قضايا التحرش الجنسي.. إذا لم تنجح الحلول الأخلاقية هل تنفع الروادع القانونية؟

قضايا التحرش الجنسي.. إذا لم تنجح الحلول الأخلاقية هل تنفع الروادع القانونية؟


19/08/2020

تحيلنا إحصائيات ونسب التحرّش الجنسيّ والاغتصاب في العالم، إلى أنّ هذه الظاهرة ظاهرة عالميّة، لا تقتصر على مجتمعٍ دون آخر، وقد يُفاجأ كثيراً من يقرأ الترتيب العالمي في هذا الشأن، حين يرى دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية والسويد وبلجيكا تتصدر الترتيب العالمي في انتشار هذه الظاهرة، وإن كان لغياب الشفافيّة  في مجتمعاتنا دور في غياب النسب الدقيقة، هذا لا يعني أنّ هذه الظاهرة لم تتفشَ عندنا، فقد بدأت منصات التواصل الاجتماعي تميط اللثام عن المسكوت عنه فيما يتعلّق بهذه الظاهرة، خاصةً على ضوء الحملات العالميّة والمحليّة التي تستهدف فضحه اليوم، وهذا ما جعل التحرّش الجنسي، على حدّ قول هذه الحملات، يوحّد النساء حول العالم، ويجعل الكثير من الأطراف تعمل جدياً على تجفيف أسباب التحرّش، ولكن تباين هذه الأسباب العائدة إلى اختلاف الحوامل الثقافيّة والسياسية والاقتصادية للمجتمعات، ساهم في تعقيد المشكلة وحلولها.

من وجهة علم النفس تتعلق ظاهرة التحرش بغياب التربية، وانتشار الخيال الجنسي المرتبط بتنامي صناعة البورنوغرافيا، وثقافة قبول المجتمع للوم الإناث الدائم وإدانتهن

قد يتفق كثيرون على الخلاصة السيكولوجية في تحديد أسباب حدوث هذه الظاهرة وانتشارها، فمن وجهة علم النفس، فإنها تتعلق بضعف أو غياب التربية، وانتشار الخيال الجنسي المرتبط بتنامي صناعة البورنوغرافيا، وثقافة قبول المجتمع للوم الإناث الدائم وإدانتهن، واستخفاف الجناة بالقوانين، وهامشيّة وضعف وضع الأم في الأسرة، كما يعتبر السيكولوجيون أنّ هذا السلوك هو تعبير عن العدوانية ونزعة السيطرة والهيمنة داخل الأسرة، والأسر التي تنتشر فيها هذه الحالات تُعدّ في أغلبها أسراً مفككة، وفي حالاتٍ كثيرة تعود إلى أنّ الجاني نفسه قد تعرّض للتحرّش في طفولته مما يولد لديه رغبة لا واعية في تكراره مع أطفاله.

اقرأ أيضاً: حملات ضحايا التحرش والاغتصاب.. هل تحرك "المسكوت عنه"؟

أما الأسباب التي يتم تداولها في مجتمعاتنا، فتنقسم ما بين المجتمع التقليدي ذي الطبيعة المحافظة، والمجتمع الأقل انغلاقاً الذي تميل علاقاته إلى الانفتاح وعدم التعصّب، وبينما القسم الأول يؤكد أنّ لباس المرأة وتصرفاتها وانخراطها في العمل هي أسباب جوهرية تؤدي للتحرش بها، فإنّ القسم الآخر يرى أنّ الكبت وغياب الوعي الجنسي والفصل بين الجنسين ورفض التربية الجنسية، وعدم الانفتاح على الآخر، والموروثات التقليدية والفقر وعدم تفعيل القوانين أو غيابها، هي المسببات الأهم للتحرش الجنسيّ، وإلا لماذا قد يتجاوز الفرد الخمسين في مجتمعاتنا من دون أن يتخطى مرحلة المراهقة؟

اقرأ أيضاً: مآلات التحرش الأمريكي الإسرائيلي بإيران وحزب الله

وفي ما يتعلق بالمجتمعات الغربية فإنّ المحافظين منهم يعزون هذه الظاهرة إلى لباس المرأة وغياب الرادع الديني والابتعاد عن نمط الأسرة التقليدية، أما أكثريتهم فإنهم يرون أنّ ذلك يعود إلى التفكك الأسري، وإلى الطبقية في التعليم، واقتصار التربية الجنسية على المدرسة وغيابها في الأسرة، والانفتاح المجاني على الإنترنت والتعرف على الجنس بطرق خاطئة من قبل الأطفال خاصة، والألعاب الإلكترونية التي تستثمر في هذه الظاهرة، وانتشار الأفلام الإباحية، وتسليع المرأة في المسلسلات والأفلام والعروض المسرحية وعروض السيرك والإعلانات، وانعدام العلاقات والروابط الاجتماعيّة، وظاهرة المشردين والمدمنين، والقانون غير المحكم الذي يؤدي إلى صعوبة إثبات تهمة التحرش أو الاغتصاب على الجاني... الخ، وهذه المسببات أيضاً تحيلنا إلى تساؤل: هل المكتسبات التي حققتها الديمقراطيّة في مجال حقوق الإنسان بداًت تخبو حقيقةً في ظل هيمنة السوق وتوحش الرأسمالية التي قذفت الإنسان إلى أقصى درجات اغترابه؟

اقرأ أيضاً: بعد اتهامات الاغتصاب الأخيرة.. حوادث التحرش في مصر إلى أين؟

إنّ اختلاف أسباب ظاهرة التحرش ما بين مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى، يعود إلى الفروقات الثقافيّة والسياسية والاقتصادية بينها، ولكن هذه الفروقات بالضبط، ساهمت بفعالية في تمويه الصورة الواقعيّة للمشكلة، حيث إنّ الإحالة إلى الأسباب الظاهرة، جعلت ممّا هو عرضي يحتل مكان الجوهري، وجعلت من المجتمعات تنظر إلى بعضها بتشفّي، مردّه التمركز حول الذات والهوية وإدانة المفاهيم (كالحرية والمساواة والتربية الجنسية )، والتعامي عن الهوّة التي تفصل النص عن التطبيق، فيما يتناسى الجميع أنّ الأنظمة الاجتماعيّة أينما كانت، تحمل بذور النقص والخلل، طالما تُنتج العنف وبأيّ صورةٍ تبدّى، فالصورة التي تكرّس الاعتداء كجزءٍ من الطبيعة البشرية، تشرعن الغرائز التدميرية من خلال حقن الواقع بالانحطاط، فجميع الأسباب الظاهرية أنتجتها الهيمنة الذكورية التي صاغت التاريخ على مقاسها، وجعلت من المسكوت عنه واقعاً عالمياً وإن اختلفت الأوجه التي يظهر بها.

اقرأ أيضاً: التحرش في مصر يتعدى أجساد النساء إلى قتل المدافعين عنهن

ففي مقابلة أجرتها الباحثة الاجتماعية في حقوق المرأة والطفل علياء أحمد المقيمة في "ألمانيا" مع باحثة اجتماعية ألمانية، فضلت عدم ذكر اسمها، صرّحت بما يخص المسكوت عنه في قضايا التحرش والاغتصاب: "هناك فرق إذا تعرّضتُ للتحرّش الجنسيّ من صديق أو حبيب أو فرد من العائلة، وبين أحد لا أعرفه أو معرفتي به جديدة، فالتعرض للتحرّش الجنسيّ من قبل المقربين ليس من السهل البوح به، أو كشفه لعدة أسباب، يتعلق بعضها بالشخص نفسه أو بالعائلة، ومنها شعور الخذلان والخداع والخجل وعدم الرغبة بأذيّة هؤلاء لما يربطك بهم من عواطف، والأهم تجنيب العائلة الصدمة والمعاناة والمشاكل التي ستقع بها. ومنها ما يتعلق بالقوانين نفسها".

اقرأ أيضاً: لماذا يميل المجتمع لاختلاق الأعذار للمتحرش؟

 "أما فيما يتعلق بالقانون، ففي أغلب الأحيان لا يتم التبليغ عن مقرّب إلا إذا كان تصرفه عنيفاً ومؤذياً، ويترافق مع أدلّة واضحةٍ وصريحةٍ مثل الكدمات أو الجروح، فقد تعرضتُ للتحرش لأكثر من مرة من أشخاص خرجتُ معهم بموعد، ولم أستطع التبليغ عنهم لأنه لا يوجد لدي إثبات، ولا أثق أنّ الشرطة ستعمل بشكل جيد لتحصيل حقي. أما التحرش في العمل، فمن خلال تجربتي وتجارب الأخريات، فعلى الأغلب من يقوم بهذا الفعل هم الرجال الأكبر سناً وليس الشبان الصغار، فيعمل الجيل القديم باستغلال الجيل الجديد من هذه الناحية، مستغلين غياب الروادع القانونية الكافية، وصمت المتحرَّش بها خوفاً من فقدان عملها".

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن أول معاهدة دولية بشأن العنف والتحرش في العمل؟

ما صرّحت به الباحثة الاجتماعية الألمانية، يكشف أنّ قائمة المسكوت عنه في المجتمعات الغربية قائمة غنيّة ودسمة، على خلاف الاعتقاد السائد لدينا، كما أنّ هذه القائمة تتقاطع مع الكثير من الأسباب في مجتمعاتنا ذات الطبيعة المختلفة، مما يجعل الاختلاف عاملاً غير حاسم في انتشار هذه الظاهرة، فالمسكوت عنه في مجتمعاتنا ذات الطبيعة المحافظة، والذي يدور في فلك الفضيحة والعار والسقوط الاجتماعي، وخسارة العمل بالنسبة لمن يسكتنَ عن ابتزاز أرباب العمل لهنَّ، وإدانة الضحيّة وغياب القوانين الفاعلة لحماية المرأة أمام العرف والتقليد، كل هذا بدوره يكشف أنّ الجذور العميقة للتحرّش أينما وقع فهي تنبع من الهيمنة الذكورية التي يعدّ الإقصاء أهم ركائزها، فالعنف المادي والرمزي ضد المرأة سواءً في مجتمعاتنا وما يشابهها، أو في المجتمعات الغربية، يضعنا أمام انحطاط العلاقات الإنسانية العام، والتي تستثمرها أنماط الهيمنة السائدة لمصلحتها.

إنّ اختلاف أسباب ظاهرة التحرش ما بين مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى، يعود إلى الفروقات الثقافيّة والسياسية والاقتصادية بينها

فأن يتحول العالم إلى بيئة معادية يتناقض مع اعتدادنا المفرط بالعقل، وبالإمكانيات المدهشة التي يتميّز بها الإنسان، يدلل بالضرورة على قصور حادٍ في الوعي، فبدل أن يشكّل التاريخ الإنساني حافزاً لتناميه، يصبح الانحطاط سمته الأبرز، إذ ليس من المعقول أن لا نجد التحرّش في عالم الحيوان بينما تنتشر هذه الظاهرة انتشاراً فاقعاً في عالمنا الإنساني، كما أنه ليس من المعقول أن تصبح أسباب التحرّش والاغتصاب مبررات للمتحرّش، فتعامينا عن السبب الرئيسي ـــ الهيمنة الذكورية ــــ  يجعل من هذه الأسباب داعماً لهذه الظاهرة، ومن ثم مشجب نعلق عليه قصورنا الإنساني.

نحن في الحقيقة أمام مأزقٍ عميق؛ إذ من الصعوبة أن تتخلى الهيمنة الذكورية عمّا تعتقد أنه امتيازها ويمنحها الأفضليّة، وهي ما لم تدرك أن تهميشها المتعمّد لجانب الحياة الأنثوي، هو تهميش الذكورة نفسها، فلن ننجح سوى في اقتراف الأخطاء ذاتها دائماً؛ وطالما أنّ المنظومات التربوية والأخلاقية لم تفلح حتى الآن في تطويق هذه الظاهرة، علينا أنّ نعيد التفكّير جدياً بهذه المنظومات، فقد تحمل المسؤولية الرئيسيّة في تكريس هذه الهيمنة، والتي لم يجن منها الإنسان عبر تاريخه سوى الخوف والقلق؛ الحلّ الجذري لا يلوح بالمدى المنظور وإلى ذلك الوقت، على القانون أن يحمل هذه المسؤولية وأن لا يتناقض مع أهمِّ بديهياته، العدالة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية