كيف ضاع لبنان.. بل كيف مات؟

كيف ضاع لبنان.. بل كيف مات؟

كيف ضاع لبنان.. بل كيف مات؟


07/10/2023

ترجمة: محمد الدخاخني

عندما بلغ لبنان المائة عام في أيلول (سبتمبر) 2020، لم يحتفل بذلك سوى عدد قليل جدّاً من اللبنانيّين. أدرك الكثير منهم أنّ بلادهم، بكلّ المعاني المُهمّة، انتهت بشكل أو بآخر بوصفها «كومنولث» لطوائفها، وأنّ ما تبقّى ليس أكثر من مكان مُفكّك يبدو فيه أيّ إحساس مشترك بالمجتمع الوطنيّ وكأنّه قد مات.

وهذا ليس مفاجئاً، والأحداث اليوميّة تؤكّد ذلك فقط. لقد زار وفدٌ من «صندوق النّقد الدّوليّ» بيروت قبل أسبوعين، وكان الانطباع العامّ بعد مغادرته أنّ أعضاء النّخبة السّياسيّة والماليّة في لبنان ليس لديهم أيّ نيّة لتنفيذ إصلاحات الصّندوق من أجل معالجة الانهيار الماليّ الذي وقع عام 2019.

وسعياً لتحقيق مصالحها الشّخصيّة أو الطّائفيّة، تُفضّل هذه النّخبة عدم القيام بأيّ شيء، بدلاً من تبنّي إصلاحات قد تُنقذ على الأقلّ جزءاً من ودائع عدد كبير من اللبنانيّين. ويعيش ما يقدّر بنحو ثمانين في المائة من السّكان تحت خطّ الفقر.

بمعنى آخر، فإن الحدّ الأدنى من مسؤوليّة القيادة السّياسيّة والماليّة، ألا وهو العمل لصالح سكّان البلاد، غائب تماماً. بدلاً من ذلك، يساعد القادة طوائفهم فقط، ودائماً فقط بالطّرق التي تُعزّز سلطتهم عليهم، في حين لا يفعلون أيّ شيء من شأنه إحياء لبنان كأمّة.

ليست الدّواء الشّافي لمشكلات لبنان

ومع ذلك، سيكون من السّذاجة افتراض أنّ الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة هي الدّواء الشّافي لمشكلات لبنان. ما انهار في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019 كان أكبر بكثير من اقتصاد البلاد. كان نظام حكم بأكمله تمخّض عن الحرب الأهليّة، التي دارت رحاها في الفترة من 1975 إلى 1990. كان هذا النّظام بمثابة عمليّة نقل فعليّة لنظام زمن الحرب إلى زمن السّلم، حيث استولى قادة الميليشيّات السّابقون على الدّولة.

سيكون من السّذاجة افتراض أنّ الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة هي الدّواء الشّافي لمشكلات لبنان

استولى زعماء الطّوائف في زمن الحرب على الوزارات وبدأوا في الاستفادة من إعادة الإعمار بعد الحرب. وكان مُتعهّد نظام ما بعد الحرب هذا هو رفيق الحريريّ، الذي كان يتمتّع بالمصداقيّة والطّاقة اللازمتين لجذب رأس المال الأجنبيّ. وكان تعيينه نتيجة لتفاهمٍ بين السّعودية وسوريا قضى بأن يدير الحريريّ الاقتصاد وإعادة الإعمار في حين تتولّى سوريا إدارة الشّؤون السّياسيّة.

وقد أدّت الهيمنة السّوريّة إلى تطوّرين رئيسين: التّقويض المنهجيّ للمبادئ الدّستوريّة، حيث انتُهِكَ القانون الأساسيّ للبنان مراراً وتكراراً، أو تمّ التّلاعب به على النّحو الذي أدّى إلى خلق سوابق تتعارض تماماً مع نوايا واضعي الدّستور.

أغلب اللبنانيين ما زالوا، على نحو لا يخلو من المفارقة، موالين لقياداتهم الطائفية. وفي ضوء هذا المأزق، فمن المرجّح أن يستمر تفكك البلاد

ثانياً، قرّرت سوريا عدم نزع سلاح «حزب الله» وغيره من الجماعات الموالية لسوريا كما حدث مع أغلب الميليشيّات، وذلك لأنّ الحزب وهذه الجماعات منخرطون في «المقاومة» ضدّ إسرائيل. وقد سمح ذلك لـ«حزب الله» ببناء ترسانة أسلحة، بحيث برز في عام 2005، بعد انسحاب القوّات السّوريّة، باعتباره القوّة المهيمنة في لبنان، إذ فرض إرادته على الجميع وأسهم في زوال العقد الاجتماعيّ الطّائفيّ.

وحتّى لا نلوم اللبنانيّين فقط على ما حدث، فإنّ نظام ما بعد الحرب هذا كان مُباركاً من قِبل المجتمع الدّوليّ والعالم العربيّ، وكلاهما أطلق العنان لسوريا لفرض تفضيلاتها على البلاد. لقد كان تَرْك لبنان لسلطة ميليشياويّين سابقين ونظامٍ سوريٍّ دمّر مؤسّساته الوطنيّة جريمةً جماعيّة.

النّظام اللبنانيّ وصل إلى نهايته

الواقع اليوم هو أنّ النّظام اللبنانيّ قد وصل إلى نهايته. فالهدر الصّادم الذي اتّسمت به أعوام ما بعد الحرب، حيث تمّ بناء النّظام الماليّ حول تمويل النّخبة السّياسيّة والماليّة، مات. فقد المجتمع كلّ ثقته بالقطاع المصرفيّ، الذي يواصل سرقة اللبنانيّين بشكل يوميّ. وتبيّن أنّ حاكم البنك المركزيّ السّابق، رياض سلامة، الذي تمّت الإشادة به لفترة طويلة باعتباره الأب الرّوحيّ للنّجاح الماليّ في لبنان، كان محتالاً لم يؤدّ إلّا إلى تأخير وتفاقم خراب البلاد.

يستفيد «حزب الله» من الفراغ الموجود على مستوى الدولة لتوسيع هامش مناورته وتعزيز المصالح الإقليمية الإيرانية، لا سيّما على على الجبهة الفلسطينيّة

رغم كلّ هذا، يبدو أنّه ليس لدى الطّبقة الحاكمة في مرحلة ما بعد الحرب أيّ اقتراح لإخراج لبنان من ورطته. والآن بعد أن أصبح أعضاء هذه الطّبقة غير قادرين على التّوحّد حول النّهب الجماعيّ للدّولة، أصبح السّاسة أكثر انقساماً من أيّ وقت مضى، حيث لم يتفقوا إلّا على أنّ إصلاحات «صندوق النّقد الدّولي» قد تؤدّي إلى إضعاف موقفهم من خلال تغيير طريقتهم في أداء الأمور وتوليد الاضطّرابات الشّعبيّة.

غياب الوحدة المزمن

وفي هذا السّياق، يجب أن نفهم عدم قدرة لبنان على الالتفاف حول شخصيّة موحّدة يمكنهم انتخابها للرّئاسة. دستوريّاً، رئيس الجمهوريّة هو «رمز وحدة الوطن»، إلّا أنّ الرّئاسة اليوم ليست أكثر من تجسيد لغياب الوحدة المزمن في لبنان. ولذلك، فإنّ عجز القوى السّياسيّة في البلاد عن الاتّفاق على خليفة لميشال عون، قد دقّ ناقوس موت «الجمهوريّة الثّانية»، التي أعقبت «اتّفاق الطّائف» عام 1989.

يجد لبنان نفسه اليوم في مأزق مدمّر - فهو عالق بين نظام غير ناجح ومرفوض من قِبَل أغلبيّة السّكّان، ولكنّه يتمتّع، أيضاً، بقدر ملحوظ من المرونة والصّمود لأن أغلب اللبنانيّين ما زالوا، على نحو لا يخلو من المفارقة، موالين لقياداتهم الطّائفيّة. وفي ضوء هذا المأزق، فمن المرجّح أن يستمرّ تفكّك البلاد، مع عدم وجود احتمال لإعادة إحياء النّظام على أسّس أكثر صلابة وتوافقيّة.

لبنان نفسه اليوم في مأزق مدمّر

وبينما يواصل النّظام انحداره، بدأت ديناميكيّات أخرى تلعب دورها لجعل أيّ عملية إحياء أمراً شبه مستحيل. يستفيد «حزب الله» من الفراغ الموجود على مستوى الدّولة لتوسيع هامش مناورته وتعزيز المصالح الإقليميّة الإيرانيّة، لا سيّما على على الجبهة الفلسطينيّة. ويدخل آلاف السّوريّين إلى لبنان كلّ يوم، هرباً من الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة في سوريا، ممّا يؤدّي إلى مزيد من التّغيير في التّركيبة السّكانيّة اللبنانيّة.

لن تؤدّي مثل هذه التّطوّرات إلّآ إلى زيادة القلق والتّوترات الطّائفيّة، على نحو يدفع جميع الطّوائف إلى التّعنّت في مواقفها. حتّى أعوام الحرب لم تكن بالسّوء الذي عليه الأمور اليوم. لقد ذهب لبنان الذي عرفه جيلي. وما تبقّى هو دولة مشلولة لا تملك حتّى الوسائل للاعتراف بزوالها.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

مايكل يونغ، ذي ناشونال نيوز، 28 أيلول (سبتمبر) 2023




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية