تجنب التطرف بما هو تجنب إيذاء الناس

تجنب التطرف بما هو تجنب إيذاء الناس

تجنب التطرف بما هو تجنب إيذاء الناس


19/10/2023

لا تكن سبباً في أذى. حكمة تنسب إلى جالينوس وأبقراط رائدي الطب في التاريخ، أو كما يسميهما الرازي "الفاضلين"، بدأت وصية إلى الأطباء لكنّها تصلح قاعدة للحياة والبشرية في الحكم والقضاء والحرب والصراع والسلم والعمل والتربية وكل شأن من شؤون الناس؛ الارتقاء بالذات لدرجة عدم الأذى؛ أيّ أذى.

إنّ الاستعارة البلاغية لكلمة "مرض" تمثل حافزاً على إقصاء الآخر، فالمعنى يعطي تفسيراً بسيطاً وعاطفياً بدرجة كبيرة لأمراض الفرد أو الجماعة أو الأمّة، ويتضمن التهديد بردود أفعال تزيد من الدوافع على الفعل. وهذه الاستعارة تتناسب مع المعتقدات المقبولة عن المرض، بما في ذلك الشعور القديم بالخوف من الغرباء ناقلي المرض. يعتمد المعنى أيضاً على فكرة الجماعة كجسد يحمل عواطف إيجابية بين أعضاء الجماعة وتفرض عليها فروض الوحدة والطاعة، ويجعل ذلك الجماعة أكثر تماسكاً، ومن ثم يعطي قوة أكبر لأعضائها في مواجهة الدخلاء.

لو أعطينا الفرد الاختيار بين أن يغير معتقداته أو الأنماط العصبية في ذهنه لتتناسب مع العالم الواقعي، وبين تغيير العالم ليتواءم مع معتقداته، فإنّه سيتبع الاختيار الأسهل. وكلما كانت المعتقدات مهمة، فسيكون الدفاع عنها قوياً، وكلما كانت العواطف التي سيؤججها هذا التحدي شديدة ومتطرفة، فيحتمل أن يكون ردّ الفعل أكثر عنفاً، وعندما يتضمن المعتقد شيئاً من التقزز، ويتعرض هذا الفكر للتحدي، فإنّ بني الإنسان من الممكن أن يكون ردّ فعلهم مميتاً ويتصف بالوحشية البشعة. وتشمل بعض أنواع القسوة ردود فعل طائشة تجاه تهديدات اجتماعية تثير الغضب أو الخوف، وبعضها يتضمن إغفالاً متعمداً للحالة الإنسانية للضحية؛ لأنّ إقصاء الآخر جعل هذه الحالة لا اعتبار لها إطلاقاً بالنسبة إلى مرتكب الجريمة.

يتراوح السلوك القاسي بين سلسلة متصلة تشمل كلّاً من جمود القلب والسادية، وتتبلور القسوة الطائشة بلا تعقل ولا مبالاة والأنانية حول غلظة القلب في بداية هذه السلسلة

 

هؤلاء الذين تدفعهم معتقداتهم القوية قد يرون أنّ سلوكهم نوع من سوء الحظ، لكنّه دفاع ضروري عن النفس يحميهم من الأفكار والناس الذين يشكلون تهديداً ضد مظهر حيوي من مظاهر هويتهم. ليست كل القسوة مردها إلى الدفاع عن المعتقدات، لكنّ المعتقدات يمكن أن تستخدم تلقائياً في تبرير السلوك العدواني، فالجشع والخوف والرغبة في الانتقام والمنافسة على الموارد وكثير من المثيرات يمكن أن تدعم القسوة التي تحفزها المعتقدات وتغذيها مبرراتها الإيديولوجية. 

يتراوح السلوك القاسي بين سلسلة متصلة تشمل كلّاً من جمود القلب والسادية، وتتبلور القسوة الطائشة بلا تعقل ولا مبالاة والأنانية حول غلظة القلب في بداية هذه السلسلة، وفي نهاية السلسلة تكون الأفعال الأكثر سادية مثل القسوة التي تستخدم لإثارة الفزع والتي يكون فيها الرعب هو الرسالة المستهدفة وإن لم يكن الهدف النهائي.

لقد تطورت القواعد الأخلاقية كي تحمي "الأقرباء" وليس "الغرباء"، فعندما تعرضت الموارد البيئية المحدودة للمنافسة أصبحت الجماعات الخارجية تمثل تهديداً، ولمّا أصبح الخطر واضحاً، انطلقت ردود الفعل تجاه التهديد لتؤدي إمّا إلى انسحاب واحدة من الجماعتين، وإمّا إلى الصراع بينهما. يأخذ الصراع وجهته حسب اعتماد إحدى الجماعتين على الأخرى بطريقة ما، لذلك فقد اتفقت الجماعات على قواعد للصراع لأجل تقليل الخسائر وإمكانية الوصول إلى تسوية أو بناء تعاون مشترك.

تفترض نظرية اللعبة أنّه من المعقول أن نكون مسالمين مؤقتاً ومبدئياً، لكن يمكننا القيام بردّ فعل عدائي لو أبدى الطرف الآخر عدواناً. وإذا كان الغرباء عدائيين وأقوياء، فقد توازن الجماعة الوضع بردّ فعل معتدل في مستوى العنف بالقدر الذي نحتاجه كي نحافظ على سلامة جماعتنا. تنشأ التهديدات عندما تتعارض المعتقدات مع الواقع أو الحقيقة، فتتشكل الرغبة في حلّ هذا الصراع، فإذا كانت المعتقدات قوية، أو كان بالإمكان تعديل ومواءمة الواقع، فالجهد اللازم للتكيف مع الحقيقة سيكون أقل، ولأنّ معتقداتنا القوية جزء لا يتجزأ منا، فإنّ تهديدها يطلق ردود فعل مطورة بشدة، والتي لن تتناسب مع الأخلاقيات الحديثة، وإن كان تشكيل العالم يسبب المعاناة، فإنّ الفريق الثالث الذي لا يشاركنا معتقداتنا قد يتقبل ادعاء من يعتنق هذه المعتقدات بأنّ أفعاله لها ما يبررها، ومن ثم سوف يرى أنّه قاسٍ وأنّ سلوكه يتسم بالقسوة.

إنّ القسوة تجاه أفراد الجماعة شائعة، وجمود القلب مع الأصدقاء وأفراد العائلة يبدو أنّه يكون في أفضل أحواله مضاداً للتكاثر، وفي أسوأ أحواله يكون نوعاً من الانتحار الجيني

 

لكن لماذا نكون قساة مع الأقارب والذين نهتم بهم؟ إنّ القسوة تجاه أفراد الجماعة شائعة، وجمود القلب مع الأصدقاء وأفراد العائلة يبدو أنّه يكون في أفضل أحواله مضاداً للتكاثر، وفي أسوأ أحواله يكون نوعاً من الانتحار الجيني. كيف نفسر مثل هذه القسوة؟ لقد طورنا تهديدات لنكون عدوانيين، وطورنا ردود أفعال عدائية تجاه التهديدات لنواجه بها التحديات العامة الشائعة بين البشر، لكنّنا طورنا أيضاً مجموعة إضافية من الأسباب القوية للانشغال بتشكيل العالم الواقعي، بعنف أو بدون عنف، ويمكن أن نرتكب أخطاء إذا كانت ردود أفعالنا أكثر عدوانية عندما تتطلب الظروف، وليس مصادفة أنّ كثيراً من مرتكبي القسوة ضد الأطفال يرون جرائمهم كأنّها مجرد عقاب، أي أنّها مبررة لفرض النظام، فالطفل بالنسبة إليهم ضحية بريئة، ولكنّه عنصر تحدٍّ، فهو يحطم التوقعات عن كيف يكون النظام، وقد يهدد أحد الأقرباء المقربين المعتقدات والصورة الذاتية لشخص ما، أو يشوه عالمه "المنظم" بمطالب ورغبات تبدو غير معقولة، فيكون مثل الغرباء أو أخطر منهم، وحتى عندما يتطلب منطقنا الأخلاقي "التطوري" والنشوئي التحفظ أو الاعتدال، فإنّنا ـ نحن البشر ـ قد طورنا قدراتنا ودوافعنا على أن نتجاهل وننكر ونهدم كل المبادئ الأساسية والمنطقية. 

مواضيع ذات صلة:

ما الذي يغذي رحلة التحول إلى التطرف في أفريقيا؟

ما الطريق لمكافحة التطرف واكتشافه المبكر؟

التطرف بما هو منظومة من المصالح والعلاقات والمشاعر والأفكار




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية