تدمير غزّة بديل من تدمير "حماس"

تدمير غزّة بديل من تدمير "حماس"

تدمير غزّة بديل من تدمير "حماس"


13/12/2023

خيرالله خيرالله

بعد أكثر من شهرين على اندلاع حرب غزّة، يبدو المشهد محزناً إلى أبعد حدود الحزن. لم تعد توجد كلمات تصلح لوصف المأساة المستمرّة. ثمّة شعب يُباد ولا وسيلة لوضع حدّ لعملية الإبادة الممنهجة هذه. تحصل عملية الإبادة التي يُخشى أن تكون مقدّمة لإبعاد ما بقي من مواطنين فلسطينيين عن غزّة، في وقت لم تعد إسرائيل تجد أمامها غير تدمير القطاع على رؤوس أبنائه، في غياب قدرتها على تحقيق انتصار على "حماس".

في غياب الخيارات السياسيّة أمام إسرائيل، وهو غياب قديم قدم التخلّص من اسحق رابين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، ليس أمام إسرائيل سوى التخلّص من غزّة بعدما تبيّن، في ظلّ المعارك المستمرّة، عجزها عن التخلّص من "حماس".

نشهد تدميراً لغزّة كبديل من القدرة على تدمير "حماس" وإنهائها.

ترتكب إسرائيل جريمة ليس بعدها جريمة، بعدما عجزت كلّياً، عن سابق تصوّر وتصميم، عن إيجاد مخرج سياسي من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، والذي في أساسه الفكر الذي تحكّم ببنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي عموماً. إنّه فكر، لم يكن له من هدف في يوم من الأيّام، سوى تكريس الاحتلال للضفّة الغربيّة والقدس، واستخدام غزّة في سياق فرض هذا الاحتلال بالقوّة. هذا ما عبّر عنه دوف فايسغلاس مدير مكتب أرييل شارون رئيس الحكومة الإسرائيليّة، الذي اتخذ قراراً بالانسحاب الكامل من غزّة في آب (أغسطس) 2005. قال فايسغلاس بكلّ صراحة، في حديث نشرته صحيفة "هآرتس" وقتذاك، شرح فيه أبعاد الانسحاب من غزّة، إنّ شارون يستهدف الإمساك بالضفّة والقدس "بطريقة أفضل" وذلك بعد التخلّص من عبء غزّة.

يقوم الفكر اليميني الإسرائيلي على إلغاء الشعب الفلسطيني أو وضعه أمام أمر واقع، يتمثّل بالمستوطنات المقامة في الضفّة، في أحسن الأحوال. كيف يمكن لمثل هذا الفكر العثور على مخرج سياسي بدل متابعة الحرب التدميريّة لقطاع غزّة الذي لا تزيد مساحته على 365 كيلومتراً مربعاً، والذي فيه أقلّ بقليل من مليونين ونصف مليون فلسطيني؟

ليس ما يشير إلى أنّ نهج "حماس" التي شنّت هجوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، انطلاقاً من غزّة، بعيد من نهج اليمين الإسرائيلي ممثلاً بحكومة "بيبي" نتنياهو اليمينية، التي تضمّ وزراء من نوع ايتمار بن غفير أو بتسلئيل سموتريتش. الوزيران يؤمنان بأنّ في استطاعتهما تذويب الشعب الفلسطيني الموجود أكثر من أي وقت على أرض فلسطين. سهّلت "حماس" عبر كلّ ما ارتكبته في غزّة، حيث أقامت "إمارة إسلاميّة"، مهمّة اليمين الإسرائيلي. تسلّح اليمين الإسرائيلي طويلاً بشعار "لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه"، بغية الهرب من أي تسوية سياسيّة من أي نوع.

ماذا الآن بعدما أثبتت التجربة أنّ الولايات المتحدة، وهي الدولة الوحيدة القادرة على ممارسة ضغط على إسرائيل، لا تستطيع ممارسة مثل هذا الضغط؟ كان الفيتو الذي لجأت إليه في مجلس الأمن من أجل تعطيل مشروع قرار إماراتي يدعو إلى وقف النار "من منطلق إنساني"، خير دليل على العجز الأميركي عن لعب دور في وقف المجزرة المستمرّة.

التقى فكران يقوم كلّ منهما أساساً على إلغاء الآخر. ما فعلته "حماس" في غزّة التي استولت عليها منتصف العام 2007 كان إلغاءً للآخر، وذلك عندما سهّلت عليها السلطة الوطنيّة ممثلة برئيسها محمود عبّاس (أبو مازن) الاستيلاء على القطاع. كانت حركة "فتح" الضحيّة الأولى لما عملته "حماس" لدى استيلائها على القطاع بالقوة. كان الشعب الغزاوي الضحيّة الثانية لهذا العمل الانقلابي الذي أوصل إلى 7 تشرين الأوّل 2023... وما بعد ذلك اليوم. أي إلى ما يحصل الآن. أوصلت "حماس" غزّة إلى ما وصلت إليه، بعدما غيّرت طبيعة المجتمع في القطاع. تكفلت إسرائيل بالباقي، بعدما أفلست سياسياً وبات مصيرها، كدولة قامت في 1948، على المحكّ.

خاضت "حماس" حرب غزّة من دون أفق سياسي. وتخوضها إسرائيل من دون وجود مثل هذا الأفق أيضاً. يفترض في المجموعة العربيّة إيجاد مثل هذا الأفق السياسي الذي لن تتبلور معالمه ما دام "بيبي" على رأس الحكومة الإسرائيليّة، وما دام في إسرائيل من يعتقد أنّ في الإمكان تحقيق هدف مستحيل. يتمثّل هذا الهدف المستحيل في تصفية القضيّة الفلسطينية بغض النظر عن المآسي التي ستلي حرب غزّة. هذا ما حذّر منه الأردن الذي لديه مخاوف من انتشار عدوى التهجير إلى الضفّة الغربيّة. يدرك الأردن في العمق خطورة ما يمكن أن تُقدم عليه حكومة نتنياهو التي تكنّ عداءً واضحاً للمملكة الهاشمية، والتي لم تستكشف يوماً أي وسيلة لبلوغ تسوية سياسية.

لعلّ أكثر ما يدركه الأردن تحوّل "بيبي" إلى نمر جريح، خصوصاً أنّ استمرار حرب غزّة يجعل فرص إنقاذ مستقبله السياسي تتضاءل يومياً... ويجعل من خيار تحويل غزّة أرضاً محروقة، لا تصلح للعيش البشري، خياراً مطروحاً أكثر من أي وقت، لدى رجل لم يؤمن يوماً بالسياسة!

عن "النهار" اللبنانية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية