غابة من المزارات الدينية الوهمية في العراق

غابة من المزارات الدينية الوهمية في العراق

غابة من المزارات الدينية الوهمية في العراق


03/08/2023

فاروق يوسف

كان لافتاً أن يتمّ التصويت في مجلس النواب العراقي على اعتبار ذكرى "يوم الغدير" عطلة رسمية. لا تحتاج الحكومة العراقية عادة إلى قرار من مجلس النواب لتعطّل الدوام الرسمي، ولا ضير بالنسبة لها لو أُضيفت عطلة جديدة إلى مجموع العطل التي إذا ما أُلحق بها يوماً الإجازة الأسبوعية فإنّها تستغرق ثلثي السنة أو أكثر.

كانت الحاجة إلى تصويت النواب طائفية وليست قانونية. ذلك لأنّ المرويات التي تتعلق بذلك اليوم الذي مضى عليه أكثر من 1400 سنة تفتح أبواب الخلاف على وقائع تاريخية لم يعد في الإمكان تغييرها. فهي ماضٍ، ليس في الإمكان استعادته إلاّ باعتباره حكاية. وما من نفعٍ في استعادة ذلك الماضي الذي لا ينطوي على أي درس إيجابي أو موعظة حسنة. غير أنّ ما يحدث في العراق من مغالاة طائفية تمزج الحقائق التاريخية بالمرويات الوهمية، يمكنه أن يتسع لأسوأ من ذلك. فإذا عرفنا أنّ هناك 529 مزاراً دينياً غير مسجّلة لدى الوقف الشيعي، يمكننا أن نتخيّل حجم الخديعة التي تنطوي عليها المبالغة الطائفية. غالبية تلك المزارات وهمية ليس فيها قبور لأئمة أو صحابة صالحين، أما القليل منها فإنّه يشير إلى مناسبة ما ليست موثقة تاريخياً، كما هو الحال مع مزار قطارة الإمام علي. ذلك المكان يقع في صحراء كربلاء، ويُقال إنّ الإمام علي بن طالب وجيشه قد شربوا من عين الماء الموجودة فيه قبل أن يتّجهوا إلى معركة صفين. ولقد ذاع صيته بعدما انهارت تلته وقتلت ثمانية من زوارها.

مصارف على هيئة قبور

الغريب أنّ ما يحدث في العراق لا يحدث في إيران. اكتفت إيران على سبيل المثال بمرقدي الإمام الرضا وهو ثامن الأئمة لدى الشيعة الاثني عشرية وأخته فاطمة المعصومة، أما العراق فإنّه لم يكتف بمراقد الإمام علي في النجف وولديه الحسين والعباس اللذين قُتلا في معركة الطف عام 70 هجرية في كربلاء ومرقدي الإمام موسى بن جعفر وولده محمد الجواد في بغداد ومرقدي الإمامين على الهادي وجعفر العسكري والسرداب الذي غاب فيه الإمام المهدي وهو طفل في سامراء، بل أُضيفت إليها عشرات المراقد التي صارت مزارات رسمية، بعدما سُجّلت في دائرة الوقف الشيعي.

يتعب المرء من عملية إحصاء عدد تلك المزارات التي تنتشر على خريطة تشمل بغداد وتمتد جنوباً إلى البصرة. أتذكّر أنّه كان هناك شباك ملوث بالحناء يحتل حيزاً مهمّاً في شارع الرشيد، قيل إنّه مرقد لأحد المنتمين لأهل البيت لا أتذكر اسمه، تعلوه لافتة كُتب عليها: "أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء"، وفي الطريق إلى العمارة (ميسان) كان هناك مرقدا علي الغربي وعلي الشرقي، وكانت سيارات النقل العمومي تطلق أبواقها حين الاقتراب منهما ويأخذ المسافرون بالدعاء.

يبلغ عدد المزارات المعترف بها رسمياً في العراق 167. أما المزارات غير الرسمية، فإنّ عددها قابل للزيادة، بسبب استمرار عمليات التنقيب والاكتشاف التي يقوم بها اللصوص والمحتالون ممّن يرتدون عمائم رجال الدين السوداء. لقد اكتشف "السادة" أنّ في إمكانهم أن يفتحوا مصارف عن طريق إقامة قبور وهمية، وهو ما يسمح به الوضع في العراق.

لا أحد يعرف أين تذهب تلك الأموال

المضحك في الأمر أنّ المؤسسة الدينية لا ترفض الاعتراف بحقيقة المزار إلاّ حين يرفض مكتشفوه أو مخترعوه على وجه أصح أن يذهب جزء من إيراداته المالية إليها. ثمة أموال هائلة تذهب إلى المرجعية الدينية في النجف، من غير أن تتمكن الدولة من فرض ضرائبها عليها. ولا أحد في إمكانه أن يحدّد إلى أين تذهب تلك المليارات سنوياً. مؤسسة النجف الدينية واحدة من أثرى المؤسسات في العراق، ولكن لا أثر لها على مستوى العمل الخيري. لم تُبن مدرسة ولم تُنشئ مستشفىً ولم تُعبّد طريقاً ولم تتبنّ أيتاماً ولم تخصّص رواتب لمعدومي الدخل ولم تخصّص المنح الدراسية خارج العراق. كانت التجارة الدينية تتمّ علناً، أما التصرّف بأموالها فقد كان سراً مغلقاً. يفكّر مخترعو المزارات الوهمية بالطريقة ذاتها التي تفكّر من خلالها المؤسسة الدينية. هناك فرصة للاحتيال من خلال الدين ينبغي استغلالها. نظرية الاستثمار عن طريق الدين صارت سائدة في العراق في ظلّ غياب الدولة المدنية التي تمّ إسقاطها عام 2003. لا أحد يصدّق أنّ عشرات البشر جعلوا من جذع نخلة موقعاً لنذورهم وهم يحلمون بتلبية حاجاتهم أو شفاء مرضاهم. إنّه العراق الجديد الذي صارت المؤسسة الدينية تتصرّف به كما لو أنّه إقطاعيتها.

ليست الدولة غائبة...

الإتجار بالدين هو سياسة ممنهجة في العراق وليس عملاً طارئاً وموقتاً. هناك تجار صغار يديرون المزارات الوهمية وهم في تزايد مستمر بسبب استمرار ظهور أماكن مقدّسة جديدة ما دام العقل مغيّباً، غير أنّ هناك، وهو الأهم، تجاراً كباراً، إيراداتهم المالية تفوق ميزانيات بعض الدول. وهم مؤثرون في سياسة الدولة التي لا تجرؤ على الاقتراب منهم إلاّ من أجل شراء رضاهم والتودّد إليهم لأنّهم يقومون بمهمّة مطلوبة من قِبلها. فما من ستار يُلقى على الوعي أكثر كثافة وأشدّ فتكاً من الخرافات الدينية التي تجد في المزارات مادتها الواقعية.

ولأنّ الدولة في العراق تُدار عن طريق المحاصصة الحزبية، فإنّها الطرف المستفيد من انشغال الطبقات المسحوقة والفقيرة الأكثر تضرّراً من سياستها بالغيبيات وما يُلحق بها من مرويات لا أصل لها في المعتقد الديني. ليست الدولة غائبة عمّا يجري كما يوحي البعض، بل إنّها تغمض عيناً وتفتح أخرى، لا من أجل الرقابة بل من أجل أن تتأكّد من أنّ الأمور تسير في السياق الذي يخدم استمرار نظام المحاصصة. ففساد المؤسسة الدينية هو خير سند لفسادها.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية