المناخي والجفاف، أو التي نهضت بسبب توظيف الموارد والتقنيات الجديدة، مثل الكشوف الجغرافية والآلة البخارية. ويمكن اليوم ملاحظة عدد كبير من الحالات والأمثلة والتجارب القائمة على التحولات الكبرى بفعل الحوسبة والشبكية، كما يمكن الاطلاع على عدد لا يحصى من الدراسات والتقارير المشغولة بالتحولات الكبرى؛ فقد نشأت مؤسسات وأعمال جديدة هائلة لم تكن موجودة قبل أعوام قليلة، واختفت مؤسسات صناعية وإعلامية وتعليمية كبرى وعريقة. وشغلت التقارير الدولية السنوية للأمم المتحدة والبنك الدولي بهذه التحولات ومحاولة فهمها وتوظيفها.

تمثل الشبكية، بما هي التطبيقات التكنولوجية للحوسبة والشبكات وما صحبها من موارد وأعمال واتجاهات جديدة في الصناعات والسلع والأسواق وتحولات في العلاقات والقوة والأدوار، صدمة كبرى للعالم؛ فهي أكبر وأهم موجة تحولات في تاريخ البشرية بعد موجتي الزراعة والصناعة.

لم تعد المواجهة مع التطرف الديني مواجهة مع جماعات منظمة تحمل فكراً متطرفاً، ولكنّها مواجهة مع حالة اجتماعية سائدة، فـ "الإسلام السياسي" تحوّل إلى "إسلام شعبي"، بل إنّ جماعات الإسلام السياسي، بمعنى العمل على تطبيق الشريعة بالوسائل السياسية السلمية، تخلت عن روايتها التاريخية المنشئة ولم تعد تنتمي إلى ما كانت تقدم به نفسها طوال عقود من الزمن، تحولت في الواقع إلى جزء من المنظومة السياسية العامة والسائدة، أو إلى جماعات وتيارات سياسية من المتدينين أو المحافظين، ولم تعد المواجهة معها أو حظرها وملاحقتها تضيف شيئاً إلى المواجهة مع التطرف والكراهية. 

الحال أنّه عندما تخلى (الإخوان المسلمون) عن "الخرافة" آمن بها الناس وتمسكوا بها، ربما لم تجرؤ بعد جماعات الإسلام السياسي على مصارحة الناس بأنّها لم تعد تؤمن بما تؤمن به الجماهير المؤيدة، والتي تنتخبها وتؤيدها لأجل أفكار وأهداف تخلّت عنها.

تنزع الجماهير غالباً إلى التعصب، وعلى هذا الأساس تنجح الاتجاهات اليمينية القومية والوطنية في الغرب وفي العالم، لكنّ نسبة كبرى من الجماهير في عالم العرب والمسلمين استبدلت بهويتها القومية والوطنية الهوية الدينية، وربما تكون المسألة أكثر وأعمق من الهوية، إذ من المتوقع أن تهيمن على الناس حالة من الخوف وعدم اليقين، ليس بسبب الفشل والهزائم فحسب، بل بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي هبطت على العالم من غير إعلان أو إنذار مسبق. 

وما تفعله الأنظمة السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، يشبه كثيراً ما يفعله المتطرفون أنفسهم: الانتحار والفناء!

لماذا لم تؤثر الحالة الدينية الكاسحة كما هو متوقع منها بداهة في حياة الناس وسلوكهم الاجتماعي والأخلاقي في الاتجاهات والأفكار المفترض أنّها منسجمة مع الأفكار والمبادئ الدينية؟ إذ لا يبدو ثمّة أثر للتدين في السلوك الاجتماعي السائد، والذي تغلب عليه مناقضه الدين، فما نراه اليوم في عالم العرب والمسلمين من الكراهية وغياب التسامح والتضامن في الحياة اليومية والسلوك الاجتماعي وقيادة السيارات وحركة المرور على نحو مملوء بالعنف والتهور، أو في حالات التحرش والسرقة والغش، يتناقض مع الإقبال الكبير على التدين. وإذا أضيف إلى هذا التناقض بين التدين الكاسح، والسلوك غير الاجتماعي الكاسح، ملاحظة انهيار كلّ أوعية التدين التقليدية؛ مثل الجماعات والطقوس الروحية والصوفية والمذاهب الفقهية والمؤسسات العلمية الدينية الأهلية، فإنّ تفسير الحالة الدينية القائمة والتنبؤ بمساراتـها يحتاج إلى البحث عـن مداخل واتجاهات أخرى في البحث والتأمل.

لقد ترافق صعود الحالة الدينية مع صعود الشبكية أو اقتصاد المعرفة، وهي الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت صعود تقنيات الحاسوب والاتصالات والإنترنت وغيرت في الموارد والعلاقات السائدة من قبل، ومن المتوقع في مواجهة عالم يحتضر وتختفي مؤسساته وأعماله وموارده وقيمه وأفكاره أن تسلك الأمم والمجتمعات، كما يقول أرنولد توينبي، في أحد اتجاهين: النكوص إلى الماضي ومحاولة استعادته والتمسك به تعويضاً عن الواقع المرّ، أو محاولة استيعابها والتغلب عليها وتوظيفها إيجابياً. 

هؤلاء الذين ينتحرون كلّ يوم، أو الذين يفاجئوننا بتحولاتهم كما لو أنّهم مستذأبون، يعكسون حالة النكوص والخوف العامة التي هي أقرب إلى الانتحار أو الفناء، وما تفعله الأنظمة السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، يشبه كثيراً ما يفعله المتطرفون أنفسهم: الانتحار والفناء!

مواضيع ذات صلة:

يزدهر التطرف حين يكون مفيداً

التطرف حين لا تعود المدن ملاذاً اجتماعياً وروحياً

التطرف والعشوائية الاجتماعية والحضرية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية