الخلاص الظرفي... عيد الأضحى نموذجاً

الخلاص الظرفي... عيد الأضحى نموذجاً

الخلاص الظرفي... عيد الأضحى نموذجاً


24/06/2023

الطقوس الدينية غالباً ما تحمل دلالات روحية أكثر منها مادية، إذ المقصود بها السمو بالممارسة الاجتماعية إلى ممارسة تحمل قدسية ودلالة سامية؛ تخلق تميزاً واصطفاءً وجودياً للكائن البشري، وهي ممارسة قد تخفي ما قد يتبادر للذهن عن لا معقولية هذا الطقس أو ذاك، فهو بالنهاية مسلك لتحقيق مطالبنا الحياتية وفق رؤية دينية، لكن ماذا لو كنا نعيش على وقع العكس، حيث نمارس الطقس الديني على وقع الرؤية المعيشية، ونعمل على تطويع المساحة القدسية لتلائم الحيز الحياتي؟.

الصيرورة التاريخية لهذه الطقوس الدينية تلبس بالضرورة رداء السياق السوسيو اقتصادي والسياسي المعبّر عنها، ممّا يجعلها مناسبة لتفريغ تراكمات جمة على مختلف الميادين، هذا التفريغ الذي يأتي على شاكلة تماهي المجال الدنيوي والأخروي، فما وعد تحققه هناك بإمكان الممارس لهكذا طقس تحقيقه هنا، الأمر أشبه بممر يحقق تلاحماً داخلياً بين الـ (هنا) والـ (هناك). لنتأمل ملياً؛ أليس الأمر نوعاً من الخلاص الظرفي الذي يسمح بالترفع عن بؤس المعيشة اليومي؟

بحكم المناسبة؛ فإنّ طقس "عيد الأضحى"، بما هو تعبير عن مطلب ديني، في بعض تمظهراته يرنو إلى تحقيق المطالب المعيشية أكثر منها الامتثال لرجاء ديني، لأنّ التهافت نحو ممارسة الطقس المتمثل في عيد الأضحى ليس تهافتاً نحو ممارسة قدسية دينية لذاتها وفي حدّ ذاتها، بقدر ما هي ممارسة تحقيق مطالب دنيوية بغلاف ديني، ففي الغالب يستغل هنا الطقس الديني لتفريغ الاحتياجات التي كانت مدفونة إلى حين، على غرار انتظار الملاذ الأخروي؛ لتحقق ما لم يتحقق هنا، أو لننال ما لم ننله هنا، حيث يصير الديني خادماً مطيعاً للمطالب الدنيوية المتمثلة في إشباع الذات من طموحها المعيشي، الطقس يترجم حالة التماهي التي تعيشها الذات مع ذاتها، فهي تحقق الطقس الديني؛ باعتباره طقساً تعبدياً، كما أنّها تحقق المطالب المعيشية المتمثلة في عيش رغيد بما لذ وطاب، ولو لوقت وجيز، لكنّه يكسر مساراً نمطياً، إنّه نوع من الخلاص الظرفي، الذي يسمو بالذات لتحقيق التماهي مع المنتظر البعيد ليصير قريباً، لنقل إنّه عبارة عن خلاص ظرفي من البؤس المعيشي.

إنّ ما نعاينه اليوم من تمظهرات للطقوس الدينية، وأخصّ هنا مثال "عيد الأضحى"، الذي بات أقرب إلى قربان لحوم نهديها لأنفسنا جزاء إيماننا، احتفاءً أو مكافأة يخص ممارس الطقس الديني نفسه بها، إنّها عملية استغلال صريحة؛ لتمرير وطمس الفاقة المجتمعية، أو تحقيق المأمول المعيشي عبر طقس روحي، لأنّ الأولوية تمنح للمطلب الحياتي، غير أنّ الأمر لا يخلو من الفائدة، التي قد تتمثل في خلق فجوات تنفيس لهكذا مجتمعات.

طبعاً تجدر الإشارة إلى أنّ عيد الأضحى لا يحضر كطقس ديني بالدرجة نفسها عند الجميع، لكنّه بالمقابل يحضر بقوة عند الطبقة المتوسطة والفقيرة، الأولى تمارسه بحكم العادة المجتمعية، وبشكل شكلي أكثر من كونه انخراطاً في فعل الممارسة، أمّا الثانية، فتلحّ على ممارسته لإثبات أحقيتها في العدالة الإلهية والأرضية معاً. بالمقابل قد يخدم هذا السياق السوسيولوجي الجانب السياسي، لأنّه يساهم في تخفيف أو تكسير التفاوت المعيشي داخل المجتمع، ولو إلى حين.

ما يبدو واضحاً اليوم أنّ الممارسة الاجتماعية للطقس الديني تنم عن عملية استدراج الغايات الثاوية خلف هذا الطقس، بطريقة تعسفية؛ لتحقيق فاقاتنا وحاجاتنا اليومية، فيصير المطلب الديني مطلباً ملغياً أو حتى هامشياً، أمام حتمية تحقيق المطلب الدنيوي، فطريقة التفنن في اختيار الأضحية، والإصرار على إحياء السّنّة رغم كل الظروف، والتنافس في أوزان الأضحية، شكلها، عمرها، ثمنها، لوازم هذا الطقس من تابعات الذبح والضيافة...، أمور تستجيب للمطلب الذاتي المادي، وليس للمطلب الروحي الديني، هي في الحقيقة هواجس معيشية بالدرجة الأولى قبل أن تكون دينية، هواجس تحكمها العادة والحاجة على حدٍّ سواء. 

إنّنا نرى الطقس الديني من منظور معيشي محض، ونحمّله كل انتظاراتنا الدنيوية الضيقة، فيصير الفسيح اللامتناهي تحت رحمة المجال المعيشي الضيق، عاكساً بذلك خلاصاً ظرفياً لممارسيه؛ من خلاله يتحقق على السواء المأمول المعيشي والسند الإلهي.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية