من أين تأتي المعتقدات؟

من أين تأتي المعتقدات؟

من أين تأتي المعتقدات؟


12/10/2023

تذكر كاثلين تايلور مصدرين للمعتقدات: العلم والعواطف، في العلم بما هو المجهود العقلي، استناداً إلى الملاحظات الحسية القابلة للاختبار، ينشئ الإنسان معتقداته التي تبني علاقته بالأفكار والمعاني، وينشئها أيضاً بناء على العواطف والمشاعر المستمدة من عناصر ومكونات غير تجريبية أو عقلية. إنّ المعتقدات القوية تعني الكثير بالنسبة إلينا، وهذا المعنى يشمل أهميته وعلاقته بالأفكار الأخرى، وثراء دلالة المعاني المصاحبة للفكرة، والمعنى العاطفي وقيمته.

المعتقدات التي تستند إلى ملاحظات حسية تكون أضعف؛ لأنّ العالم الذي تنشأ عنه يمكن أن يتغير، والمعتقدات التي تعتمد على المنطق معرضة لمخاطر أخطاء التفكير أو الاستنتاج من الوقائع، فالتغيير الثقافي مثلاً من الممكن أن يحوّل الافتراضات الواضحة لجيل ما إلى موضوع للسخرية عند الجيل التالي. لكنّ المعتقدات التي ترتبط بعواطف قوية لا تحتاج أن تتبع حقيقة متغيرة، ولا أن تزعجها أخطاء التفكير، ذلك أنّ قوتها تستمد طاقتها من العواطف والمشاعر، وهي لا تتغير إلّا عندما تتغير المشاعر فقط، وقد لا يحدث هذا على الإطلاق، وبناء على ذلك فإنّه يمكن أن تصبح قوية وصلبة بدرجة كبيرة.

وتسبب المعتقدات التي نميل إليها أكثر الأنماط الواضحة والقوية من النشاط العصبي، وتتواءم بسهولة مع الأنماط التي نملكها بالفعل، إنّها مثلنا، ونحن عموماً نفضل ما يماثلنا، وخاصة أنّ المعتقدات التي نتقبلها تصبح مكوّنات من هويتنا، وإذا كانت المعتقدات تشكل أنماطاً ثابتة، فلا بدّ أن تكون هذه الأنماط واضحة ومستمرة وبسيطة نسبيّاً. ولا بدّ أن يعززها داعم عاطفي يساعدها في نقش تأثيرها في القشرة الخارجية للمخ. ويعتمد إقصاء الآخر على المعتقدات، والرسائل الأساسية بخصوص الناس الآخرين أنّهم مختلفون ومثيرون للاشمئزاز وليسوا مثلنا، ويريدون إيذاءنا أو قد آذونا أو آذوا أناساً مثلنا، إنّ إزاحة هؤلاء الناس تحلّ مشكلاتنا.

المعتقدات التي نتقبلها تصبح مكوّنات من هويتنا، وإذا كانت المعتقدات تشكل أنماطاً ثابتة، فلا بدّ أن تكون هذه الأنماط واضحة ومستمرة وبسيطة نسبيّاً

ومن الممكن أن تكون المعتقدات محمّلة بأحمال عاطفية ثقيلة، فإذا كنت لا تحب المهاجرين، وكنت أيضاً تشمئز من الفئران، وشاهدتها في مكان يعيش فيه المهاجرون، فإنك تربط بوعي أو بدون وعي بين المهاجرين والفئران، وقد تكون الفئران جذبها الطعام الذي يلقيه الأغنياء في الحي المجاور، ولكنّ الاشمئزاز لن يغادرك، حتى لو عرفت ذلك، وبالطبع فإنّه من الأسهل عليك أن تلوم المهاجرين بدلاً من أن تفسد علاقتك بجيرانك.

هناك مصدران يمنحان المعتقدات قيمة إضافية؛ عندما تأتي من أناس نكنّ لهم مشاعر قوية، وعندما يكون للمعتقدات مضامين تقييمية لأنّها عبارة عن تنبؤات بخصوص ما يجب أن يكون عليه حال العالم الواقعي؛ فالمعتقدات هي توقعات، وباعتبارها كذلك فإنّها تكشف عن نفسها كمعابر تصل بين الحقيقي والمحتمل، فتصل علامة من الماضي والمستقبل. ولسوء الحظ فإنّ المعتقدات الاجتماعية غالباً ما تعتمد على أفراد الجماعة أنفسهم، الذين نلجأ إليهم عندما تتم معارضة هذا المعتقد، ذلك لأنّهم هم ذاتهم الناس الذين تعلمنا منهم معتقداتنا في المقام الأول. فعندما تتلقى إشارة في جهازك العصبي والعقلي أنّ إيذاء الناس خطأ، وتتلقى في الوقت نفسه إشارة بأنك تريد إيذاء هؤلاء الناس، فإنك تنشئ اعتقاداً أنّ هؤلاء الذين تؤذيهم ليسوا "ناساً"، أو هم يستحقون الإيذاء.

هل المعتقدات مرنة؟ نعم، ولا، تجيب تايلور، وتوضح: "فالمعتقدات التي لا تهمنا نغيرها بتكلفة قليلة، لكنّ تكلفة تغيير القناعات الراسخة ستكون مروعة، إنّها شيء مثل إصابة بالغة؛ مثل بتر عضو من الجسد، أو حتى أكثر من ذلك، لأنّ تغيير مثل هذا المعتقد يشعر به الإنسان وكأنّه كسر جزء من النفس أو الذات، وينطبق ذلك علينا جميعاً، وليس على المتطرفين فقط الذين يتجاوزون الخطوط والحدود، لأنّ معتقداتهم تتطلب العنف، ولو سألنا لماذا يتصرف المتعصبون لعقائدهم مثل ما يفعلون؟ فعلينا أن نتذكر أننا عندما نخالفهم ونتحدى أفكارهم، فإننا بالفعل نطلب منهم أن يغيروا كثيراً من ماهيتهم  وذواتهم، وهذا من منظورهم يشبه "الانتحار النفسي"، ولا يعني هذا أنّ أفكارهم ليست سخيفة أو مضحكة أو غير معقولة أو خطيرة، بكل ما في الكلمة من معنى، فهذا شيء قائم بذاته. إنّ المسألة هي كون المعتقدات الراسخة أقرب إلى اعتبارها جزءاً جوهرياً وصميماً من النفس، وليس كونها سمات وملامح قابلة للتعديل، وهذا ما يجعل تكلفة التغيير باهظة، فقد يصل ثمن خروج الفرد عن الجماعة أن يدفع حياته ثمناً لذلك.

قد يبدو أعضاء الجماعة حمقى أو مغفلين؛ لأنّهم يتنازلون عن استقلالهم الذاتي، ويقللون من فرديتهم، بأن يجعلوا العقيدة المشتركة مع آخرين جزءاً كبيراً من هويتهم، لكن في مقابل ذلك تتحمل الجماعة كثيراً من الأعباء التي يتحتم على الأفراد مواجهتها منفردين. والتوتر الذي يرتبط بالموت والفناء، على وجه الخصوص، يمكن أن تهوّنه عضوية الجماعة.

من الممكن أن تكون المعتقدات محمّلة بأحمال عاطفية ثقيلة، فإذا كنت لا تحب المهاجرين، وكنت أيضاً تشمئز من الفئران، وشاهدتها في مكان يعيش فيه المهاجرون، فإنك تربط بوعي أو بدون وعي بين المهاجرين والفئران

تمثل المعتقدات خطوطاً دفاعية ضرورية لمواجهة التهديد، نستعير هذا السلوك الرمزي للأفكار كما تتعامل الكائنات مع المرض والجراثيم والسموم، فالمعتقدات التي نكرهها نصفها دائماً بأنّها مثيرة للاشمئزاز، وعلى مدى التاريخ كان من يأتون بمعتقدات جديدة تطرح تحديات، مثل الناس والكتب، يواجهون بالعداوة التي تتولد من عاطفة النفور والرفض، وغالباً ما تكون العاقبة مهلكة.

إنّ العالم الخارجي هو ما نتصوره، سواء أكان هذا التصور صحيحاً أم خاطئاً، لأننا نتعامل معه حسب تصوراتنا ومعتقداتنا، ثم تتشكل توقعاتنا عن العالم وفق معتقداتنا، وعندما لا تتلاءم المدخلات الصادرة عن العالم الخارجي والمحيط مع توقعاتنا، قد تتحول في بدء العمليات المنظمة للذهن لتطرح قدرة فائقة على الضلال وخداع النفس. وإذا لم يحدث هذا، فقد يتنازل المتلقي عن اعتقاداته، وعلى الدوام وبلا انقطاع، فإنّ البشر يشكّلون العالم الخارجي كما يتصورونه أو حسب أهوائهم. وعندما تكون هذه التوقعات معتدلة يمكن تغييرها بسهولة، لكنّ بعضها يشكل جزءاً من ذواتنا، لدرجة أنّها تستفزنا لنعمل بطريقة تهدف إلى أن نغير العالم حتى يتلاءم مع هذه التوقعات. فالناس الذين نصفهم بأنّهم ضعفاء وخونة وأنانيون ومقززون، يصبحون "آخرين"، ويشكّلون تهديداً إذا تحدوا هذه الأنماط بأن يكونوا على عكس ذلك أقوياء جديرين بالثقة عطوفين ولديهم مشاعر اهتمام بالغير، مثلهم مثل أيّ شخص قد تغير حتى يتغلب على الشعور بالاشمئزاز.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية