التطرف بمنظور الفلسفة وعلم النفس

التطرف بمنظور الفلسفة وعلم النفس

التطرف بمنظور الفلسفة وعلم النفس


05/09/2023

يساعدنا ديفيد باتريك هوتون؛ أستاذ علم النفس السياسي في جامعة وسط فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه (علم النفس السياسي)، في استيعاب الدراسات والنظريات التي اشتغلت بعلم نفس الإرهاب. ويشير هوتون إلى مجموعة من الكتب والدراسات التي صدرت في هذا المجال، مثل كتاب ريكس هدسون "علم نفس الإرهاب" 1991؛ وكتاب جون هورغان "شخصية الإرهابي". ويقول هدسون: "الذين يدرسون الإرهاب يتناولون الفرد الإرهابي أو الجماعة الإرهابية على مستوى جزئي من الدراسة، ذلك لأنّ المقاربة النفسية تركز على دراسة الإرهابيين بحدّ ذاتهم؛ كيف يتم تجنيدهم، وكيف يتم دمجهم في الجماعات الإرهابية، إضافة إلى أنّه يبحث في نوعية شخصياتهم واعتقاداتهم واتجاهاتهم ودوافعهم ومهنتهم كإرهابيين".

حاول هورغان تطوير "نموذج العملية" في فهم الإرهاب، محاولاً التوفيق بين النظريات السياسية النفسية الموقفية التي تردّ الإرهاب إلى البيئة المحيطة، وبين النظريات السياسية النفسية النزوعية التي تردّ الإرهاب إلى اتجاهات فردية شخصية لدى الإرهابي، مثل النرجسية والميل إلى الاكتئاب

وجهة النظر السائدة ترى الإرهاب بالطريقة التي يرى بها ستانلي ملغرام القتل الجماعي؛ أي كنتاج للظروف البيئية المحيطة بالفرد من حيث الأساس، وليس كنتاج للخصائص الشخصية للإرهابي، آخذاً بذلك وجهة نظر موقفية صرفة. ويعتقد معظم المحللين اليوم أنّه ليس هناك شخصية إرهابية ذات طابع واحد، فضلاً عن أنّ هناك قبولاً متزايداً للرأي القائل إنّ المتطرفين سياسيّاً "أسوياء" بشكل عام في العديد من الوجوه (ليسوا مجانين)، على الرغم من أنّهم يظلون، من دون شك، موجهين بإيديولوجيا "تبرر" أفعالهم.

وحاول هورغان تطوير "نموذج العملية" في فهم الإرهاب، محاولاً التوفيق بين النظريات السياسية النفسية الموقفية التي تردّ الإرهاب إلى البيئة المحيطة، وبين النظريات السياسية النفسية النزوعية التي تردّ الإرهاب إلى اتجاهات فردية شخصية لدى الإرهابي، مثل النرجسية والميل إلى الاكتئاب والتجارب السيئة التي مرّ بها الإرهابي في حياته وخاصة في طفولته، مثل التعرض للاعتداء والإهانة. ويقول هورغان إنّ الإرهاب ظاهرة معقدة لا يمكن ردّها حصريّاً إلى عوامل نزوعية أو عوامل موقفية، ويجب أن يأخذ تفسير الظاهرة بدمج كلا النوعين من العوامل. ويرى أنّ الاعتقادات التي يحملها الفرد وتنشئته الاجتماعية وتجاربه الحياتية وإحساسه بعدم الرضا وقدرته على تخيل بدائل أخرى لحياته، تؤدي جميعها دوراً في مشاركته في الإرهاب.

ما يميز الإرهاب عن غيره من أشكال العنف، هو أنّ الإرهاب يتضمن أفعالاً ترتكب بطريقة دراماتيكية لجذب الانتباه العام، وخلق مناخ من الرعب يتجاوز الضحايا الذين تعرضوا له. وتكون هوية الضحايا ثانوية أو غير مهمة للإرهابيين، لأنّ عنفهم يتجه إلى الناس الذين يشاهدون ذلك العنف. والتفريق بين الضحايا الواقعيين والجمهور المستهدف هو المعلم الرئيس للإرهاب الذي يميزه عن الأشكال الأخرى من النزاع المسلح؛ فالإرهاب مسرح. وبذلك يختلف الإرهاب عن القتل الجماعي أو الإبادة الجماعية؛ فالقتل أو الإبادة تهدف إلى قتل جماعة بالكامل، ولكنّ الإرهاب يقتل عدداً من الناس بهدف التأثير على جمهور أوسع.

ما يميز الإرهاب عن غيره من أشكال العنف، هو أنّ الإرهاب يتضمن أفعالاً ترتكب بطريقة دراماتيكية لجذب الانتباه العام، وخلق مناخ من الرعب يتجاوز الضحايا الذين تعرضوا له. وتكون هوية الضحايا ثانوية أو غير مهمة للإرهابيين

ويعتبر كتاب إيريك هوفر "المؤمن الصادق" من أكثر الكتب تداولاً، ربما لأنّه يعرض على نحو عملي الخصائص التي تشترك فيها الجماعات المتطرفة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو قومية، برغم الاختلافات فيما بينها، فالجماعات المتطرفة تولد في نفوس أتباعها استعداداً للموت وانحيازاً للعمل الجماعي، وجميعها تولد الحماسة للكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وجميعها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها. فالتطرف واحد وذو طبيعة واحدة، سواء كان تطرفاً دينيّاً أو قوميّاً أو إيديولوجيّاً، وتتشابه الجماعات الجماهيرية المتطرفة أيضاً في إخلاصها وإيمانها وسعيها إلى السلطة، وفي وحدتها واستعدادها للتضحية. ويفترض هوفر أنّ الإحباط في حدّ ذاته يكفي لتوليد معظم خصائص المتطرف الذي يسميه هوفر "المؤمن الصادق"، وهي عبارة تعني هنا، حسب الكتاب، "المنخرط في حركة جماهيرية بإخلاص وإيمان مطلق مهما كانت طبيعة هذه الحركة"، وأنّ الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط. جاذبية الحركات الجماهيرية هي الرغبة في التغيير؛ يقول هوفر إنّ الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية متطرفة يتطلعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، فجميعها حركات من وسائل التغيير، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفزة يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملاً لتوليد الحماسة العامة. ويرى أنّه تكمن فينا جميعاً نزعة إلى البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، حتى عندما يكون وضعنا نتيجة عوامل داخلية، كقدرتنا أو شخصيتنا أو مظهرنا أو صحتنا. يقول الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 ـ 1862): "عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته، حتى عندما يكون ألماً في أمعائه؛ فإنّه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم". وقد يبدو مفهوماً في رأي هوفر أنّ الفاشلين ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، لكنّه يلاحظ أنّ الناجحين أيضاً يؤمنون بأنّ نجاحهم جاء بسبب الحظ السعيد، ذلك أنّهم ليسوا متأكدين من معرفتهم بأسباب نجاحهم. فالعالم الخارجي يبدو مثل آلة تدور على نحو يستحيل ضبطه أو توقعه، وما دامت هذه الآلة تدور في مصلحتهم فإنّهم يتجنبون العبث بها، وهكذا فإنّ الرغبة في التغيير والرغبة في مقاومة التغيير تنبعان من المصدر نفسه: الإيمان بتأثير العوامل الخارجية.

ويستدرك هوفر أنّ عدم الرضا في حدّ ذاته لا يخلق دافعاً للرغبة في التغيير، لكن يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائساً. ويقول إنّ الناس يقاومون شعورهم بالخوف بإخضاع وجودهم لروتين ثابت، موهمين أنفسهم بأنّهم بهذه الوسيلة يتجنبون المفاجآت، وهكذا نجد الصيادين والبدو الرحل والمزارعين الذين يعتمدون على تقلبات الطقس والفنانين الذين ينتظرون الإلهام يخافون من التغيير، يواجهون العالم كما يواجهون قضاة يتحكمون في مصيرهم، ونجد عند الفقراء نزعة محافظة بعمق النزعة المحافظة عند الأغنياء. وأمّا الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة، فإنّهم يشعرون بأنّهم يملكون قوة لا تقهر. امتلاك القوة لا يكفي للتغيير، لكن لا بدّ من الإيمان المطلق بالمستقبل. عندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير، فالراغبون في التغيير يوقدون الآمال الجامحة. والذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء فقراً مدقعاً وأن يكون لديهم شعور باقتناعهم العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري سيصبحون قوة لا تقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل. في النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلاً تامّاً العقبات التي ستعترض طريقهم، أمّا المجربون وذوو الخبرة، فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، لا ينضم هؤلاء إلى الحركة إلا بعد التحقق من نجاحها، ولعل خبرة المواطنين الإنجليز السياسية هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.

يحدد هوفر وفق القواعد والملاحظات السابقة فئات الأتباع المتوقعين للحركات الاحتجاجية،  إنّهم يوجدون بكثرة في المجالات التالية: الفقراء، والعاجزون عن التأقلم، والمنبوذون، والأقليات، والمراهقون، وشديدو الطموح، والواقعون تحت تأثير الرذيلة، والعاجزون جسديّاً أو عقليّاً، والمفرطون في الأنانية، والملولون، ومرتكبو المعاصي

 يلاحظ إيريك هوفر أنّه يصعب على الذين يعتقدون أنّ حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيداً أو نبيلاً، وشوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة لا يتحقق إلا بانتماء إلى قضية "مقدسة" -من وجهة نظر أصحابها-، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة. تعتمد قوة الحركة الجماهيرية وحيويتها على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها في محو الذات، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية، فمعنى هذا أنّها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها. يقول قائد إحدى الحركات الجماهيرية المتطرفة: "كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة، انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها. عندما يحدث هذا تكون قد انتهت". إنّ الإيمان بقضية "مقدّسة" هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا. كلما استحال على الإنسان أن يدّعي التفوق لنفسه، كان أسهل عليه أن يدّعي التفوق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدّسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبّرون عن اهتمامهم هذا بالنميمة والفضول. الاعتقاد بالواجب المقدّس تجاه الآخرين كثيراً ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمدّ يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدّسة نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى. ما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنّها تقدم بديلاً للأمل الفردي الخائب، والعاطلون ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، فالأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.

عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنّهم في اعتقاد هوفر يصبحون عادة جاهزين للالتحاق بأيّ حركة فاعلة، ويبدو من السهل على الحركات الجماهيرية أن تستقطب أتباع حركات أخرى تبدو مختلفة عنها أو متناقضة معها، فاليساريون المتطرفون يتحولون إلى يمينيين متطرفين، والعكس صحيح. جميع الحركات الجماهيرية متنافسة فيما بينها، ومغنم واحدة منها لا بد أن يكون مغنم الأخرى، وبوسع الحركة أن تحول نفسها بسهولة إلى حركة أخرى، فيمكن للحركة الدينية أن تتحول إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، كما أنّه يمكن للحركة الثورية الاجتماعية أن تتحول إلى قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، ويمكن للحركة القومية أن تتحول إلى ثورة اجتماعية أو إلى حركة دينية.

كانت هجرة اليهود القدماء من مصر ثورة عبيد وحركة دينية وحركة قومية في آنٍ معاً، وكانت القومية اليابانية المتطرفة ذات طابع ديني، وكان لحركات الإصلاح البروتستانتي جانب ثوري عبّر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وكان لها أيضاً جانب قومي، وتمثل الصهيونية حركة قومية وثورة اجتماعية وحركة دينية أيضاً.

كثيراً ما يكون السبيل إلى إيقاف حركة جماهيرية هو إيجاد حركة بديلة، أو الهجرة، فثمّة شبه كبير بين أتباع الحركات الجماهيرية والراغبين في الهجرة، وهكذا هاجرت الجماعات البروتستانتية من أوروبا إلى القارة الأمريكية.

يحدد هوفر وفق القواعد والملاحظات السابقة فئات الأتباع المتوقعين للحركات الاحتجاجية، وهي حسب ملاحظته تقوم على عواتق المتذمرين والمنبوذين، وعلى الرغم من أنّ هؤلاء يوجدون في كل مجالات الحياة، إلا أنّهم يوجدون بكثرة في المجالات التالية: الفقراء، والعاجزون عن التأقلم، والمنبوذون، والأقليات، والمراهقون، وشديدو الطموح، والواقعون تحت تأثير الرذيلة، والعاجزون جسديّاً أو عقليّاً، والمفرطون في الأنانية، والملولون، ومرتكبو المعاصي.

يختص هوفر الفقراء من بين هذه الفئات الـ (11) بأفكار وملاحظات كثيرة، فيوضح أنّ الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركات الجماهيرية الاحتجاجية، وأمّا محدثو الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم، فهم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأيّ حركة جماهيرية صاعدة، أي الفقر المؤدي إلى التذمر والإحباط، وليس كل فقر، ولكن الفقر الناشئ عن فقدان المكاسب، أو الفقراء المتطلعين إلى الوعود، فهناك أمل يشجع على الصبر، وأمل يشجع على الثورة، "وعندما نحلم بما لا نرى يكون بوسعنا أن نصبر في انتظار الحقيقة". وإذا اجتمعت الحرية مع الإحباط تشكلت أكثر البيئات صلاحية لنمو الحركات الاحتجاجية. يقول أرنيست رينان: "المتطرفون يخافون الحرية أكثر من الاضطهاد"، وسبب الثورة في مجتمع ديكتاتوري هو تفكك الديكتاتورية وليس الطغيان. وأمّا الفقراء المنتمون إلى مجموعة مترابطة (قبيلة أو عائلة أو فئة عرقية أو دينية)، فلا يشعرون بالإحباط، ولا برغبة في الانضمام إلى حركة جماهيرية، فالمرشح الأمثل للجماعات الجماهيرية هو الفرد الذي يقف وحيداً من دون جماعة متماسكة، ذلك أنّ ثمّة تناقضاً بين الترابط الأسري والحركات الجماهيرية. وبذلك فإنّ الترابط الاجتماعي يساعد على منع التمرد، وحتى عندما يكون التضامن ذا طبيعة لا تسمح بإدخال ربّ العمل في دائرته، فإنّه يقود إلى تعزيز الشعور بالرضا بين العمال وزيادة فاعليتهم وإنتاجهم.

يوضح هوفر أنّ الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركات الجماهيرية الاحتجاجية، وأمّا محدثو الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم، فهم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأيّ حركة جماهيرية صاعدة

الحركات الجماهيرية تنجح بمقدار قوتها التنظيمية وتماسكها أكثر ممّا تنجح بفعل إيديولوجيتها ووعودها، وعندما يضعف نمط اجتماعي سائد، أو كان سائداً، تصبح الظروف مواتية لصعود حركة جماهيرية ونجاحها في إيجاد تنظيم جماعي أشدّ تماسكاً وقوة من التنظيم المنهار.

يناقش هوفر كيف تستمد الحركة الجماهيرية حيويتها من نزعة أتباعها إلى العمل الجماعي والتضحية بالنفس، وأمّا الإيديولوجيا والدعاية، فهما في رأيه ليسا إلّا أداتين تقودان إلى العمل الجماعي والتضحية، ويقتضي ذلك الإنقاص من قيمة النفس، والتخلي عن الخصوصية والآراء الشخصية، لدرجة أن يتحول عضو الحركة إلى منبوذ وكيان هش إذا خرج منها. ويقرر أنّ المحبطين تنمو لديهم على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه في التضحية بالنفس، وهكذا فإنّه من الممكن تفهم النزعات والأساليب التي تتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولد داخل العقل المحبط، فاحتقار الحاضر، والقدرة على تخيل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كلّ هذه المشاعر، وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة. وعندما تجتذب الحركات المتطرفة والاحتجاجية غير محبطين، فهذا يعني على نحو قاطع أنّها تشهد تغييراً كبيراً، وأنّها تتأقلم مع الوضع الراهن، ويزيد الإقبال عليها في تحويلها إلى مشروع مؤسسي، ولكن في رأي قادة التطرف فإنّ الحركة إذا خضعت لأفراد يريدون الاستفادة من الحاضر، فإنّ مهمتها تنتهي.

لا تنبع فاعلية الإيديولوجيا من مضمونها، كما يلاحظ هوفر، ولكن من عصمتها عن الخطأ. يقول بيرجسون: "لا تتجلى قوة الإيديولوجيا في القدرة على تحريك الجبال، ولكن في القدرة على عدم رؤيتها وهي تتحرك". وعندما تصبح الإيديولوجيا مفهومة تفقد كثيراً من قوتها، وينزع الإيديولوجي إلى استخدام الكلمات كما لو كان يجهل معناها الحقيقي، ومن هنا يأتي شغفه بالنقاش البيزنطي والجدال العقيم. إنّ امتزاج سهولة التصديق بالكذب ليس من خصائص الأطفال وحدهم، ولكنّ انعدام القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها يقود إلى السذاجة وإلى الكذب في الوقت نفسه.

يؤمن المتطرف بفكرة أو قضية لا بسبب عدالتها أو سموها، ولكن لحاجته الملحة إلى شيء يتمسك به، ويعتبر المتطرف أيّ قضية يعتنقها قضية مقدسة، ولا يمكن إبعاده عن قضيته بالمنطق والنقاش، ولا يجد صعوبة في القفز بقوة من قضية مقدسة إلى قضية مقدسة أخرى (كل القضايا التي يؤمن بها مقدسة)، فالروابط التي تجمع بين الرجعي والراديكالي أكثر من الروابط التي تجمع أيّاً منهما بالليبرالي أو المحافظ.

نقيض المتدين المتعصب ليس الملحد المتعصب، ونقيض المتطرف الوطني ليس الخائن. يقول أرنست رينان: "عندما يكفّ العالم عن الإيمان بالله، فإنّ الملحدين سيكونون أشد الناس تعاسة". والحركات الجماهيرية تحطم بإثارة المشاعر الملتهبة التوازن النفسي الداخلي، وتضمن اغتراباً دائماً عن النفس، فأيّ وجود مستقل هو في نظر هذه الحركات وجود عقيم لا معنى له. الإنسان بمفرده بائس وملوث وعديم الحيلة، ولا يمكن للإنسان الخلاص إلّا برفض نفسه والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس (جماعة أو أمّة)، ازدراء النفس هذا يولد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم.

لا يستطيع المتطرف أن يستمد الثقة من قدراته الذاتية أو من نفسه التي تنكر لها، ولكنّه يجد الثقة بالتصاقه المتشنج بالكيان الذي احتضنه، ويعتنق المتطرف قضية ما، ليس بسبب عدالتها أو سموها، ولكن لحاجته الملحة لشيء يتمسك به، ومن المستبعد أن يستطيع المتطرف الذي هجر قضيته، أو الذي وجد نفسه فجأة بلا قضية، أن يتأقلم مع وجود فردي مستقل، الأغلب أنّه سيبحث عن قضية أخرى، شأنه شأن المسافر المفلس الذي ينتظر مرور سيارة تحمله مجاناً.

يؤمن المتطرف بفكرة أو قضية لا بسبب عدالتها أو سموها، ولكن لحاجته الملحة إلى شيء يتمسك به، ويعتبر المتطرف أيّ قضية يعتنقها قضية مقدسة

من أهم العوامل التي تشجع على التجمع المتطرف "الكراهية"، وهي أكثر العوامل الموحدة شمولاً ووضوحاً، فالكراهية الجماعية تستطيع أن توحد العناصر المتنافرة، بل إنّ هذه الكراهية يمكن أن توجد رابطاً مشتركاً مع عدو على نحو ينخر قواه ويضعف مقاومته. الكراهية تعبير عن إخفاء الشعور بالنقص أو قلة الأهمية، أو الذنب أو العيوب الأخرى، كثيراً ما يحدث عندما يظلمنا شخص أن تتحول كراهيتنا إلى شخص آخر أو جماعة أخرى لا علاقة لها بالأمر. وتتبنّى الحركة الجماهيرية أهدافاً مستحيلة وغير واقعية، تتمشى مع رغبات المحبطين، ويشعر المحبط بالرضا عن الوسائل العنيفة التي تتبعها الحركة الجماهيرية أكثر من شعوره بالرضا عن أهداف الحركة، إنّ التطلع إلى الشيء لا امتلاكه بالفعل هو الذي يؤدي إلى التضحية بالنفس، فالأحلام والرؤى والآمال الجامحة أسلحة وأدوات فاعلة. ولا تقاس فاعلية إيديولوجيا بعمقها أو سموها أو صدق الحقائق التي تنطوي عليها، بل بقدرتها على حجب الشخص عن نفسه وعن العالم كما هو عليه بالفعل. يقول باسكال: "الإيديولوجيا الفاعلة لا بدّ أن تعارض الطبيعة والمنطق والرغبة". وعندما تبدأ حركة في عقلنة إيديولوجيتها وجعلها مفهومة، فمعنى هذا أنّ فترتها الديناميكية قد انتهت، وأنّها أصبحت حريصة على الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى استقطاب المثقفين وكسب ولائهم، فتبتعد عن تحريض الجماهير على التضحية بالنفس، ومن هذا الحرص يجيء الحرص على شرح الإيديولوجيا وعقلنتها.

مواضيع ذات صلة:

محاولة لتعريف عملي للاعتدال والتطرف الديني

كيف نميز بين التطرف والاعتدال؟

لماذا تحضّ جماعات التطرف أعضاءها على المبالغة في العبادات؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية