الدين والحياة العامة: الأمر ليس ثنائية حتمية

الدين والحياة العامة: الأمر ليس ثنائية حتمية

الدين والحياة العامة: الأمر ليس ثنائية حتمية


10/07/2023

يستغرق الجدل والتفكير بشأن دور الدين في الحياة العامة خياران اثنان، خرافيان أو في أحسن وصف ليس لهما وجود. لكنهما برغم ذلك ينشئان تكتلين كبيرين في عالم الإسلام يتبادلان العداء؛ هما الدولة الدينية التي ترد كل شيء إلى الدين ويقابلها رفض الدور الديني فيما يتعدى العبادة والاعتقاد على المستوى الفردي. وبرغم استحالة الخيارين وعدم صحتهما وإمكانية تطبيقهما فإنّ المسلمين يكادون ينقسمون بين هذين الاتجاهين أو الخيارين.

هناك عدد لا نهائي من الخيارات والاتجاهات والأيديولوجيات والفلسفات في عالم الدين بعامة، ولا ينتمي أي منهما إلى أحد الخيارين السابقين. لكن ولشديد الأسف فإنه برغم كثافة وعمق الأفكار والدراسات في هذا الطيف المتعدد والمتنوع في تصور "الدين في المجال العام"  فإنه لا "الإسلاميون" ولا "العلمانيون" يعرفون عنها شيئاً يذكر. الحال ليس "الإسلاميون" إسلاميين وليس "العلمانيون" علمانيين.

تستمد معرفة الصواب وإدراك حقائق الأشياء في التجربة الإنسانية من منظومة من المصادر الكبرى؛ الكون/ الطبيعة والفلسفة والتأمل والدين والعلم. ولا يمكن الاستغناء عن أي من هذه المنظومات، وفي الوقت نفسه فإنه لا حاجة لمحاكمة منظومة على أساس منظومة أخرى. على سبيل المثال ليست وظيفة الفلسفة أو العلم محاكمة الدين أو إثبات صحته أو خطئه، وفي المقابل ليس مطلوباً (وليس ممكناً) من الدين محاكمة الفلسفة أو العلم.

يمثل الدين واحداً من أكثر  مصادر الاهتمام والقلق في التفكير  والتخطيط في الفضاء والجدل العام، إذ كان على مدى التاريخ والجغرافيا وفي كل الأديان يشغل الطبقات الاجتماعية والمحافل العامة والمفكرين والمثقفين كما محدودي التعليم والثقافة

هذا الجدل في الصواب والخطأ عدمي وكارثي ولا ينبني عليه أمر عملي. السؤال الحقيقي والأساسي. كيف نشكل "المجال العام" وفي سياق هذه المقالة ما دور الدين في الحياة العامة؟ أقول مرة أخرى هذه قضية تشغل أهل العلم والفلسفة كما أهل الدين، وكذلك الأفراد في اعتقادهم وتصوراتهم، وتأملاتهم أيضاً؛ إذ ينشئ كل فرد وحده تصوراته الاعتقادية، ويتحمل مسؤوليتها وحده، ولا يمكن إجبار أحد على اعتقاد ما ولا منعه من هذا الاعتقاد. وليس هذا مطلوباً من أحد. لكن المطلوب كيف ننظم حياتنا العامة على نحو تتوافق فيه جميع المكونات والاتجاهات والأيديولوجيات والآراء؟

هناك طيف واسع من الأفكار والتصورات حول الدين في المجال العام لا تنتمي إلى "التديين" بمعنى الولاية الدينية على الحياة العامة أو المرجعية الدينية في الشأن الجماعي بما هو ينظم الجماعات والمؤسسات، ولا تنتمي أيضاً إلى الفصل القطعي بين الدين والدولة كما في النموذج الفرنسي، وربما تكون هذه التجارب هي ما نحتاج إليه في عالم العرب والمسلمين أكثر من الانشغال بالنموذجين الأكثر شهرة وتداولاً في عالمنا؛ أقصد النموذج الديني أو "الإقصائي". وفي سلسلة "تحديث الفكر الديني" التي يشرف عليها عبد الجبار الرفاعي ترجمت ونشرت مجموعة من الدراسات والمعالجات الفكرية الرائدة في الإنتاج الفكري العربي، وأظن أنه حان الأوان للاهتمام العميق بمثل هذه الدراسات لعلها تساعدنا في بناء تصور فكري عربي في الشأن العام، أو على الأقل تخرج الجدل من الثنائية المملة وغير المفيدة في شيء!

في كتاب قوة الدين في المجال العام والذي يضم نقاشات بين مجموعة مفكرين مهمين في الفلسفة والاجتماع، وهم يورغن هابرماس، وجوديت بتلر، وكورنيل ويست، وتشارلز تيلور، وادوارد منديتا، وجوناثان فانتويرين، وكريغ كالون، يمكن الحصول على مقاربات مناسبة ومختلفة في تصور تأثير الدين في الفضاء العام وعلى النحو الذي يقبل فيه المتدينون وغير المتدينين ويفيد ويطور الجدل العام، بما يجب أن يكون عمليات مستمرة وحيوية، إذ بغير هذا الجدل لن ننشئ النموذج المناسب في تنظيم الدول والمجتمعات والأسواق والعلاقات والتصورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

إن الدين يمثل واحداً من أكثر  مصادر الاهتمام والقلق في التفكير  والتخطيط في الفضاء والجدل العام، إذ كان على مدى التاريخ والجغرافيا وفي كل الأديان يشغل الطبقات الاجتماعية والمحافل العامة والمفكرين والمثقفين كما محدودي التعليم والثقافة، وهو موضوع يزداد أهمية مع التطور الكبير في وسائل الإعلام والتواصل. وقد شمل الجدل حول الدين في الفضاء العام السياسة والمؤسسات والنظام الاجتماعي والأخلاقي والعلوم الطبيعية والبحتة، وعلاقة الدين بالسياسة، وهي جدالات طويلة وقديمة، يؤسس لها في العصر الحديث بالثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر.

شمل الجدل حول الدين في الفضاء العام السياسة والمؤسسات والنظام الاجتماعي والأخلاقي والعلوم الطبيعية والبحتة، وعلاقة الدين بالسياسة

وبرغم الأمثلة الإيجابية الكثيرة عن دور الدين في الفضاء العام في العدالة وحقوق الإنسان والتعليم والحريات،.. ظل السؤال عن الدين في المجال العام مهماً وملحّاً، ويدعو الكثيرون إلى أن يبقى الدين داخل المجال الخاص، برغم الإقرار بأثره الفعال والمحفز والأخلاقي في تشكيل الضمائر الفردية. لكن هناك دعوات في المقابل للاعتراف بدور الدين في المجال العام حتى في أوروبا التي تدهورت فيها الممارسة الدينية ظلت قضية الدين الشعبي فيها حاضرة بقوة.

يقول ولتر روشنبوش (كتاب المسيحية والأزمة الاجتماعية، نشر سنة 1907) كل من يفك الارتباط بين الحياة الدينية والاجتماعية لم يفهم المسيح. وكل من يقيد تأثير القوة التعميرية للحياة الدينية على العلاقات الاجتماعية ومؤسسات الإنسان، فإنه بقدر تعلق الأمر بهذا الجانب ينكر عقيدة السيد المسيح".

ويعتقد هابرماس المجال العام في المجتمع الديمقراطي يجب أن يكون مفتوحا أمام الجميع، ويجب احتواء المواطنين المتدينين كمسألة تقع في صلب العدالة وكحاجة عملية عاجلة في آن واحد. إذ يتعرض للخطر مستقبل نظام الحكم الديمقراطي إن أخفقنا في دمجهم في مشاغل العقل العام. ويمثل العثور على طرق يدمج بها الدين في المجال العام كما يعتقد هابرماس تحدياً حيوياً يواجه المجتمع المعاصر، .. ونظريات المجتمع المعاصر أيضاً.

الليبرالية السياسية بحاجة إلى استبصارات أخلاقية والتزامات جديدة، وهي تعترف بالدين بوصفه مصدراً ممكناً للتجديد، وفي الوقت نفسه يحب ألا يتخذ مثل هذا التجديد شكل لجوء مباشر للعقائد الدينية أو رؤى العالم الشمولية بطرق تغلق الجدل العام.

الصفحة الرئيسية