الغباء.. ميراث الإنسانية الخالد

الإنسان

الغباء.. ميراث الإنسانية الخالد


07/08/2018

هناك اختلال دائم في الشأن البشري أحد أوجهه الغباء، وهناك تفاوت في حظوظ البشر من الغباء طبقاً لمصادفات الجينات الوراثية أو تعقيدات التربية أو الاجتهاد في تحصيل قدر معتبر من الغباوة، وقد اعتاد الأسلاف توبيخ الأغبياء والسخرية منهم حتى بات هناك فرع أدبي قائم برأسه يسمى بقصص الحمقى والأغبياء، فضلاً عن المتوارث شفهياً من حكايات الغباء المميز، وفي عصرنا خصّص بعض الكتاب أعمالاً تعالج ظاهرة الغباء وأثرها المعقد على حياة الفرد والمجتمعات.

الغباء ممارسة يومية

من الصعب تحديد المسببات الحقيقية لآفة الغباء، لكن يمكن، على سبيل، المجازفة القول: بالإضافة إلى الوراثة هناك التلقين، واليقين الجاهل، واعتياد الطاعة، والولاء المطلق، ومطاردة الأشباح، والعمى الواقعي. ونقص القلق الخصب والسؤال الخالق للمعرفة، والخبرة، ومع ذلك يبقى الغباء عصيّاً على الاختزال، تماماً مثل نقيضه الذكاء.

لمصادفات الجينات الوراثية دور في تفاوت حظوظ البشر من الغباء

وفي حياتنا اليومية، يتعامل المرء مع أشخاص أغبياء سواء بشكل دائم في العمل، وهذا حظ تعس لا يمكن الفكاك منه، أو بشكل عابر حين يظهر أفراد أغبياء في الطريق أو في المقهى بشكل غير متوقع وفي لحظة غير محتملة، وكثيراً ما نخدع أنفسنا حين نتوهم أننا نعرف الشخص من ملامح وجهه؛ فأحيانا تخفي أكثر الملامح ذكاءً غباءً ضالعاً وعميقاً. وحين نكتشف الحقيقة الصادمة نجد أنفسنا مدفوعين للاشتباك معهم، وفي الوقت الذي نفقد فيه أعصابنا في مواجهته يعيش الغبي أنواع الاطمئنان كافة.

اعتبر مؤلف المستطرف أنّ من علامات الحُمق طول اللحية لأن مخرجها الدماغ فمن أفرط في طول لحيته قلَّ دماغه

وتتنوع أشكال الغباء لتشمل العفوي، وهو بلا آثار جانبية خطرة في أوقات كثيرة، والغباء الممنهج الذي ترعاه الدولة، وهو خطر على المستقبل الجمعي ومدمر لنضج الفرد الشخصي ولفرصه في الترقي الاجتماعي، والغباء الذي يكرسه الإعلام عبر الاختزال والاستخفاف بعقول المواطنين، بهدف تثبيت واقع سياسي معين، وهناك غباء جذّاب تم تلميعه جيداً كي يصبح قدوة لشباب من شرائح طبقية معينة، وهناك غباء يزرعه التنظيم السياسي في رؤوس كوادره، فتراهم في الحياة المهنية بالغي المهارة والإتقان وفي السياسة كائنات وسيطة بين البشر والجماد، وغباء من هذا النوع هو رحلة يقطعها الفرد، دون وعي، ويشارك فيها طواعية في تدمير حياته ليكتشف بعد خسائر لا يمكن تداركها أنه كان غبياً ببساطة.

وقد يمنح الغباء الكثيرين نوعاً من التوازن النفسي في عالم مضطرب، ويمنح حامله قدراً لا بأس به من الأمان النفسي والذهني، لكنه في صميمه مأساة، والغبي محاط أبداً بظروف مأساوية، وكل اختياراته جحيم نوعاً ما، وأحياناً يصل به الغباء إلى الاغتراب عن طبيعته البشرية عبر تشوه وعيه كلياً في منظومة غبية وقودها الناس والغباء.

فاكهة القدماء

ظاهرة الغباء كانت محل مقاربة القدماء بكل المناظير المتاحة الفلسفية والدينية والأخلاقية؛ فابن الجوزي خصص مؤلفاً كاملاً من مؤلفاته يعج بـ "قصص الحمقى والمغفلين" الذين اعتبرهم مثالاً يجب أن يعتبر به المرء، واعتبر قصصهم سبيلاً للترويح عن النفس من عناء الجد ومصدراً للتفكُّه والتسلية، وهو يعرّف الحمق بأنه "فساد في العقل أو في الذهن وما كان موضوعاً في أصل الجوهر فهو غريزة لا ينفعها التأديب، وإنما ينتفع به من كان جوهره سليم". ويورد ابن الجوزي موقفاً لرجل يدعى زيد بن ثروان القيسي فيقول: "ضاع منه بعيره، فجعل ينادي في الناس: من وجده فهو له، قيل له: فلم تنشده؟ قال وأين حلاوة الوجدان" أي العثور على الشيء الضائع!

قد يمنح الغباء الكثيرين نوعاً من التوازن النفسي في عالم مضطرب

كما استفاض بهاء الدين الأبشيهي في كتابه الفريد "المستطرف" في الحديث عن الغباء والحماقة، وهي مأخوذة، كما يقول، من حَمِقَ السوق إذا كسدت، فكأنّ الأحمق كاسد العقل والرأي فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر من الأمور، ومن طرائف الأمور أنّ الأبشيهي يعتبر أنّ من علامات الحُمق طول اللحية لأن مخرجها الدماغ، فمن أفرط في طول لحيته قلَّ دماغه.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي ومصير العرب السياسي

وحكى الأبشيهي أنّ أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعال نمتنَّ على الله، فإن الطريق تقطع بالحديث، فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها، وصوفها وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك، حتى لا تترك منها شيئاً. قال: أهذا من حق الصحبة؟ وحرمة العشيرة؟ فتصايحا وتخاصما ثم تراضيا على أنّ أول من يطلع عليهما يكون حكماً بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان (الزق هو الوعاء) من العسل، فحدثاه بحديثهما فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، ثم قال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين!

مُحرِّك للتاريخ

وفي العصر الحديث يسرد إريك دورتشميد في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ" وقائع من التاريخ العسكري التي كان للقرارات الفردية والأخطاء الناتجة عن الغباء وسوء التقدير أو ضعف الكفاءة أو انعدام الجسارة والإقدام دور حاسم في تغيير مسارها ومحطات فاصلة في تاريخ الجنس البشري، ويبدأ دورتشميد من واقعة حصان طروادة وحتى حرب الخليج، مروراً بالمعارك الصليبية والحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام.

كان غباء أهل طروادة، كما يقول، جعلهم يقتنعون بأنّ الحصان الخشبي المجوف الذي تركه الإغريق على بوابة مدينتهم هدية من الإله، فأدخلوه إلى وسط المدينة، ليخرج المحاربون الذين اختبأوا داخله في الليل ويفتحوا أبواب المدينة لبقية لرفاقهم، لتكون نهاية طروادة التي استمرت الحرب بينها وبين الإغريق لمدة 10 أعوام.

كتاب: "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ" - إريك دورتشميد

وفي العصر الحديث كانت جريمة الألمان الشنعاء، كما يؤكد الكاتب، ضد أنفسهم أولاً هي التعصب المفرط ضد العلماء اليهود في خضم حرب عالمية مهلكة، فهاجر على إثر ذلك عدد من العلماء اليهود (مثل أينشتاين) إلى أمريكا، وساهموا في اختراع القنبلة الذرية التي أنهت الحرب على حساب الألمان.

اقرأ أيضاً: هل أصل الإنسان قرد؟ 10 خرافات حول نظرية التطور

كما كان صدّام حسين غبياً بما يكفي لغزو الكويت عام 1990 في وقت بدأ فيه انسحاب الاتحاد السوفيتي من العالم العربي، في سياق نهاية الحرب الباردة، وأفول القوة السوفيتية وتغير موزاين القوة العالمية بشكل حدي، فارتكب بذلك أكبر المحرمات في السياسة الدولية منذ عام 1945 (كما يقول المؤرخ الفرنسي هنري لورنس في كتابه "اللعبة الكبرى") أي احترام الحدود وبقاء الدول، وأتى بذلك بسابقة تمثل خطراً بالنسبة لأي بلد في العالم الثالث، حيث عمليات النزاعات الحدودية والتوترات الإقليمية ذات وجود طاغٍ وفعّال؛ فتسبب ذلك في عدم اكتفاء الأمم المتحدة بالإدانة بل بإرفاقها بعقوبات.

قوانين الغباء البشري

المؤرخ الاقتصادي الإيطالي كارلو م سيبولا (1922-2000) خصص واحداً من مؤلفاته الأكثر شهرة بعنوان "القوانين الجوهرية للغباء البشري" وهو خلاصة لسنوات من المراقبة والتجريب مُعبّر عنها بلغة أكاديمية. وينبّه سيبولا في مقدمة كتابه إلى أنّه لا يخاطب الأغبياء، بل يخاطب من عليه بين حين وآخر أن يتعامل مع بشر من هذا النوع من البشر.

ووضع سيبولا 5 قوانين للغباء البشري في كتابه، الذي ترجمه إلى العربية زاهر السالمي، بهدف معرفة واكتشاف، ومن ثم إمكانية تعطيل واحدة من أعتى وأظلم القوى التي تقيد نمو الرخاء البشري وسعادته، وهي الغباء. تلك القوانين هي:

(1) "دائماً يقلل الجميع من تقدير عدد الأفراد الأغبياء" ويؤكد سيبولا أنه لا يمكن تحديد رقم معين من الناس الأغبياء نسبة إلى عدد السكان، لأنّ أي تقدير رقمي سينتهي إلى أن يكون تقليلاً من تقدير عددهم الواقعي. ويستشهد بما كتبه مجمعو الكتاب المقدس بأن "عدد الأغبياء لا نهائي".

(2) "إنّ احتمالية أن يكون فرد ما غبياً مستقلة عن أي صفة أخرى لذلك الفرد" فالغباء ميزة عشوائية لكل الجماعات الإنسانية، وموزع بتجانس حسب نسب ثابتة، لذا فإنّ كل حديث عن المساواة خرافة، والبشر بعضهم أغبياء والبعض الآخر ليس كذلك، وهذا الاختلاف كوّنته الطبيعة وليست الحقائق الثقافية، فالمرء يكون غبياً بنفس الطريقة التي يكون فيها أحمر الشعر؛ وينتمي إلى جماعة غبية مثلما ينتمي إلى فصيلة دم معينة" ومن ثمَّ يلقي سيبولا بجمرة الغباء في حجرة الطبيعة ويعفي الظروف الاجتماعية من أي مساءلة عن دورها في إعادة إنتاج الغباء.

تتضمن السخرية من الأغبياء قدراً من الثقة بأن الذات ليست هكذا وأن الموصوف بالغباء يستحق أن يُسخر منه

وينفي سيبولا أن يكون للتعليم أي دور في احتمالات الغباء، ويستشهد بالتجارب التي أجريت في العديد من الجامعات عبر العالم، حيث تقل نسبة الغباء في أوساط أصحاب الياقات الزرقاء في الجامعات وتزيد في أوساط الأساتذة، ويوسع نطاق نتائجه بالقول إنّ النخبة الصميمة الحاصلة على نوبل تضم نسبة معتبرة من الأغبياء!

(3) "الغبي يسبب الخسارات لشخص آخر أو لمجموعة من الناس، وبينما هو نفسه لا يكسب وربما يعاني من خسارات" وهو يشبه ما قاله ابن الجوزي "مؤنة العاقل على نفسه ومؤنة الأحمق على الناس" ففي أغلب الأحيان نمر في حياتنا اليومية بحالات نفقد فيها مالاً/ وقتاً/ طاقة/ شهية/ سعادة/ صحة بسبب أفعال غير مناسبة من كائن غير مسؤول ليس لديه شيء يكسبه من إيقاعنا في الحرج أو الصعوبات أو الأذى، ولا أحد يعرف لماذا يفعل هذا الكائن ما يفعله. هناك تفسير واحد لذلك الأمر هو أنّ الشخص محل السؤال شخص غبي، كما يقول سيبولا.

اقرأ أيضاً: الغزاة الآليون قادمون.. ماذا أنت فاعل أيها الإنسان؟

(4) "يقلل الأذكياء دائماً من حجم القوة المخربة لدى الأغبياء. أو يستمر الأذكياء في نسيان أنّ التعامل مع بشر أغبياء ينقلب دائماً إلى خطأ مكلف في كل الأوقات والأمكنة وتحت أي ظروف" فعلى مدار آلاف السنين فشل أفراد لا حصر لهم في تقدير خطورة الغباء، ونتج عن ذلك الفشل خسائر لا تحصى للجنس البشري.

(5) "الإنسان الغبي أخطر أنواع البشر؛ بل هو أكثر خطورة من اللص" فحين ننظر إلى رخاء المجتمع بدلاً من حسبان الرخاء الفردي نكتشف أنه حين يسرق لص ثروة يزيد حسابه زيادة مساوية بالضبط للخسارة المسببة لإنسان آخر، وبالتالي لم تتأثر ثروة المجتمع ككل؛ فإذا ما كان كل أفراد مجتمع ما لصوص كاملين فإنّ المجتمع سيظل راكداً بلا كارثة عظيمة. لكن ستختلف القصة حين يبدأ الأغبياء في العمل؛ فالبشر الأغبياء يتسبّبون في خسارة لآخرين دون مكسب يعادلها في حسابهم، لذلك فإنّ المجتمع ككل يتعرض للإفقار.

الغباء كمشروع سياسي

لا أحد يتصور المدى التخريبي الذي قد يصل إليه الغباء في الظروف الحالية للعالم عامة والعالم الثالث خاصة؛ فالمجتمعات الحديثة لديها من المؤسسات الراسخة التي تعمل ككوابح للطاقة التدميرية للغباء، أما في عالمنا الثالث حيث مواقع المسؤولية ليست حكراً على الأكفأ أو الأجدر، بل تمتد لتشمل الوراثة والقرابة والوساطة وأحياناً الصدفة، والدولة منذ تأسيسها في مجتمع تقليدي هي صاحبة الدور بالغ المركزية في تنظيم المجتمع وتطويره، وفي ظل اتخاذ البناء المؤسسي لها الشكل الهرمي تركزت السلطة السياسية تاريخياً ودستورياً في يد الحاكم الفرد.

الغبي وإن كان مضحكاً ومسلياً قد يكون خطِراً إذا تولى المسؤولية

فإن حدث ووصل من هو محدود القدرات العقلية والطاقة الذهنية إلى السلطة فذلكم الخراب؛ فالغبي وإن كان مضحكاً ومسلياً سواء في حضوره المادي أو حضوره المتخيل في القصص والحكايات، إلا أنه قد يكون أخطر ما في الوجود إذا تولى المسؤولية، أو ألقت به اللحظة التاريخية في طريق شعبه المنحوس.

إنّ غباءً في هذا الموقع لا يمكن أن يكون عادياً، فهذا الشخص استثنائي وأخطر من أعدى أعداء الشعب، وإن كان يُضحِك الرعية ويسليها إلا أنه يدمر حاضرها ومستقبلها؛ فلا أحد يتطوع للصلب على خشب الثورة كي يحصل الفقراء على كسرة خبز، ويحصل الوطن على مستقبل. ولا برلمانات في بلادٍ كهذه، ولا رقابة، ولا رأي عام، والدستور حبر على ورق. ولا يرحل الحاكم إلا مقتولاً أو مخلوعاً بثورة أو بحرب أهلية؛ فالترتيبات السياسية للدولة والطبقة المالكة تضمن إعادة تعيينه ميكانيكياً، بانتخابات أو بدون، بغض النظر عن رأي الشعب.

ومع ذلك تعمد بطانة الحاكم مهما بلغ مستوى مرموقاً من الغباء إلى تملقه بكل أنواع الإطراء؛ وستحشد الشواهد على تفرد عبقريته بعد إعادة تأويلها، والقرائن بعد إعادة صياغتها وتكييفها، لدعم توجهها في تحويل الغباء إلى مشروع سياسي، فغباء الأقوياء محمود دائماً، أما فاتورته فالشعب هو المسؤول الوحيد عن تسديدها.

اقرأ أيضاً: أبو العلاء المعري يواجه أعداء الحرية والعقل والإنسان

وبالتوازي مع ذلك يتولى العسس الإيقاع بالساخرين من الحاكم الغبي. ومن عجائب ظاهرة الغباء البشري أنّ المخبرين المكلفين بالقبض على الساخرين والتجسس عليهم يرتدون الزي نفسه، بلون شبه موحد والنظارة نفسها ويمسكون بالجريدة بطريقة معروفة لعامة الناس ويدخنون بالطريقة نفسها؛ فالغباء ينحو للتماثل والسخرية اللمّاحة تعيش في الاختلاف.

والغباء والسخرية لا ينفصلان أبداً، إذ تتضمن السخرية من الأغبياء قدراً من الثقة بأنّ الذات ليست هكذا، وأنّ الآخر الموصوف بالغباء يستحق وبجدارة أي سخرية منه، وقد يتعدى الأمر الفكاهة ليصل إلى الاستهزاء والانتقاص من قيمة الآخرين سواء على المستوى السياسة أو على المستوى الحياة اليومية.

الصفحة الرئيسية