المناسبات المسيحية في السعودية خطوة أولى للانفتاح وأخرى لبناء الكنائس

المناسبات المسيحية في السعودية خطوة أولى للانفتاح وأخرى لبناء الكنائس

المناسبات المسيحية في السعودية خطوة أولى للانفتاح وأخرى لبناء الكنائس


25/02/2023

عكس التقارب الملحوظ بين الرياض وكيانات كنسية في العالم، والسماح بإقامة مناسبة دينية للأقباط على أرض سعودية مؤخرا، مدى الوتيرة السريعة التي تمضي بها المملكة نحو المزيد من الانفتاح وتكريس التسامح ومواجهة التشدد الديني بناء على قناعات لا مجرد توصيل رسائل سياسية إلى من يهمهم الأمر.

وأعلنت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في العدد الأخير من مجلة “الكرازة” الناطقة بلسان حالها، أنها أقامت قداس عيد الميلاد الأخير في السعودية بـ”رعاية كاملة من سلطات المملكة”، وبتكليف من البابا تواضروس الثاني، بابا أقباط مصر، للأنبا مرقس مطران منطقة شبرا الخيمة في وسط القاهرة، بزيارة الأقباط المقيمين في السعودية.

واستمرت الزيارة شهرا، وشملت عدة مدن في الرياض وجدة والمنطقة الشرقية، وشهدت إقامة القداسات بحضور أعداد كبيرة من الأقباط المصريين والإريتريين وممارسة كافة الصلوات والاجتماعات الروحية. وتعد زيارة المسؤول الكنسي المصري إلى المملكة هي التاسعة له منذ عام 2015، والتي تتم بشكل سنوي وبرعاية كاملة من السلطات السعودية.

وأشادت الكنيسة المصرية بالسعودية وما تشهده من طفرة في التطوير والتقدم والازدهار والانفتاح ورعاية الأقباط وغيرهم، وهو التقارب الذي يتماشى مع الرؤية الجديدة التحديثية التي يطبقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتقوم على احترام التعددية والتقارب بين الأديان وإعلاء قيم التسامح والتشارك.

وتتكرر الزيارات الرسمية من مسؤولين بارزين في المملكة إلى المقر البابوي للكنيسة الأرثوذكسية بالقاهرة، وهو مؤشر يمهد لاستجابة الرياض لتطلع البابا تواضروس إلى بناء أول كنيسة في المملكة، والتي ألمح إليها خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى الكاتدرائية المصرية عام 2018 قائلا “هناك دول خليجية مجاورة بها كنائس، لماذا لا توجد في السعودية، لا أعرف طبيعة ظروفهم، لكن إذا فعلوا هذا سيكون شيئا جميلا”.

وترى دوائر قبطية أن ما تشهده المملكة من انفتاح وعصرنة ونبذ لكل مظاهر التخلف والتطرف والسماح بالمناسبات الكنسية ينسف تاريخا طويلا من المحظورات التي كانت تطبقها السعودية في الماضي، ومن بينها منع إقامة كنائس لاعتبارات دينية.

وتؤكد إقامة المناسبات المسيحية في السعودية بهدوء وسلام ودون امتعاض أو تذمر جماهيري أن القاعدة الشعبية في المملكة باتت مهيأة للتعامل مع أصحاب الديانات الأخرى بمحبة وتآخ وتشارك مبني على أسس إنسانية واجتماعية وبعيد عن اختزال الأمر في العقيدة أو النبش في الخلفيات الدينية.

وبما أن القداس أصبح يقام بشكل عادي في السعودية بعد أن كان حدثا نادرا، فإن المؤشرات تبرهن أن التسامح مع الآخر الذي صارت عليه المملكة أكبر من مجرد بناء كنيسة أو السماح للأقباط بإقامة مناسبات دينية، وأضحى التعاطي مع هذه المستجدات يتم من منظور فرضته مسيرة الانفتاح والتحديث، ما أجبر أصوات التشدد على الخفوت أمام شغف شريحة في المجتمع بالتعاطي مع العصرنة ونبذ الطقوس البالية.

ومارس الأقباط في السعودية عبادتهم سرا فترة طويلة، وتم القبض على الكثير منهم على يد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصادرة الأناجيل منهم، واليوم اختلفت الأوضاع وبات القداس علنيا دون منغصات أو تهديدات أو تحريض ضد المسيحيين عموما في المملكة، ما يعكس الإرادة السياسية القوية في السعودية الجديدة ومواجهة كل ما يدعو إلى التطرف أو إقصاء الآخر على أساس عقائدي.

ولا يستبعد مهتمون بالشأن السعودي أن يكون الترويج لإقامة المناسبات الكنسية في المملكة بهدوء وسلام وبشكل متكرر، مقدمة لاستضافتها البابا تواضروس الثاني بابا أقباط مصر للمرة الأولى في التاريخ، والتي سوف تحمل رسائل كثيرة، دينية وسياسية، وتكرس الانفتاح على الجميع بعيدا عن الانغلاق والوصاية والتدخل والخوف من المتشددين، بحكم أن الغالبية السكانية على استعداد لتقبل المستجدات.

وتنظر الكنيسة المصرية إلى الدور الإصلاحي الكبير الذي يقوم به ولي العهد السعودي بشغف، وتراه نموذجا في تكريس التقارب بين الأديان بعيدا عن التحفظ السابق لاعتبارات وضعها سلفيون وأصحاب الفكر الوهابي المتشدد.

وقال المفكر المصري ومؤسس التيار العلماني في الكنيسة كمال زاخر إن ما يحدث في السعودية من تغيرات جذرية على مستوى التقارب مع المسيحيين وقبول الآخر سوف ينعكس على المنطقة العربية بشكل إيجابي، والميزة أن الأجيال الجديدة في المملكة تتناغم مع الإصلاحات التي لامست الملف الديني، ما يعطي القيادة السعودية دفعة قوية لمواجهة المتطرفين.

وأضاف لـ”العرب” أن “السعودية باعتبارها مهد الإسلام عندما تتقارب مع المسيحيين فهذا أمر مهم وله نتائج جيدة في المنطقة، ومصر على وجه الخصوص، لكنه لن يمر بسهولة، فقد تحدث مقاومة من التيارات التي تستفيد من استمرار الانغلاق والتطرف، غير أنها لن تدوم، وسيكون هناك رفض ثم محاولة فهم، ثم قبول”.

وظل التيار السلفي الوهابي والجماعات الإسلامية المختلفة والمتشددون عموما يعوّلون على استمرار الجمود الفكري والديني في السعودية لما لها من خصوصية في العالم الإسلامي، كي يستمر التعامل مع الأقباط كأقلية وغير مسموح لهم بحرية إقامة الشعائر الدينية أو بناء الكنائس، على اعتبار أن ذلك يؤسس للتبشير، وهي نظرة ضيقة تعبر عن خواء ثقافي، ومع تسارع الانفتاح السعودي أصيب هذا التيار بنكسة.

ويرى متخصصون في الشؤون الدينية أن ما تشهده المملكة من حالة انفتاح على كل الثقافات وأتباع المذاهب والأديان ضربة قاصمة للسلفيين الذين راهنوا على استمرار الانغلاق الديني في بعض المجتمعات العربية لتنفيذ أجندة الإرهاب الفكري ضد الأقباط، كما هو حاصل في مصر، وبالتالي فإن الانفتاح السعودي على المسيحيين (إقامة القداسات والزيارات الباباوية…) مقدمة لتكريس التسامح بلا مذاهب.

وأوضح كمال زاخر لـ”العرب” أن “السلام الحقيقي في المنطقة والوصول إلى تقارب عربي يبدآن من التقارب الديني بين الإسلام والمسيحية، لا على أسس سياسية أو اقتصادية، فكيف تكون هناك وحدة وسلام وتعايش مشترك ولا يزال البعض يقاوم التقارب بين أبناء الوطن الواحد لأسباب عقائدية، وما يحدث في السعودية قد يكون بداية تفاهم عقائدي وسياسي وإنساني يتصدى لمخاطر التطرف ورفض الآخر”.

ولا يستبعد مراقبون أن تكون الخطوة الثانية في المملكة إقامة كنيسة، وربما كنائس، لتكريس التقارب الإسلامي – المسيحي، حيث سبق أن طالب بابا الفاتيكان بذلك إلا أن بعض الفقهاء والعلماء في السعودية رفضوا الدعوة، بحجة أنها تخالف النصوص الشرعية القطعية في بناء الكنائس والمعابد في جزيرة العرب، لكن التحركات الشجاعة للقيادة الحالية في المملكة قد تتجاوز الأصوات المتطرفة وتقدم على اتخاذ خطوة أبعد من السماح بإقامة المناسبات الكنسية.

ولدى القيادة السعودية مبررات دينية تتجاوز انغلاق أصحاب الفتاوى الوهابية في مسألة بناء الكنائس، على رأسها موقف شيخ الأزهر أحمد الطيب الذي قال في مطلع 2019 إن موقف الإسلام من بناء الكنائس محسوم، حيث يعد الإسلام ضمانة شرعية لبناء كنائس المسيحيين، وهذا حكم شرعي لا جدال فيه، وفي ديسمبر 2020 رد الطيب على تساؤلات بشأن حكم بناء الكنائس مؤكدا أن الإسلام ليس ضد ذلك، ولا يوجد في القرآن أو في السنة النبوية ما يحرم هذا الأمر.

وكانت صحيفة “إيكونوميست” البريطانية نقلت عن مستشار في الديوان الملكي (لم تسمه) أن مدينة نيوم الجديدة، أقصى شمال غرب السعودية، هي أحد الأماكن المحتملة لافتتاح كنيسة، وأن السلطات تعتبر افتتاح كنيسة مسألة وقت، وهو التصريح الذي لم يتم نفيه أو الرد عليه رسميا.

وقال زاخر إن “السعودية قادرة على بناء كنيسة، لأن لديها قيادة شجاعة تؤمن بالانفتاح والتقارب بين البشر على أسس إنسانية، وإذا نجحت سيكون التأثير محوريا وغير مسبوق فيما يتعلق بالملف المسيحي في المنطقة، طالما أن الأصوات المتشددة تتعامل مع المملكة باعتبارها بوصلة الدين والفكر، وسوف يترتب على ذلك نشر الفكر الإصلاحي ووضع حد لخطاب الكراهية والصدام مع الآخر وفق دوافع عقائدية”.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية