كيف فضحت حرب غزة الدول الاستعمارية السابقة؟

كيف فضحت حرب غزة الدول الاستعمارية السابقة؟

كيف فضحت حرب غزة الدول الاستعمارية السابقة؟


18/01/2024

ترجمة: محمد الدخاخني

لطالما ناقشتُ أصدقائي وزملائي في جنوب شرق آسيا ومنطقة الخليج بشأن مدى روعة تمتُّع المملكة المتحدة بمثل هذه العلاقات الطيبة مع جميع مستعمراتها السابقة تقريباً.

في معظم الأحيان، كان حُكم هذه المستعمرات من لندن ينطوي على استخراج كميات هائلة من السلع والثروات، كما أوضح الكاتب والسياسي شاشي ثارور في كتابه الصادر عام 2017 بعنوان "الإمبراطورية الشائنة: ما فعله البريطانيون بالهند"، وهذا فقط نصف ما حدث. ومع ذلك، لا يبدو أنّ هذا بشكل عام يعيق العلاقات الودية اليوم مع هذه الدول الموجودة في أكثر من قارة.

المجال الذي يمنحه المستعمرون السابقون، لإسرائيل، للتصرف كما يحلو لها يُحيي الماضي، ويثير غضب العديد من الدول التي ترى أوجه تشابه بين الطريقة التي يُعامل بها الفلسطينيون وتاريخهم مع الاستعمار

 

وعلى نحو مماثل، يبدو أنّ العلاقات بين الولايات المتحدة والفلبين لم تتأثر إلا قليلاً بحقيقة أنّ أمريكا دمّرت "جمهورية الفلبين الأولى" عندما أعلنت استقلالها عن أسبانيا في عام 1898، لتتولى واشنطن السلطة باعتبارها القوة الاستعمارية. وعندما كانت عائلتي تعيش في بابوا غينيا الجديدة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لم أسمع أيّ شيء عن الاستعمار الألماني لجزء من الجزيرة في أواخر القرن الـ (19) وأوائل القرن الـ (20).    

حتى إنّ هناك نكتة حول نظرة الشعب الأيرلندي الحميدة إلى حد كبير لجيرانهم البريطانيين، على الرغم من مئات الأعوام من الاحتلال الوحشي: "ما الذي تعنيه بضعة قرون من الاضطهاد بين صديقين؟".

تال بيكر، المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، يجلس قبل جلسة الاستماع في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل التي رفعتها جنوب أفريقيا، في محكمة العدل الدولية في لاهاي، الأسبوع الماضي

لكنّ تجربة الاستعمار بعيدة كل البعد عن النسيان؛ ولهذا السبب لم يكن من المفاجئ رؤية المحامية الأيرلندية بلين ني غرالاي تُدلي بملاحظاتها الختامية اللاذعة في قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن ما إذا كانت إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، أو تتصرف بنيّة ذلك، في غزة. وتُعدُّ أيرلندا واحدة من أكثر الدول المؤيدة للفلسطينيين في أوروبا. فقد صوّت برلمانها على إدانة "ضم إسرائيل الفعلي" للأراضي المحتلة في عام 2021، وذهب قادتها إلى أبعد من معظم قادة الدول الأخرى في الدعوة إلى وقف إطلاق النار.

ولهذا السبب أيضاً لم يكن من المفاجئ أن أعقب إعلان ألمانيا أنّها ستدعم إسرائيل في قضية محكمة العدل الدولية بيان غاضب من الرئيس الناميبي حاج جينجوب. من عام 1884 إلى عام 1918 كانت بلاده تُسمّى "جنوب غرب أفريقيا الألماني"، وبعد التمرد ضد الحكم الاستعماري ارتكب الألمان فظائع ضد شعوب هيريرو وناما المحلية؛ ممّا أدى إلى وفيات جماعية تقدّر بنحو 50% على الأقل من الشعبين الأصليين.

وجاء في بيان جينجوب: "ارتكبت ألمانيا أول إبادة جماعية في القرن الـ (20) في الفترة من 1904 إلى 1908، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف لا إنسانية ووحشية للغاية. ولم تُكفِّر الحكومة الألمانية بشكل كامل بعد عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية". وأضاف: "لا يمكن لألمانيا أن تُعبِّر أخلاقياً عن التزامها باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، والتكفير عن الإبادة الجماعية في ناميبيا، في حين تدعم ما يعادل المحرقة والإبادة الجماعية في غزة".

النمط المُتكرِّر واضح: يحظى الجانب الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية بدعم المستعمِرين السابقين ـالولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وكندا- في حين أنّ أولئك الذين تعرّضوا لتجربة الاستعمار، وعُومِلوا كمواطنين من الدرجة الثانية في أراضيهم، وغالباً ما اعتُبِرَت حيواتهم غير ضرورية - بما في ذلك ماليزيا، وباكستان، والبرازيل، ودول منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية - يدعمون جنوب أفريقيا وفلسطين.

ويمكن لهؤلاء أن يروا مَن الطرف المتلقي لما وصفه البابا فرانسيس بأعمال "الإرهاب"، والتصريحات العلنية لما فسّره كثيرون على أنّها نية ارتكاب إبادة جماعية من قِبل مجموعة من القادة الإسرائيليين.

كل هذا يؤدي إلى انقسامات في العالم تتحوّل بسرعة إلى هُوَّة.

وصل جون آرثر هربرت، حاكم البنغال السابق، وزوجته ماري إلى كلكتا، كولكاتا الآن، في عام 1939

إنّ المستعمِرين السابقين يتصرفون بتهور في دعمهم لإسرائيل ـفي محكمة العدل الدولية في هذه القضيةـ والتي هي بلا شك قوة استعمارية في الضفة الغربية وفي احتلالها الرسمي لغزة، لأنّ المجال الذي يمنحونه لإسرائيل للتصرف كما يحلو لها يُحيي الماضي، ويثير غضب العديد من الدول التي ترى أوجه تشابه بين الطريقة التي يُعامل بها الفلسطينيون وتاريخهم مع الاستعمار.

لكنّ هذا عالم متغيِّر. إنّ السلطة تتحول بلا هوادة بعيداً عن المستعمِرين ونحو المستعمَرين سابقاً. هؤلاء الأخيرون ببساطة ليسوا مستعدِّين للوقوف صامتين أمام ما يعتبرونه المعايير المزدوجة الفاحشة للمستعمِرين السابقين بعد الآن.

قالت السياسية الفلسطينية المخضرمة حنان عشراوي في مقابلة أجريت معها مؤخراً: "إنّ الجنوب العالمي يتحرَّك. انكشف نظام الشمال العالمي العنصري، والمنافق، والاستعماري الجديد، وبالطبع فُضِحَت إسرائيل المشغولة بارتكاب إبادة جماعية على مرأى من الجميع. تغيّرت المعادلات الآن، وانكشفت جميع خطوط الصَّدع".

أتفق مع عشراوي: إنّنا نشهد تحولاً زلزالياً. ويبدو أنّ قادة الدول الاستعمارية السابقة لا يدركون السمعة التي يهدرونها، أو كيف تؤدي أفعالهم إلى تصلب المواقف ضدهم، في جميع أنحاء العالم

 

وأضافت: "سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى يصل هذا إلى نهايته"، ربما بطريقة تنطوي على بصيرة لم تدركها هي نفسها. أعلنت مجموعة من المحامين في جنوب أفريقيا هذا الأسبوع أنّهم يستعدون لرفع دعوى قضائية ضد الحكومتين الأمريكية والبريطانية، متهمين إيّاهما بالتواطؤ في "جرائم حرب" ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

ربما لا تصل القضية الأخيرة إلى نتائج كبيرة، ولا نعرف ما الاستنتاجات التي قد تتوصل إليها محكمة العدل الدولية. رغم أنّ لائحة الاتهام الصادرة عن جنوب أفريقيا قد تكون مقنعة بالنسبة إلى كثيرين، فمن الممكن للأسف أن ينتهي الأمر بالحكم الصادر عن المحكمة إلى خضوعه للنفوذ السياسي أكثر من مصلحة العدالة. لكنّني أتفق مع عشراوي: إنّنا نشهد تحولاً زلزالياً. ويبدو أنّ قادة الدول الاستعمارية السابقة لا يدركون السمعة التي يهدرونها، أو كيف تؤدي أفعالهم إلى تصلب المواقف ضدهم، في جميع أنحاء العالم.

ومع بدء النظام الذي أسّسوه بعد الحرب العالمية الثانية في التصدُّع والتَّشظي، خاصة من خلال الاستثناءات من قواعده -التي يفترض أنّها لا تُنتهَك- التي يمنحونها لأصدقائهم ولأنفسهم، فقد لا يمرّ وقت طويل قبل أن يكون لديهم سبب للندم عليه. وإذا كانت المستعمرات السابقة قد تمكّنت من الاتفاق على عدم السماح لغطرسة القوى الإمبريالية وعدم مبالاتها بالمعاناة الإنسانية في الماضي بالتدخُّل في العلاقات الودية التي صُنعت في العقود الأخيرة، فلن يمتد مثل هذا التساهل إلى تصرفات هذه القوى الإمبريالية اليوم.

المصدر:

شولتو بيرنز، ذي ناشيونال، 17 كانون الثاني (يناير) 2024

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2024/01/17/south-africas-case-against-israel-has-exposed-postcolonial-fissures-around-the-world/

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية