لماذا كان الإباضيون معارضين شرسين للقذافي؟

لماذا كان الإباضيون معارضين شرسين للقذافي؟


كاتب ومترجم جزائري
05/10/2020

ترجمة: مدني قصري

فيرجيني بريفوست مؤرخة في الفن، ودكتورة في علوم الإسلام. كرّست أطروحتها في الدكتوراه (ULB ، بلجيكا ، 2002) للإباضية في جنوب تونس، بين القرنين الثامن والثالث عشر. واليوم، تهتم بجميع جوانب الحضارة الإباضية القديمة والمعاصرة، وخاصة العمارة التي أنشأها الإباضيون، أو أثّروا عليها في المغرب الكبير، وخاصة في جربة. هذه الإنشاءات النظيفة، المنبثقة عن حركةٍ سِلمية لها جذورها في العراق في القرن الثامن، مهدّدة اليوم بالدمار، على الرغم من قيمة تراثها، وعمل التوعية الذي تقوم به فيرجيني بريفوست مع مصوّرها أكسل ديريكس منذ عدة سنوات. عملهما الأخير بعنوان "جربة، مساجد الإباضية" يأخذنا في رحلة هائلة عبر المكان والزمان.

ما هي الحركة الإباضية؟ متى نشأت وكيف تطورت؟

على الرغم من أنهم غير معروفين تماماً تقريباً اليوم، إلا أن الإباضيين يمثلون الفرع الثالث للإسلام، إلى جانب السنة والشيعة. هذه الحركة قديمة، انبثقت تاريخياً من الخوارج، وهم تيار اختفى الآن تماماً، ولكنه كان مهمّاً جداً في الماضي بسبب معارضته لسلطة الخلافة الإسلامية.

مسجد بن حمودة (جربة)

تعود آثار الإباضيين الأوائل إلى سنة720 م في ميناء البصرة. في ذلك الوقت، كان زعماؤهم يطوّرون أسس العقيدة السلمية الهادئة التي تصرّ على المساواة بين المؤمنين. في وقت لاحق تم إرسال مبشرين إلى جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، وقد حققوا بعض النجاح في كل مكان. وقد استمرت هذه العقيدة وعمّرت في سلطنة عُمان. لا تزال الإباضية النزعة الدينية عند الأسرة الحاكمة، وحوالي 50 ٪ من السكان تابعون لهذا المذهب الديني.

اقرأ أيضاً: ماذا يبقى من الصوفية إذا تورطت في السياسة؟

 كما انتشرت العقيدة الإباضية بشكل هائل في المغرب الكبير، لأنه إذا اعتنق الأمازيغ الإسلام بعد الفتح العربي، فقد اعتبرتهم سلطات الخليفة مواطنين من الدرجة الثانية، الأمر الذي غذى الكثير من المرارة في نفوس السكان. مع رسالة المساواة، حل الإباضيون في الوقت المناسب، وحققوا نجاحاً هائلاً: لقد انضم السكان الأمازيغ بشكل جماعي لهذه الحركة، إلى حد إنشاء إمامة مستقلة في تاهرت. وقد ادعت أجزاء كثيرة من المغرب الكبير الانتماء إليها.

تواجه تونس اليوم صعوبات مالية كبيرة، وتشكل موجة فيروس كورونا كارثة حقيقية على جربة، حيث تمثل السياحة نشاطاً أساسياً للسكان. كل هذه المصاعب لا تساعد مصير المساجد

في عام 909م وضع الفاطميون نهاية لهذه الإمامة. وقد أدى ذلك إلى تراجع الاتجاه الإباضي نحو الجنوب جغرافيا، وهو التراجع الذي استمر قروناً، مع اكتساب الإسلام السني المزيد والمزيد من الأرض. إنّ الإباضيين موجودون اليوم فقط في كتلة جبل نفوسة الواقعة في شمال غرب ليبيا، وفي مدن المزاب الجزائرية وفي تونس في جربة.

ففي هذا المكان أجرِي معظمَ بحثي، لأنّ الوضع في ليبيا حساس للغاية. وكون أنّ الإباضيين كانوا معارضين شرسين للقذافي فهذا وضع لا يساعدني كثيراً. أمّا بالنسبة للجزائر، فلا يمكنني الحصول على تأشيرة للعمل هناك في ظل ظروف جيدة في الوقت الحالي. أما في جربة، فبعد بضع سنوات من البحث الفوري، حصلنا على ثقة السكان المهتمين بالتراث، ويمكننا القيام بعمل فعال.

هل هناك نصوص تخبرنا عن تاريخ الإباضيين؟

كتب الإباضيون الكثير، لكن نصوصهم ظلت مخبأة في المكتبات لفترة طويلة، خاصة لأنهم اعتبروا مسلمين سيّئين من قبل السنة. لحسن الحظ، نجوا بفضل لجوء أولياء أمورهم إلى الأماكن المعزولة أو الجبلية، أو الجزر أو الصحراء، حيث تعيش مجتمعاتهم. هذه النصوص، التاريخية والدينية، تعطينا وجهة نظر فريدة حول تاريخ المغرب الكبير في العصور الوسطى، لأنها تقدم رؤية مختلفة عن رؤية المصادر الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، فهي مليئة بالتفاصيل عن الحياة اليومية، ومكانة المرأة في المجتمع، وممارسة الدين وزيارات مقابر الأجداد الموقرين، وأحياناً بعض التفاصيل عن المساجد أيضاً.

ما هي خصوصيات العمارة الإباضية؟

تتماشى هندسة المساجد الإباضية مع المبادئ الأخلاقية لهذه الحركة. المبدأ الأوّل هو العدل بين جميع المؤمنين، وهو ما يوضحه المثل الإباضي بشكل كامل من خلال الإشارة إلى أن السلطة يمكن أن يمارسها أي مؤمن، حتى لو كان عبداً أسود مع أنف مكسور.

انتشرت العقيدة الإباضية بشكل هائل في المغرب الكبير

وفقاً للعقيدة الإباضية، فإن القائد الروحي لا ينحدر من سلالة معينة، بل يتم اختياره، لأنه يعتبر الأكثر تقوى والأكثر حكمة، ولأنه عرف كيف يقنع أعضاء المجموعة الآخرين: على عكس السنة والشيعة، ترى الإباضية أنّ قيادة المجتمع يجب أن تذهب إلى من يظهر أنه يستحقها. الأباضيون تجار، بعضهم جمع ثروات كبيرة. لقد نظموا تجارة واسعة النطاق عبر الصحراء، وأنشأوا شبكات تجارية في وسط أفريقيا والمغرب العربي. ومع ذلك، لا ينبغي أن تكون هذه الثروة متفاخرة، بل على العكس، البساطة هي القاعدة، والتضامنُ بين العائلات مُهِمّ للغاية. على سبيل المثال، عندما يأتي موسم الزفاف في منطقة المزاب، فحتى يتمكن الجميع من التمتع بنفس الراحة، وحتى لا يشعر المتزوّجون حديثاً من الأسر الفقيرة بأي ضيق، فإنه يتم تنظيم احتفالات جماعية، تجمع بين العائلات ذات الدخل المنخفض والأكثر رفاهاً. بطريقة ما، تعود العقيدة الإباضية إلى جوهر الإسلام الذي تتحدث عنه آيات عديدة من القرآن الكريم، حيث يكون مفهوم الكرم حاسماً.

يقوم السلفيون بتعديل المساجد الإباضية التي يسيطرون عليها، أو يضيفون إليها مآذن ضخمة على سبيل المثال، في حين أن هذه المساجد بشكل عام لا تضم مثل هذه المآذن

يتم التعبير عن هذه الفلسفة أيضاً في هندسة المساجد، المبنيّة بمواد محلية ورخيصة، دون أي شيء ذي قيمة. فدار العبادة عبارة عن بناء متواضع، خالٍ من أي زخرفة، مما يساعد على التواصل المكثف بين المؤمن والله، حيث لا شيء يصرفه عن الصلاة. على عكس محراب الإباضيين المجرد، يقدّم الشيعة والسنة لأتباعهم محارِب فخمة يفترضون أنها تساعد زخارفُها الغنية على التأمل وعلى تجسيد الحماسة الدينية.

تعتمد المواد المستخدمة، بالطبع، على المكان الذي يعيش فيه الإباضيون. هناك عناصر مختلفة حسب المنطقة، ولكن المبادئ الأخلاقية تبقى ثابتة كما هي، فكل شيء يجب أن يكون وظيفياً. تشترك مساجد سلطنة عُمان في نفس الخصائص، باستثناء حقيقة واحدة، وهي، من حسن حظ هذه المناطق التراثية العمانية، أن المباني يتم الحفاظ عليها وترميمها بشتى الوسائل، وإن كانت، في رأيي، تفقد سِحرها وتبدو منفصلة عن تاريخها القديم.

اقرأ أيضاً: آيا صوفيا.. هل ينجح أردوغان في طمس الهوية الحقيقية؟

في المغرب العربي، حيث توجد وسائل أقل، ظلت المساجد الإباضية محافظة على طابعها الصادق، حيث آثارُ الزمن حاضرةً للغاية. بالنسبة للمساجد في جربة نادراً ما نحصل على تاريخ محدد لها. يزيد عمر بعض المساجد عن 1000 عام، ويعود تاريخها إلى منتصف القرن العاشر. كانت هندستها المعمارية ثابتة قبل الاضطرابات التي حدثت في العقود الأخيرة، وكانت دائماً تُبنَى بنفس الطريقة.

ظلت المساجد الإباضية محافظة على طابعها الصادق، حيث آثارُ الزمن حاضرةً للغاية

هذه المباني الصغيرة المتواضعة، مع هندستها المعمارية الوظيفية، من دون أي زخرفة، حيث لا يوجد فيها شيء غير ضروري، وحيث لا يوجد مفهوم للجمالية، كانت أيضاً مناسبة تماماً للاستخدام الذي خُصِّص لها أصلا. لقد تم بناء المساجد من قبل سكان القرى الصغيرة، ومن أجلهم، وأحياناً كانت مخصّصة لعشرات الأشخاص أو أكثر. حيث يعيش الإباضيون. هناك مساجد في كل مكان. يقول مثلٌ "في جربة عدد المساجد بعدد أيام السنة ..."

كيف ينظر الناس إلى الإباضية اليوم؟ وهل مساجدهم مهمَلة أم هناك جهود للحفاظ عليها؟

لطالما تعرّض الإباضيون للوصم، ويُنظر إليهم أحياناً كزنادقة. لذا، فقد عاشوا في جربة بطريقة سرية للغاية، مما يعني أنّ السكان التونسيين لا يعرفونهم، أو لا يعرفونهم إلا قليلا جداً. لقد أحدثت ثورة 2011  تغييراً كبيراً، لأنّ السلطات الدينية الإباضية تمكنت من التعبير عن نفسها علناً، ومن تنظيم ندوات دراسية نوعية، ومن تأسيس جمعيات قوية، وهو الأمر الذي كان مستحيلا في عهد بورقيبة، أو بن علي. بشكل عام، أصبحت الإباضية في الخمسة عشر عاماً الأخيرة موضوعاً أثار الكثير من البحث، في كل من أوروبا والمغرب العربي.

اقرأ أيضاً: الإباضية طريقة ثالثة للإسلام تتبنى التسامح وتنفتح على الثقافات

في عام 2018، نشرنا مع المُصوّر أكسل ديريكس كتاباً للصور عن المساجد الإباضية في جربة، وقدّم أكسل معارض جميلة في عين المكان وفي تونس العاصمة. لقد أدرك الكثير من الناس القيمة المعمارية لهذه المساجد. بشكل عام ، وكان لهذا تأثير إيجابي على الاعتراف بالتراث الإباضي.

لكن خلال السنوات العشر الماضية، نشأت حركة "السلفية" في جربة، كما في أماكن أخرى. هؤلاء الأشخاص لديهم الكثير من الموارد والأموال، التي تأتي بشكل أساسي من المملكة العربية السعودية. وهذا يسمح لهم بترسيخ عقيدتهم في عقول الشباب، المالكي والإباضي على السواء. اليوم يفقد الإباضيون أرضيّتهم على الجزيرة. كما تعبّر السلفية عن نفسها من خلال الهجمات على التراث المعماري. كما تمت مصادرة بعض مساجد الإباضية، وهذا هو حال أحد المساجد الذي تم تحويله إلى متحف من قبل المعهد الوطني للتراث. كما يقوم السلفيون بتعديل المساجد التي يسيطرون عليها، أو يضيفون إليها عناصر زائدة، كإضافة مآذن ضخمة على سبيل المثال، في حين أن هذه المساجد بشكل عام لا تضم مثل هذه المآذن، إلا لأسباب محددة للغاية مثل مراقبة الساحل. بسبب هذا الوجود السلفي، أصبح عملي الميداني أكثر صعوبة قليلاً.

اقرأ أيضاً: هل الصوفية في أفريقيا مهيأة لمواجهة الإسلام السياسي والتطرف الديني؟

على العكس من ذلك، فإنّ الأباضيين يرحّبون جداً بي وهم لطفاء خيّرون. بحثي مدعوم أيضاً من قبل السلطات الدينية في الجزيرة، التي تتكفل بي جزئياً بعين المكان، وكوني امرأة أجنبية لا أواجه أي مشكلة. أنا لا أعمل في برنامج جامعي، ولذلك أتمتع بحرية القيام بما يهمني، وفقاً للفرص المتاحة.

عملك يساعد على رفع الوعي ومع ذلك تختفي مساجد الإباضية. كيف يمكن تثمينها مرّة أخرى؟

في الواقع، تختفي مساجد الإباضية في جربة تدريجياً، وهناك عدة أسباب لهذه الظاهرة: أوّلاً، ليس هناك الكثير من المياه العذبة، وقد تحرك الناس كثيراً في الجزيرة لإنشاء آبار جديدة، فهجروا بذلك المساجد التي ليس بها ماء. لذلك، يقع عدد كبير من مساجد الإباضية الآن في أماكن مهجورة، وتتدهور تدريجياً. ثم تتدهور هذه المساجد بسرعة كبيرة، وتتطلب صيانة مستمرة: يجب أن تكون مطلية بالجير بانتظام حتى لا يتلف الحجر. تعود ملكية هذه المساجد عموماً إلى العائلات، والحال أنّ الأشخاص الأقل حظاً ماليّاً لديهم ما ينفقون فيه مالهم بدلاً من إنفاقه في ترميم المساجد. البعض الآخر من المساجد أضحى عرضة للتدمير المتعمَّد: أصابع الاتهام موجّهة للسلفيين، لكن هناك أيضاً لصوص يعتقدون أنّ كنوزاً مخبّأة في هذه المساجد، وهذا عار. إنهم يحفرون عبثاً ويتركون ثقوباً ضخمة عند سفح الأعمدة، وعند قاعدة المحراب ، مما يزعزع الآثار.

 تختفي مساجد الإباضية في جربة تدريجياً

تضطلع جمعية  Assidje لحماية جزيرة جربة، بعمل جيد للغاية، ولكن ليس لديها الكثير من الموارد. أقول لنفسي أنه لو تمكنا من العثور على وظائف لهذه المساجد، كما يحدث مع الكثير من الكنائس في بلدنا، لأمكننا الحفاظ عليها. يمكن تحويلها إلى مدارس، أو مكتبات، أو أماكن اجتماع، مما يجعلها مفيدة وبالتالي يمكن الحفاظ عليها. هناك حملة تدعو إلى إدراج جربة كموقع للتراث العالمي لليونسكو، مما قد يساعد في إحداث تغيير فيها، لكن نجاحها لا يزال غير مؤكد. بالإضافة إلى ذلك، تواجه تونس اليوم صعوبات مالية كبيرة، وتشكل موجة فيروس كورونا كارثة حقيقية على جربة، حيث تمثل السياحة نشاطاً أساسياً للسكان. كل هذه المصاعب لا تساعد مصير المساجد.

في النهاية أنت تعملين في فلسفة هؤلاء المؤمنين ومساجدهم.

نعم، بطريقة ما، "لقد تأبْيَضْتُ" (أعتنقتُ الإباضية). أعمل بمفردي مع مصوّري، من دون فريق بحث، وأسعى لتوعية وتثقيف السكان المحليين والباحثين الأجانب على السواء. لقد ساهم  كتاب 2018  في التأثير على الأشياء، لأنه خلق وعياً بالتراث الغني لهذه المساجد، وكذلك مكانة الإباضيين في المجتمع التونسي المعاصر. أقوم حالياً بإعداد كتاب بعنوان "المقاومة والتفاني، أماكن العبادة في جربة"، استناداً إلى نصوص من القرن السابع عشر، ترسم تاريخ المساجد القديمة في الجزيرة، وهي طريقة جديدة لوضع هذه المباني في دائرة الضوء.

هامش:

(1) الرستميون، أو بنو رستم سلالة حاكمة تنتمي إلى المذهب الإباضي، حكمت في بلاد المغرب الأوسط، بين 776 و909، ومقرها كان مدينة تاهرت، أو تيهرت وهي حالياً مدينة تيارت في الجزائر. خلال القرن الثامن والتاسع حكمت ثلاث سلالات في المغرب الكبير: الأغالبة السنيون بالقيروان، والأدارسة الشيعيون بفاس، والرستميون الإباضيون بتيهرت. اعترف الإباضيون المغاربة بإمامة عبد الرحمن بن رستم، الأب المؤسس للسلالة والذي أسس دولة تيهرت الثيوقراطية المعروفة بتحفظ قادتها، وازدهار تجارتها، وتم إسقاطها عام 909  بعد هدم عاصمتهم تيهرت إثر قيام الدولة الفاطمية.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

lesclesdumoyenorient.com


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية