حرب الخرطوم... السودان دولة أمراء الحرب القادمة

حرب الخرطوم... السودان دولة أمراء الحرب القادمة

حرب الخرطوم... السودان دولة أمراء الحرب القادمة


17/09/2023

لم يُخيّب قائد الجيش السوداني عبد الفتّاح البرهان ظنون مراقبين كُثر، فبعد خروجه من مخبئه بمقر القيادة العامة للجيش السوداني،  وسط الخرطوم، انعقدت آمال الشعوب السودانية المتضررة من الحرب العبثية الدائرة على ناصية الرجل، واستبشرت بوصوله إلى بورتسودان آملة أن يقود البلاد إلى اتفاق سلام ينهي الحرب ويعيد الأمور إلى حالة من الاستقرار مُجدداً، لكنّ مراقبين يعرفون البرهان عن قرب قالوا إنّه لن يفعل، بل سيناور مجدداً وسيواصل الحرب مصطفاً مع حلفائه جماعة الإخوان المسلمين في المرحلة الأولى، ثم يرى فيما بعد ماذا هما فاعلان ببعضهما بعضاً.

صدق المرقبون إذاً، فيما خاب ظنّ الشعب في قائد جيشه، كما جرت العادة. لكن ماذا عن قوات الدعم السريع؟

على الأقل، تبدو في مواقفها المعلنة أنّها تريد الانخراط في المفاوضات، فقد التزم وفدها إلى جدة بأسوار المدينة ولم يغادرها حتى بعد أن عاد وفد الجيش أدراجه بدعوى أنّه يريد المزيد من التشاور، وهذا ما يُكسب قائدها حميدتي نقطة على غريمه البرهان.

يتمسك الجيش بخروج قوات الدعم السريع ممّا يطلق عليه في القانون الدولي الإنساني بالأعيان المدنية، مثل المؤسسات الخدمية ومقار الحكومة، فضلاً عن منازل المواطنين، شرطاً أساسياً للمضي قُدماً في أيّ اتفاق، وهذا من شأنه تعقيد الأمور وإطالة أمد الحرب ـ بحسب عسكريين واستراتيجيين، لأنّ قوات  الدعم السريع إذا خرجت من المنازل التي يتخذها الجيش أيضاً منطلقاً لقناصته، بحسب مقاطع فيديو منتشرة على السوشيال ميديا، فإنّها لن تخرج من مؤسسات الدولة إلّا باتفاق، وهذا ما صرح به مراراً يوسف عزت مستشار قائد قوات الدعم السريع.

الإخوان وتقسيم السودان

ليس هذا وحده ما يُعقد المشهد، فقد اتخذ البرهان مدينة بورتسودان عاصمة بديلة، وانطلق من ساحلها يجوب الدول المجاورة وغير المجاورة، دون أن ينبس ببنت شفة عن محادثات جدة، وهل تخلى عنها أم أنّه ما يزال ملتزماً بها؟

قائد الجيش السوداني عبد الفتّاح البرهان

يقود الرجل من المدينة الساحلية ـ شرق السودان ـ محادثات مع رموز حزب المؤتمر الوطني المخلوع (إخوان)، ويمضي قُدماً في خطهم السياسي المتمثل في الاستمرار في الحرب وتشكيل حكومة (تصريف أعمال)، تضم بجانب الإخوان بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، خاصة حركتي جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وبعض الأحزاب التي كانت تشارك نظام المخلوع البشير السلطة حتى لحظة سقوطه، وبعض زعماء القبائل على رأسهم الناظر محمد الأمين ترك زعيم جماعة البجا بشرق السودان وهو إخواني معروف.

يقود البرهان من شرق السودان محادثات مع رموز حزب المؤتمر الوطني المخلوع (إخوان)، ويمضي قُدماً في خطهم السياسي المتمثل في الاستمرار في الحرب وتشكيل حكومة (تصريف أعمال)

 

هذه الحكومة المزمعة، وبهذا الشكل المقترح، لن تجد قبولاً داخلياً ولا خارجياً، وهذا ما حدث بالفعل، إذ رفضت قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وجميع القوى المدنية والثورية ولجان المقاومة والمجتمع المدني والنقابات الذهاب إلى إعلان حكومة قبل التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب القائمة.

وقالت: إنّه "لا شرعية لأيّ جهة في البلاد لتكوين أيّ حكومة"، منذ الإجراءات التي أعلنها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وشملت حل مجلس السيادة والحكومة.

حكومتان في بلد واحد

في الوقت نفسه، قابل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) توجّه البرهان بإعلان حكومة من مقر إقامته بالتلويح بتشكيل حكومة موازية من الخرطوم؛ الأمر الذي يضع السودان عملياً على شفير التقسيم إلى عدة دول، وليس إلى دولتين فقط؛ وذلك لعدة أسباب.  

قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)

فمنذ اندلاع الحرب بدا قائد الجيش مُمتثلاً لروشته جماعة الإخوان المسلمين التي تستهدف العودة إلى الحكم بأيّ ثمن، فأعلن تحت ضغطها المتواصل عليه عمّا عُرف بالاستنفار، ودعا المواطنين إلى الالتحاق بمعسكرات التدريب وحمل السلاح في وجه ما سمّاه تمرد قوات الدعم السريع على الدولة، ولكن اقتصر هذا التدريب على أقاليم بعينها على رأسها ولايتي نهر النيل والشمالية، وينتمي البرهان إلى الأولى، فيما أطلق القليل من معسكرات التدريب على سبيل التمويه، في ولايات وسط السودان وشرقه، الأمر الذي اعتبره الطرف الآخر (الدعم السريع) استهدافاً له فيما اعتبره طيف واسع من سكان ولايات دارفور وكردفان تجنيداً عرقياً يستهدف الجماعات التي يشكل أبناؤها قوام الدعم السريع، وبالتالي أعلنت قبائل عربية كثيرة في هاتين الجهتين دعمها لحميدتي، ودعت أبناءها إلى الانخراط في قوات الدعم السريع، الأمر الذي أضفى بُعداً قبلياً وإقليمياً على الحرب الدائرة، وهذا ما حذّر منه مراقبون مبكراً، ودعوا البرهان إلى عدم الاستجابة لدعوات جماعة الإخوان بإعلان الاستنفار والتجنيد، لكنّ الرجل لم يأبه.

ميليشيات أمراء الحرب

في السياق، انضمّ العديد من الكيانات المسلحة إلى قوات الدعم السريع، واصطفت جميع الميليشيات الإخوانية المسلحة، كالدفاع الشعبي والبراء بن مالك، بجانب الجيش، وقد زار البرهان نفسه قائدها المصاب في معركة سلاح المدرعات بمستشفى مدينة عطبرة ـ شمال الخرطوم ـ عقب إجلائه إليه.

منذ اندلاع الحرب بدا قائد الجيش مُمتثلاً لروشته جماعة الإخوان المسلمين التي تستهدف العودة إلى الحكم بأيّ ثمن، فأعلن تحت ضغطها المتواصل عليه عمّا عُرف بالاستنفار

 

انخراط هذه الميليشيات في الحرب داعمة للجيش، أو لقوات الدعم السريع، يعني ببساطة حصولها على المزيد من السلاح والخبرة القتالية والشرعية أيضاً في أيّ مفاوضات مقبلة، ما لم ينخرط طرفا النزاع في محادثات عاجلة، فكلما استمرت الحرب، كرّست الميليشيات وجودها الفعلي على الأرض، واكتسبت استقلالاً نسبياً عن الجانبين الرئيسيين، ولربما خاضت ضدهما حروباً في مراحل لاحقة من أجل تحقيق بعض النفوذ على الأرض، وهذا بالضبط هو التوصيف العلمي لدولة أمراء الحرب.

دويلات عديدة

ما يحدث في السودان الآن سببه مواقف قائد الجيش وتعنته وإصراره على إنهاء الحرب بقوة السلاح، فيما وضع الجيش على الأرض في الخرطوم وولايات أخرى، ليس على ما يرام، كما يعلم الجميع، وكما هو ماثل وواقع.

فضلاً عن ذلك، فإنّ ما يزيد الطين بِلة ويدفع بتحقق دولة أمراء الحرب بسرعة كبرى، هو الذهاب إلى تشكيل حكومة حرب من مدينة بورتسودان، وهذا إن حدث، فستعلن قوات الدعم السريع ـ كما أسلفنا ـ عن حكومة موازية من العاصمة الخرطوم التي تفرض سيطرتها على معظمها.

بطبيعة الحال لن ينتهي الأمر هنا، فلربما تعلن الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ شمال ـ بقيادة عبد العزيز الحلو حكومة في جنوب كردفان من مدنية كاودا في جبال النوبة التي تسيطر عليها منذ أعوام وتتخذها عاصمة لها، ولربما تُعلن عدة حكومات أخرى في وسط السودان النيلي، وشرقه، ومنطقة البطانة بين نهري النيل الأزرق وأتبرا، وبالتالي سيكون السودان موعوداً بانقسامات جديدة على غرار انقسامه السابق عام 2011 على يد حكومة الإخوان المسلمين إلى دولتين، وربما أسوأ، ما لم يتم تدارك الأمور بسرعة من خلال تدخل دولي وإقليمي يحول دون ذلك.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية