الصيامُ والأخوَّة الإنسانية

الصيامُ والأخوَّة الإنسانية


09/04/2022

محمد السماك

يقول القرآن الكريم: «يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم» (سورة البقرة، الآية 183). فمن هم الذين كُتب عليهم الصيام قبل الإسلام؟ الاعتقاد العام هو أنهم أهل الكتاب، اليهود والنصارى. لم يقل القرآن الكريم: كما كُتب على أهل الكتاب. علماً بأنه في كتاب الله جلّ جلاله آيات عديدة تخاطب أهل الكتاب وتتحدث عنهم بصفتهم «أهل الكتاب». وهذا يوحي بأن النصّ القرآني الذي يتعلّق بفريضة الصيام أوسع من دائرة أهل الكتاب. «فالذين من قبلكم»، شعوب وأمم عديدة أخرى سابقة حتى لليهودية وللمسيحية.. فمن هم هؤلاء؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال الدقيق، من المفيد التذكير بالحقائق التالية التي تحدث عنها القرآن الكريم.
الحقيقة الأولى هي أن هناك رسلاً لم يُذكروا في القرآن الكريم، بدليل الآية التي تتحدث عن الأنبياء والرسل بنص واضح يقول: «ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم مَن قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك» (سورة غافر، الآية 78). وهذا يعني أن هناك رسلاً شاءت إرادة الله وحكمته أن لا يُذكروا في القرآن الكريم. إن عدم ذكرهم لا يعني عدم وجودهم، وبالتالي لا ينفي وجود أتباع لهم.
الحقيقة الثانية: أن من رحمة خالق السماوات والأرض وما بينهما، أن تصل رسالة الإيمان به إلى الناس جميعاً. ومن عدالته - والعدل اسم من أسمائه الحسنى- أن لا يحاسب مَن لم تصل إليه الدعوة إلى الإيمان: «وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً» (سورة الإسراء، الآية 15). ومن عدالته أيضاً أن يبعث للأمم رسلاً يتحدثون بلغات أقوامهم، ولا يغير من هذه القاعدة أن «اللهُ يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس» (سورة الحج، الآية 75). أي أنه حتى لو كان رسول الله إلى قوم ما مختاراً من الملائكة، فإنه يكلّم الناس المرسَل إليهم بلغتهم التي يتفاهمون بها.
ولأن الله سبحانه وتعالى فرض الصوم على الذين من قبلكم، فإن ذلك يشكل إضاءةً لفهم معنى الصوم الذي يلتزم به الملايين من الشعوب الآسيوية (ثلث سكان الكرة الأرضية).
في ضوء هذه الخلفية، يكون السؤال هو: كيف يختلف صيام المسلمين عن صيام الذين من قبلهم؟
في الأساس يلتقي الجميع على مبدأ الامتناع عن الطعام والشراب كلياً أو جزئياً. لكن هناك تباينات في الالتزام بهذا الامتناع من حيث الشكل والمضمون. فاليهود مثلاً يصومون يوم كيبور بالامتناع الكامل، والمسيحيون يمتنعون عن اللحوم ومشتقاتها (حتى عن الحليب والألبان والأجبان). ومن المسيحيين من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.. فالرهبان من المسيحيين الأرثوذكس في إثيوبيا يصومون لمدة 250 يوماً، ويمتنعون خلال كل هذه الأيام عن الزيوت وعن كل منتج حيواني. أما العامة منهم فيصومون لمدة 180 يوماً. ويُسمح لهم بوجبة طعام واحدة في اليوم شرط أن تكون خالية من الزيوت واللحوم. ولذلك يلجؤون إلى التوابل.
أما في الإسلام، وكما هو معروف، فإن شهر رمضان الذي لا تزيد أيامه على ثلاثين يوماً، يسمح فيه بتناول كل أنواع الحلال من الطعام والشراب منذ غروب الشمس حتى طلوع الفجر. وأذكر هنا أنني كنتُ في زيارة رسمية إلى مدينة سان بطرس برغ (ليننغراد سابقاً) في شمال روسيا، برفقة المفتي الأسبق الشيخ حسن خالد يرحمه الله، عندما تقدَّم إليه أحد المصلّين في مسجد المدينة يسأله عن إشكالية يعاني منها مسلمو شمال الكرة الأرضية. فهناك لا تغيب الشمس إلا لوقت قصير، والنهار قد يطول حتى 22 ساعة أو أكثر.. وكان السؤال: ما هي قواعد الصيام التي يجب الالتزام بها في هذه الحالة؟
أجاب المفتي بأن العلماءَ أفتوا بحق أهل المناطق الشمالية من الكرة الأرضية أن يصوموا ساعات معدودة وفقاً لأقرب دولة إليهم معتدلة المناخ. فردّ السائل وكان رجلاً مسنّاً: تمضي هذه الساعات المعدودة وتبقى الشمس مشرقة.. فكيف أسمح لنفسي بأن أتناول الطعامَ والشرابَ والشمسُ ساطعة؟ وبالفعل فإن الشمس هناك تعود للإشراق بعد صلاة المغرب.. وقبل أن يحين موعد صلاة العشاء!
تتكيّف عادات الناس وحتى طرق عباداتهم تأثراً بمتغيرات الزمان والمكان. إلا أنها تبقى في جوهرها تعبيراً عن الالتزام بإرادة الله. فالصيام لإله واحد.. ولكن بطرق متعددة.. وهو في الحسابات الأخيرة ركن من أركان الأخوّة الإنسانية.

عن "الاتحاد" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية