السجون السورية وهندسة الإذلال: أيها الداخلون إلى المذبحة

سوريا

السجون السورية وهندسة الإذلال: أيها الداخلون إلى المذبحة


19/03/2019

يظل السجن موضوعاً مثيراً للكتابة لدى العديد من الكتاب والمبدعين والسياسيين، عبر مختلف الأجيال، وبخاصة أولئك الذين تعرضوا للقمع والسجن والتعذيب، منذ عبروا قضبانه الحديدية، وعانوا قسوة جلاده.
والسجن كهندسة عمرانية تتشكل ويجري تخطيطها في المدينة، بهدف فرض سلطة منبثة في الوعي العام للأفراد، تؤدي تأثيراتها عليهم، في محاولة إخضاع الجسم الاجتماعي وإكراهه، وضبطه داخل مؤسسة انضباطية.
السجن والكتابة.. نقش على سطح الأجساد المقموعة
تنوعت الوسائل والتقنيات التي اعتمدتها السلطة، عبر التاريخ، في محاولة خلق جسد انضباطي، مقابل جسد "متمرد" و"ثائر"، وطرح جسد متهالك مهزوم، بعد إفراغ كل طاقته الزائدة وسلبه إياها، وكما يوضح الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في كتابه: "ولادة السجن"، فإنّ السجن فضاء بصري، تتناسب فيه هندسة البناء مع هندسة القمع، بالإضافة إلى تشريح الأجساد وتصنيفها؛ فهو بمثابة نظام يختصر كل الأوليات الموجودة في الجسم الاجتماعي، وذلك باعتباره ثكنة صارمة قليلاً.

في سجن تدمر كان التعذيب عشوائياً وبشكل يومي وهناك أعداد ضخمة تتجاوز الآلاف ممن أعدموا في ذلك السجن

تتفاوت الكتابة عن تلك التجربة الصعبة والقاسية، من خلال الاستعانة بأشكال فنية متعددة؛ سواء نثرية أو أدبية، لكن تبقى رغبة صاحب التجربة في الحكي، وسرد الأحداث والتفاصيل، ويومياته كسجين، مهمة ضرورية وملحة، يهدف من ورائها إلى فض مشاعره الخفية والمستترة، وفهم ما تشكل في وجدانه وبنيته الفكرية والمعرفية، إزاء تلك الفترة التي قضاها، ومعالجة الألم العميق الذي يئن داخله.
ومن بين المؤلفات التي حفلت بموضوع السجن، وجرى وضعها ضمن ما يعرف بـ "أدب السجون"، كانت رواية: "شرف" للروائي المصري، صنع الله إبراهيم، وروايتي: "شرق المتوسط" و"الآن هنا" للروائي السعودي عبد الرحمن منيف، بالإضافة إلى قصائد شعرية كالتي دونها أحمد فؤاد نجم، وجميعها تعكس نفس الصورة الجهنمية من التعذيب النفسي والبدني، ومحاولات ضغط الجسد بين أدوات السلطة لتقييده، وفرض مساحة قسرية عليه، لكبح تمرده وإهدار طاقاته المادية والمعنوية.
يمكن أن تضحى الكتابة عن السجن بمثابة محاولة لاستعادة جزء من الذاكرة

ذاكرة الألم
لذا، يمكن أن تضحى الكتابة عن السجن بمثابة محاولة لاستعادة جزء من الذاكرة، وترميم عناصرها المتشظية، على إثر هذا الكم من العنف والقسوة، التي مورست ضدها، وتجسير العلاقة مع الذات، من ناحية، والحياة والحرية والإرادة، من ناحية أخرى، بعد استعادتهم.   
تجربة السجن هي مراوغة للموت، في أكثر من صورة وشكل، يتنقل في أكثر من هيئة، يلاحقك، ويندس في تفاصيل حياتك ويومياتك، تشعر داخل الجدران بطبقة سميكة تتكون على جلدك، تعزل عنك الحياة، وتفقدك التواصل والمشاعر، حالة من الجمود والثبات، تظل بينهما في صراع، طول الوقت، وبالتالي، محاكاة ذلك الواقع والنبش في ذاكرته الأليمة، عتبة لاكتشاف الذات مرة أخرى، والانفتاح على سؤال المستقبل وسيناريوهاته المفتوحة والمتجددة.

اقرأ أيضاً: سجون سرية يديرها الحوثيون في 3 محافظات يمنية
وتجد صدى ذلك على نحو مؤثر، في سطور عبد الرحمن منيف، الذي كتب: "هل يمكن أن ترمم إرادة إنسان لم تعد تربطه بالحياةِ رابطة؟ أنا ذاك الإنسان. لا لست إنساناً، السجن في أيامِه الأولى حاول أن يقتل جسدي. لم أكن أتصور أني احتمل كل ما فعلوه، لكن احتملت. كانت إرادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات، وتردها نظرات غاضبة وصمتاً. وظللت كذلك. لم أرهب، لم أتراجع. الماء البارد؟! لـيكن. التعليق لمدة سبعة أيام؟ ليكن. التهديد بالقتل والرصاص حولي تناثر؟ ليكن. كانت إرادتي هي التي تقاوم. والآن.. ماذا بقي فيّ أو مني؟

اقرأ أيضاً: ما هي حقيقة سجون الإخوان المسلمين في تعز؟
وفي السياق ذاته يأتي كتاب: "بالخلاص، ياشباب!.. 16عاماً في السجون السورية"، للكاتب السوري ياسين الحاج صالح، الذي جمع فيه نصوصه عن السجن، وشهادته عما مر به من أحداث، حين قضى تلك المدة المذكورة في عنوان كتابه، كسجين سياسي، في فترة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، في الفترة بين 1980و1996. لا ينتمي الكتاب بالمعنى المباشر إلى "أدب السجون"، كما يشير الكاتب، ولا يهدف إلى اختزاله كمجرد سيرة ذاتية لسجين، ووثيقة سياسية أو حقوقية، يفضح من خلالها النظام، إنما هي محاولة لتحويل السجن إلى "موضوع ثقافي"، بغية نزع السحر عنه، والمساهمة في تقويض ما يتصل به من أساطير، أسطورة السجين خاصة.
كتاب: "بالخلاص، ياشباب!.. 16عاماً في السجون السورية"

السجون السورية: أيها الداخلون إلى المذبحة
"كنت في مطلع شبابي حين سجنت في سياق أزمة وطنية كبرى، وجيل جديد من الشباب يكافح ويعتقل ويعذب في مواجهة الطغيان نفسه". يسجل الحاج صالح في مقدمة كتابه، لحظة اعتقاله في سن مبكرة من شبابه، يوثق من خلالها وجوده في ثلاثة سجون سورية، تنقل بينها خلال مدة اعتقال دامت 16 عاماً؛ في المسلمية في حلب، وعدرا في دمشق، وسجن تدمر الصحراوي.

اقرأ أيضاً: فيلم "ليلة طولها اثنتا عشرة سنة".. تحفة فنية عن أدب السجون
جرى اعتقال صالح من كلية الطب، في السنة الثالثة، بعد انتسابه إليها، بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي السوري، حيث تعرض، في اليوم الأول، للتعذيب الذي يصفه بـ "المعتدل"، وذلك من خلال الاستعانة بأدوات التعذيب التي اشتهر بها النظام السوري، ومن بينها "الدولاب" و"بساط الريح" اللتان كانتا من نصيبه في يومه ذاك.
ويكون التعذيب بالدولاب عبر ربط يدي المعتقل بالدولاب، سواء من جهة البطن أو جهة الظهر ثم تعذيبه، أو بواسطة وضع المعتقل داخل الدولاب، بحيث تلامس يداه قدميه، وتمارس عمليات التعذيب المختلفة عليه في تلك الوضعية، كما يوضح الباحث السوري عمار المأمون، في دراسة عن أدوات لتعذيب في السجون السورية.

اقرأ أيضاً: أسير فلسطيني على حافة الموت في سجون الاحتلال الصهيوني
بيْد أنّ بساط الريح يكون بربط المعتقل على قطعة من الخشب، إما مربعة أو لها شكل الجسم البشري، فيبدو كأنه يحلق وتنهال عليه أساليب التعذيب المختلفة، كما يمكن طيّ البساط بحيث يلامس رأس المعتقل قدميه.
أول ما يتلقاه السجين فور دخوله السجون "الأسدية"، هي استقبال الجلادين أو عناصر "صناعات الموت"، بحسب توصيف الحاج صالح، لضحاياهم، من خلال ما يعرف بـ "التشريفة"، وهي حفلة "فلقة"، حيث يعذب المعتقل بنحو 100 ضربة، على باطن القدمين، وتكون من نصيب الشيوعيين، ونحو 500 ضربة للإسلاميين، بحجة شراستهم ودمويتهم. والهدف من وراء "التشريفة" هي كسر عين السجين.
حملات اعتقالات شرسة

فصل من سيرة القمع السوري
ارتبط تاريخ الاعتقال السياسي "في سوريا المستقلة"، بحسب الحاج صالح، بأنظمة الحزب الواحد؛ فأول موجة كبيرة نسبياً من الاعتقال والتعذيب، جرت وقائعها في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، بين عامي 1958 و1961، برئاسة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والموجة الثانية، كانت في العهد البعثي، حيث فتك البعثيون بعد انقلابهم بحلفائهم الناصريبن.

أول ما يتلقاه السجين فور دخوله السجون "الأسدية"، هي استقبال الجلادين أو عناصر "صناعات الموت" لضحاياهم

في العهد البعثي الثاني، بين عامي 1966و1970، اعتقل الشيوعيون والبعثيون الموالون للعهد البعثي الأول، وقد دشن حافظ الأسد بعد الاستيلاء على الحكم حملة اعتقالات شرسة، طالت رفاقه البعثيين الذين انقلب عليهم. وبلغ عدد المعتقلين في سوريا، مطلع الثمانينيات، ما يقرب من العشرة آلاف، من بينهم الشيوعيون والإسلاميون والبعثيون العراقيون والناشطون الأكراد.
وفي سجن تدمر الذي قضى فيه الحاج صالح عام 1996 كله تقريباً، يورد أنّ التعذيب كان عشوائياً، وبشكل يومي، كما يورد أرقاماً عن أعداد ضخمة تتجاوز الآلاف ممن أعدموا في ذلك السجن، لكنه يشير إليها بتحفظ، وإن كانت تعكس، على كل حال، بشاعة ووحشية النظام السوري. 
ويلفت صاحب "أساطير الآخرين"، إلى أنه قبل انتهاء مدة حكم المعتقل، يتم العرض عليه بأن يصبح "مخبراً"، ويتعاون مع أجهزة الأمن، بحيث يكتب التقارير ويبلغ عن أصدقائه، والوشاية بهم، أو على أقل تقدير، يتعهد بعدم القيام بأي نشاط سياسي مقابل الإفراج عنه، وحين يرفض المساومة، كما حدث في حالته، وضعوه مع ثلاثين آخرين في سجن تدمر، المعروف عنه أنه دائرة جهنمية يخضع فيها المعتقل لأقصى درجات الألم والتعذيب، حيث قضى في جحيمه عاماً إضافياً، لم يشهد خلالها إلا "الطعام والعقاب". كما يصف.

اقرأ أيضاً: بالوثائق.. سجون سرية لـ"إخوان اليمن"
من بين الأمور المثيرة التي قدمها الحاج صالح في كتابه، هي محاولته البحث وراء "الحنين إلى السجن"، الذي خصص له فصلاً في كتابه. هذا الحنين الذي لا يشبهه شيء، يجعلك في موضع قلق، تجاه المعنى الذي يبدو غير متجانس مع التجربة الأليمة والشاقة التي تعرض لها، لكنه يبرز وضعاً مغايراً يصف فيه حالته الشعورية بأن ذاته نجت من التدمير، وأنه كمن عبر الطقس القرباني الذي يجعله بين ميلاد جديد أو انبعاث آخر، يجري فيه تفويضاً بتغيير أساسي في حياته.
وبحسب الحالج صالح، وفر السجن له أموراً ثلاثة في حياته الجديدة تمثلت في ما يصفه بـ"قطيعة كاوية" مع ما سبقه، فقدم له السجن تسويغاً بعدياً للإخفاقات التي شهدها، سواء على المستوى العاطفي والدراسي، ووفر له ميداناً قوياً جديداً لاختبار قواه.
والنتيجة التي يخلص إليها الحاج صالح أنه: "في المحصلة ذهب الشخص الذي دخل السجن عام 1980 قرباناً لذاك الذي خرج منه بعد ستة عشر عاماً. مات أحدنا كي يعيش الآخر".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية