كيف تؤثر "الإيديولوجيات" والقواعد الأخلاقية على انتشار القسوة؟

كيف تؤثر "الإيديولوجيات" والقواعد الأخلاقية على انتشار القسوة؟

كيف تؤثر "الإيديولوجيات" والقواعد الأخلاقية على انتشار القسوة؟


29/10/2023

توصف القسوة مع الاستمتاع بها بالسادية، والحديث هنا ليس عن السادية ذلك المرض النادر المتصل باضطراب الشخصية، والذي برغم ذلك يكثر الحديث عنه، ولكنّه صار مفهوماً سياسيّاً وسلوكيّاً أكثر من كونه اضطراباً نفسيّاً. وهي تسمية ليست حكماً محايداً حسب الاصطلاح اللغوي العام، ولكنّها تدل على إدانة سلوك الفرد، فقد زودت عمليات النشوء والارتقاء الناس بقوانين أخلاقية جماعية بخلاف القوانين الوضعية، لذلك فإنّها تعتبر جريمة شنيعة تثير التقزز وتدعو إلى العقاب. وقد تتحول السادية إلى خطر يستهدف المقربين، فالسادي شأنه شأن المدمن أو المتعصب لن يكون مهتماً بأيّ حال بالمصلحة العامة للجماعة أو بالنيات الطيبة أو بحسن السمعة أو بصالح المجتمع. وقد تلحق السادية بضحاياها أضراراً دائمة وبليغة، فصغار السن الذين يتعرضون للقسوة قد يتحولون إلى غير مؤهلين كوالدين.

إنّ السادية ليست مرضاً اخترعه رجل أرستقراطي (دي ساد) في عصر التنوير، لكنّها جزء من المخزون البشري، دفين في أعماق مفهومنا عن الشر، وإن تحور ثقافيّاً وربما جينيّاً، وإن كانت السادية ضارة ومؤلمة، فإنّ الفرد قد يتوقع أنّها كانت لا بدّ أن تمحى من المخزون الثقافي للبشر من زمن طويل، لماذا لم يحدث ذلك؟ هل لأنّ هناك تذوقاً للسادية تنشره وتذيعه وتدعمه قوى ثقافية مسيطرة مثل الدين؟ هل حقاً أنّ الأسوياء العظماء يمارسون القسوة بغرض التحكم الاجتماعي؛ أن يقدّموا للجماهير منافذ تستحوذ على انتباههم بدلاً من عواطف قد تشعل ثورة غير مرغوبة؟ وبدلاً عن ذلك هل "السوق" في الأحلام السادية هي نتيجة لتدفق تيار شرير في طبيعة البشر يكبته ويكبحه عموماً الجبن، لكنّه يفصح ويعلن عن نفسه في أوهام وأحياناً في أفعال؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يؤثر هذا التيار فينا جميعاً؟ أم أنّه يمكننا في هذا العصر الذي تداوى فيه السمات الشخصية للإنسان بالحبوب والأدوية أن ننظر إلى السادية على أنّها مجرد عرض مرضي آخر، يبتلى به قلة فقط من النفوس سيئة الحظ؟

السادية ليست مرضاً اخترعه رجل أرستقراطي (دي ساد) في عصر التنوير، لكنّها جزء من المخزون البشري، دفين في أعماق مفهومنا عن الشر، وإن تحور ثقافيّاً وربما جينيّاً

والسادية حالة نادرة في الإنسان وتشبه الجوع، فكما يدفع نقص الطعام الشخص الذي يشرف على الموت إلى أكل لحوم البشر، فمن الممكن أنّ بعض الظروف قد تشجع القسوة، ويمكن أن تحوّل شخصاً طيباً إلى قاتل سادي. فالألفة والتكرار والتقبل للقسوة يحوّلها إلى سلوك متقبل وربما ممتع.

 يقول فولجنس بوناني، أحد المشاركين في الإبادة الجماعية في رواندا: "كلما تزايدت رؤيتنا للناس وهم يموتون، وكلما قلّ تفكيرنا في حياتهم، وقلّ حديثنا عن موتهم؛ ازداد تعودنا على ذلك واستمتاعنا به".

يمكن للدين مثل المنظومات العقائدية الأخرى أن يتفرع ويتحول ويشجع القسوة الحقيقية والمتخيلة (كما يمدنا بالحافز لنقاوم في بعض الحالات)، وتستطيع ذلك أيضاً النزاعات حول الأراضي، تقول تايلور: إنّه شيء مغرٍ أن نلوم الدين، لكن لو محونا العقيدة الدينية إن استطعنا فلن يؤثر هذا بقليل أو كثير في قسوة الإنسان، فهناك أسباب كثيرة جدّاً يمكن أن تجعلنا قساة. وكما في معظم المناقشات المتكررة، فالحقيقة هي أنّ كليهما (الدين والثقافة) لهما تأثيرهما، إنّ الثقافة تتوسط المسالك التي يسافر فيها خيالنا، وطبيعة الإنسان المتطورة تمدنا بأسباب قوية ومتجذرة وعميقة، لماذا نستمتع بمثل هذه الأساطير والأحلام، والاثنان معاً يعطياننا استجابة ثالثة لمشكلة السادية، إنّ الفكر غير المرغوب والمريح والواضح هو أنّ الناس يكونون قساة عندما يكون للقسوة عائد مجزٍ، وقدرتنا على أن نستمتع ونبتهج بالمسرات مخيفة لدرجة أنّها تستطيع أن تهزم حتى الرعب الناشئ عن ارتكاب الأعمال الفظيعة، إنّ الساديين يظهرون ويوجدون؛ لأنّ القسوة يمكن أن تكون ممتعة لهم. وفي الأفلام على سبيل المثل فإنّ السادية تكون مبهجة، حيث نحب المجرم ونعلم أنّ سلوكه ليس مسؤوليتنا. وهناك مواقف تنتج عنها فظائع سادية، مثل الحرب، والعبودية، والمباريات الرياضية.

معظم الروايات الشهيرة تؤكد لنا، مثلما تفعل الأديان تماماً، (3) ادعاءات: إنّ لنا معنى وأهمية مثل الآخرين؛ حتى وإن كانوا يكرهوننا، وإنّ القسوة ستلقى العقاب (ربما ما عدا في حالة أن نكون نحن المجرمين) وإنّ الأشرار غرباء عنا، وأيضاً غرباء عن أيّ قوة تضمن وتؤكد أنّ العدالة سوف تتحقق وبالضرورة في نهاية الأمر.

تمثل قسوة الإرهاب إشارة إلى القوة والقصد، فهي تدل على (3) رسائل قد تكون حقيقية أو لا تكون؛ إنّنا أكثر قوة ممّا تظنون، ونشعر بأننا لا نملك البدائل، ولن تستطيعوا إقناعنا بأن نتغير. إنّ الإرهابيين يعملون وفق الافتراض أنّهم هم وأعداؤهم قادرون على السلوك العقلاني، وعموماً هم ليسوا مرضى نفسيين، وهم أيضاً لا يعانون خللاً عقليّاً، وإن كانوا فهم لا يعانونه لفترة طويلة، إذ أنّ الترتيب والإعداد للجرائم الفظيعة لا يجري بسلاسة مع الضلال والهلوسة وسوء التخيل.

وفي تحليلها للغة (القاعدة) تلاحظ تايلور أنّها ليست محايدة القيمة، لكنّها تعكس إدراكاً للصواب والخطأ والخير والشر والقوة والاستكانة، هي تمثل الوجه الآخر لخطاب مكافحة الإرهاب كما أعلنه جورج بوش وحلفاؤه؛ فرؤية (القاعدة) للغرب تماثل تماماً رؤية الغرب لـ (القاعدة). إنّنا نرى أنفسنا كما لو كنا هم، وسوف تتحطم الصورة فقط عندما يتنازل ويتوقف أحد الجانبين عن إقصاء الآخر، ويرفض نمطيات الشر الشيطاني التي تبررها القسوة الفظيعة بأننا مختلفون. 

تقول تايلور: قد يبدو للبعض أنّ معتقدات الإسلاميين الراديكاليين أو المتطرفين مضللة، ولكنّ أيّ انتقاد على هذا الأساس لا بدّ أن يوزع بالعدل والتساوي، فنحن في الغرب لسنا منزهين أو معصومين من اعتناق الأوهام والعمل وفق ضلالاتها. ومن المحتمل أن تكون بعض مطالبات الإسلاميين معقولة، مثل طلبهم الامتناع عن إهانة المسلمين والحطّ من قدرهم.

أظهرت تجربة عالم النفس فيليب زيمباردو في سجن ستانفورد أنّ شباباً أصحاء نفسيّاً تحولوا إلى حراس ساديين خلال أيام قليلة، وقد فسر زيمباردو هذا البحث الشهير بأنّه أظهر أنّ فعل الشر إغراء نتعرض جميعاً له في الظروف المناسبة

إنّ الخطوة التالية لاستخدام القسوة كنوع من الإرهاب هي أن تصبح معاناة الضحية نفسها جائزة ومكافأة تسعد المجرم، وبشكل ما أو لسبب ما يجد المجرم لذة وسروراً في عذابات ضحيته التي كانت من قبل مجرد فائدة له. لكنّ إظهار السادية يُعتبر استراتيجية لها مخاطرها، قد تجلب الغضب والسخط العام والإنكار والخلاف مع المنظمات الزميلة.

هناك (3) أنواع من المثابة والمكافأة التي ترتبط بها السادية: المكافأة وفقاً لـ "التطور والارتقاء" وفائدته في الملاءمة والسلامة الجينية، واللذة الذهنية التي ينشطها الدماغ مباشرة، والمكافأة بالنيابة والتوكيل، وهي مكافأة حقيقية حسب محفز ومثير آخر مثل الأفكار والسلوكيات.

لقد طور البشر القوانين والقيم الأخلاقية والتحكم بالنفس حتى يسيطروا على العدوان المتناهي الذي يؤدي إلى غلظة القلب، ولكن في مواجهة من يعتبرونهم بشراً فقط ومن يشبهونهم، ومن ثم يحتمل أن يكونوا أقرباء، وقد تجلب قسوة القلوب تجاه الغرباء فوائد لنجاة الجماعة أو مكافأة مباشرة وسريعة: أرض جديدة، أو موارد غذائية، أو رفقاء ومعاونون.

 أظهرت تجربة عالم النفس فيليب زيمباردو في سجن ستانفورد أنّ شباباً أصحاء نفسيّاً تحولوا إلى حراس ساديين خلال أيام قليلة، وقد فسر زيمباردو هذا البحث الشهير بأنّه أظهر أنّ فعل الشر إغراء نتعرض جميعاً له في الظروف المناسبة: "نحن يمكننا أن نتعلم أن نصبح طيبين أو أشراراً، بصرف النظر عن ميراثنا من الجينات، أو شخصيتنا، أو تراثنا العائلي".   

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية