القسوة بما هي خلاصة الكراهية والتطرف والعنف

القسوة بما هي خلاصة الكراهية والتطرف والعنف

القسوة بما هي خلاصة الكراهية والتطرف والعنف


17/09/2023

يُعتبر كتاب كاثلين تايلور "القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري" دليلاً مفيداً ومهمّاً، ولعله أفضل دليل لفهم ظاهرة التطرف والكراهية، بغضّ النظر عن مصدرها وأسبابها الإيديولوجية دينية كانت أو قومية.

تحدثت تايلور عن نظرية نقل وتطور الثقافة Meme Theory وكأنّه نوع من غسيل الأدمغة بطريقة نشر الجديد من الظواهر الثقافية والأفكار ونماذج السلوك في العقول، وبين الأجيال بمنهج التكرار والمعلومات الموجهة، وعن طريق الفن وطراز الأزياء ووسائل الإعلام والتكنولوجيا، والسر هنا في (3) كلمات: "التبليغ والتكرار والتأثير، ثم يأتي القبول"، ويمكن ملاحظة إيجابيات عدة في هذه الثقافة؛ مثل:

1-  الاستعداد الذهني للنقاش والتقييم هو الذي يحدّ من القلق والخطر الناشئ عن صراع الفكر المخالف للعقيدة الذاتية.

2-  القوة الظاهرة لأيّ عقيدة يمكن حصارها بالمناقشات والحوار والمناظرات، ممّا يعمق ويؤصل الثقافة داخل المجتمع. كما أنّ السادية والجرائم تنتشر بفعل العقائد الخاطئة واتجاه الإعلام ووسائل التسلية وبعض الأفلام التي تشيع وتنشر القسوة، تقول تايلور: "نحن نشاهدها على الشاشات ثم تنتشر في حياتنا اليومية".

3-  إنّ عدم تنفيذ الأحكام في المجتمع وانفلات السلوك له سببان: إمّا أنّ أصحاب السلطة يريدون ذلك، وإمّا أنّ البيئة كلها شديدة الفوضى لدرجة أنّ القوانين لا تفرض عقوبات رادعة ولا تدعمها.

4-  إنّ تعليم الأطفال التاريخ الصحيح هو دعامة الوعي السليم، يجب عدم تكرار سرد الأخطاء التاريخية وجلد من ارتكبوها، لكن لا بدّ من أن توضع هذه الأخطاء في مضامينها لمعرفة أسباب حدوثها وكيف نتجنبها.

يُعتبر كتاب كاثلين تايلور "القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري" دليلاً مفيداً ومهمّاً، ولعله أفضل دليل لفهم ظاهرة التطرف والكراهية، بغضّ النظر عن مصدرها وأسبابها الإيديولوجية دينية كانت أو قومية

 

يناقش الكتاب مقولتين؛ إحداهما أنّ القسوة ليست شأناً يخص المجانين أو من يولد شريراً  بالفطرة، بل من الأرجح أنّ كثيراً من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل؛ أي إنّه يُرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبيه. والمقولة الثانية هي أنّ الفرق بين الأفعال الموصوفة بالقسوة هو اختلاف في درجة الإيذاء، وليس اختلافاً في نوع القسوة، مثال: الإهانة اللفظية لأحد المهاجرين، أو ضربه حتى الموت.

ومن السمات المؤذية في طبائع البشر ميلهم إلى تصنيف "الآخر"، ليس فقط في أوقات ومجريات المحن الكبرى، ولكن كردّ فعل على تحديات ضئيلة وأمور بسيطة في محيطنا الاجتماعي قد نعتبرها -نحن- تمسّ مقامنا أو كرامتنا وإحساسنا بالاعتزاز والفخر. إننا ما زلنا نميل إلى، أو نريد، إنزال الضرر بالغير، وأحياناً يبلغ الضرر درجة الإبادة الجماعية، ذلك فقط لأننا تحكمنا معتقدات تجاه غيرنا من الناس تدعونا إلى اعتبارهم طائفة تستحق الكراهية. 

توصف الكيانات المعادية بالشر؛... كائن شرير معادٍ يهدد وجودنا وأشخاصنا، لا نستطيع أن نفعل شيئاً يجعله يغير من سلوكه، كائن خطير ليس مثلنا، يهدف إلى الإيذاء والضرر والتدمير، ومسؤول أخلاقيّاً عن أفعاله، ولأنّ التهديد الذي يمثله هذا الكيان قاسٍ وشديد، فلدينا ما يبرر اللجوء إلى أن نبطل أو نقضي على هذا التهديد.

يلزم التمييز بين القسوة والعدوان والعنف، كلمة عنيف تصف سلوكاً، وتذكرنا بتأثيرات الفعل السريع، القوة، القدرة البدنية والقدرة على التدمير، أمّا كلمة عدوان فتعبّر عن النية والقصد بالاعتداء، ولكنّ القسوة غالباً ما تتضمن العنف المتناهي. والقسوة تنشأ في مواقف معينة، ولكنّها لا تكون أبداً عشوائية أو دون تمييز إلّا ربما في حالات الاضطرابات العقلية الشديدة، لكن تحكمها الظروف مثلما تحكمها الشخصية، والناس سوف يستمرون في اقتراف القسوة في مواقف معينة.

ما القسوة؟

سلوك ذاتي متعمد غير مبرر يسبب الأذى والمعاناة والألم لشخص بريء أو لا يستحق ذلك، وغالباً ما يكون لا يثير الاستنكار أو الرفض تجاه مرتكبي الفعل في أوساط وجماعات ودول معينة، وقد تتضمن القسوة عدواناً جسديّاً أو إهانة وإيلاماً تجعل المستهدفين يعانون حسيّاً أو نفسيّاً أو معنويّاً. والقسوة مفهوم أخلاقي، فمن يقدم على إيذاء الغير، لا بدّ أن يبرر أفعاله.

إنّ ما يجعل القسوة بالغة الفظاعة؛ وما هو أكبر من الإيذاء الحسي والمعاناة والتجريد من الرتب العسكرية، هو تجريد الإنسان من آدميته، والتجرد من المعاني الإنسانية. هناك من ينكر حقائق تاريخية؛ ليس بسبب الجهل، ولكن لأنّ معتقداتهم تجعل قبولهم بهذه الحقائق مستحيلاً، وإذا شعر مرتكب السلوك، حتى لو كان عادلاً أو مبرراً، بالمتعة في الإيذاء، فإنّ سلوكه يُعتبر شيئاً بغيضاً، وفي مرتبة الشرور تتفوق السادية، وتعلو على غلظة القلب، وتجسّد الدرك الأسفل والأفظع من وحشية الإنسان.

من الأرجح، وفق تايلور، أنّ كثيراً من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل؛ أي إنّه يُرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبيه

 

يقول باري كانليف في كتابه (جذور الحرب): "إذا كانت نظرتنا إلى جذور وتطور الحروب قد علمتنا شيئاً، فقد علمتنا كيف أنّ المواجهات الأبدية منذ الأزل، وفيما بعد العولمة، فرضتها علينا الغرائز الدفينة التي اكتسبناها نحن البشر العدوانيين من "الاصطفاء الطبيعي والنشوء والارتقاء والبقاء للأقوى"، ويقول توماس هوبز في كتابه (اللفياثان): "الحياة قصيرة رديئة جديرة بالازدراء، مليئة بالعزلة والوحشية،... والبشر بطبيعتهم يتصفون بالعنف، وتقيدهم البنية الاجتماعية"، وفي المقابل يقول جان جاك روسو: "البشر طيبون بالفطرة".

 في فهم القسوة (ويشمل ذلك بطبيعة الحال الكراهية والتطرف) تقول تايلور: يمكن ملاحظة عدة أنواع من التفسيرات عن سبب القسوة، والقوى والضغوط الاجتماعية والثقافية: الرفاق، وطلب الإذعان والطاعة، والإيديولوجيات، والخرافات، والأنماط والتغيرات الاقتصادية المفاجئة، والدوافع البيولوجية، والمخدرات والهرمونات، والبرامج الدفينة للاستجابة للتهديد، و"ظلال الأسلاف" التي تمثل حاجتنا ونزوعنا للتنافس ولعزل الغير/الآخر.   

بتطور البشر تطورت بمرور الوقت ردود أفعالهم، وأتاحت استمرارية التهديد للمخلوقات امتلاك ردود أفعال محددة ومبرمجة ضد المخاطر، مثل تغيرات فسيولوجية، مشاعر، تصرفات تلقائية ضد مثيرات معينة، واحتفظ الإنسان بهذا الاستعداد لردّ الفعل السريع مثلما احتفظ بغرائزه الوحشية العدوانية، كما يرى أيّ ملاحظ لسلوكنا في المتاجر، إذ نقفز عند سماع ضوضاء مفاجئة ونحن لا نعرف أنّه لا ضرر منها، ونشعر بعدم الارتياح في الأماكن المظلمة، وردّ فعلنا تجاه حيوانات معينة هو الخوف والرعب، سواء استطاعت إيذاءنا أم لا، وتُفزع الحركات المفاجئة الأطفال الرضّع كما تُفزع البالغين، وتبقى هذه الغرائز، حتى إن لم نواجه أخطاراً ومهالك، وحتى لو امتلكنا التاريخ المشترك وليس درجة الخطر، فالذين يموتون بسبب عقار "باراسيتامول" يفوق بكثير ضحايا العنكبوت، ولكنّ الخوف من العنكبوت أكثر شيوعاً من الخوف من مسكنات الألم!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية