من أين جاء هؤلاء المتطرفون؟

من أين جاء هؤلاء المتطرفون؟

من أين جاء هؤلاء المتطرفون؟


17/08/2023

"تلوا باطلاً وجلوا صارماً           وقالوا أصبنا؟ فقلنا: نعم"

- أبو العلاء المعري

صعد التطرف الديني منذ سبعينات القرن الـ (20)، وصحبته موجات من الكراهية والعنف التي تحولت إلى متوالية من العمليات الإرهابية والردّ عليها، ثم إلى صراعات وحروب أهلية طاحنة عصفت بكثير من الدول والمجتمعات، واستنزفت موارد هائلة، ونشأت في الوقت نفسه بطبيعة الحال عمليات واسعة للمواجهة والدراسة والفهم.

ثمّة أسئلة وتقديرات بديهية تتشكل عند التفكر في قضية الجماعات والتنظيمات المسلحة مثل (القاعدة وداعش)، وهي تدور ببساطة حول قدرة هذه الجماعات والتنظيمات على اجتذاب المتطوعين والمؤيدين والموارد المالية اللازمة للتجنيد والتسليح والقتال، ومهما علمنا أو خفي عنا من أمر هذه الجماعات، فإنّ ثمّة حقيقتين واضحتين تكفيان للتحليل والدراسة في شأن هذه الجماعات، وهما التأييد الفكري لهذه الجماعات والذي يصل لدى البعض إلى التطوع والقتال والاستعداد للموت، والموارد المالية الكافية أو التي تغطي عملها، من أين وكيف تأتي هذه العزيمة والأموال للقتال؟ وبطبيعة الحال؛ فإنّ تقدير مسار ومستقبل هذه الجماعات وقدرتها على العمل والتأثير مرتبط بقدرتها على استقطاب التمويل والمؤيدين.

بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كان السؤال مُلحّاً وشاغلاً للعالم...، ولكن يبدو أنّ مشروع تجفيف منابع الإرهاب الفكرية والمالية تحول إلى عمليات اقتصادية وسياحية، قليل منها حقيقي وجادّ، وأغلبها مؤتمرات وندوات ومؤسسات وبرامج فكرية وإعلامية تغلب عليها السطحية والمنافع الشللية والقرابية، أو أنظمة ملاحقة ورقابة مالية وأمنية تحولت إلى ما يشبه القصة أو النكتة الليبية (في السبعينات) عندما أعلنت الحكومة عن مكافأة بدل كل عقرب يقتل، فأنشأت المكافأة عمليات واسعة لتربية وتكثير العقارب!

بعد أحداث 11 أيلول 2001 كان السؤال مُلحّاً وشاغلاً للعالم، ولكن يبدو أنّ مشروع تجفيف منابع الإرهاب الفكرية والمالية تحول إلى عمليات اقتصادية وسياحية، قليل منها حقيقي وجادّ

يمكن اليوم أن نلاحظ بسهولة كيف أنّ الدول العربية الحديثة اقتبست النموذج الغربي في التحديث، ولكنّه تحديث منفصل عن متوالياته وشروطه، ففي الغرب كانت الثورة الصناعية في أهم جوانبها وتجلياتها متوالية من الموارد والأسواق الجديدة، وأنشأت هذه مدناً وطبقات ونخباً جديدة، وفي هذا الصراع بين النخب والطبقات تشكلت التعددية السياسية والثقافية، وترسخت الديمقراطية وسيادة القانون لأجل تنظيم سلمي لهذا التنافس والصراع...، وهكذا تحولت الوفرة الجديدة في الموارد والمعارف إلى منظومة اجتماعية وثقافية جديدة، سيادة القانون والمساواة التامة بلا استثناء أمام المحاكم، ونهاية الاحتكار الطبقي للسياسة والامتيازات الاقتصادية والحق الإلهي المزعوم لفئة من الناس، وتشكل معنى جديد للحرية، لم تعد الكلمة للمرة الأولى في تاريخ البشرية كما نعلم مصطلحاً قانونيّاً يعني عكس العبودية والرّق.

في السعي الحتمي والتلقائي للإنسان بعد أن يحلّ مشكلة البقاء ويملك وفرة من الطعام والوقت تسمح له بالتفكير يبحث عن المعنى والجدوى، ولعلهما (المعنى والجدوى) كلمتا السرّ فيما جرى ويجري منذ إقامة الدولة الحديثة، فلا يمكن أبداً مع تطوير المدارس والمؤسسات ووفرة المعرفة والموارد إلّا أن يبحث الناس عن المعنى والجدوى.

لماذا لم تنشئ الوفرة في المعرفة والوقت والموارد متوالية من التطور السياسي والاجتماعي والثقافي كما حدث ويحدث في التاريخ والجغرافيا؟ ولكنّها بدلاً من ذلك أنشأت متوالية مضادة من التسلط والقهر وغياب الحيلة، لأنّه وببساطة لا يمكن حماية هذا التحديث إلّا بمنظومة اجتماعية وثقافية جديدة ملائمة من المدن والمجتمعات التي تجد المعنى والجدوى في الارتقاء بنفسها وحريتها، فلا يمكن أن يذهب الناشئة إلى المدارس والجامعات ويتواصلون مع العالم ويعرفون كل شيء، ثم تواصل النخب السياسية والاجتماعية وهمها بالقدرة على السيطرة ومواصلة الاحتكار والامتيازات ورفض المشاركة والحريات والمساواة.

شغلت الدول العربية مواطنيها برواية الاستقلال والتحرير، ولكنّها رواية انهارت بفعل هزيمة 1967، فكانت الجماعات الإسلامية بمختلف أطيافها ومصادرها في الفكر والتجميع رواية جديدة، ولكنّها حيلة انقلبت على الساحر، كما انقلبت عام 1967حيلة القومية والتحرير على أصحابها. واليوم لا مجال في مواجهة الجماعات الدينية المتشددة والمسلحة سوى أمرين: المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الواسعة للمجتمعات والناس ليقرروا مصيرهم، أو أن يعود الناس رعاة وصيادين وجامعي ثمار لا يملكون من الوقت إلا لتأمين بقائهم!

بدأت المواجهة مع التطرف والكراهية أمنية وعسكرية، وما زال الجانب العسكري والأمني يمثل المساحة الكبرى في المواجهة والإنفاق، لكن بدأت تتشكل محاولات ومؤسسات للمواجهة الاجتماعية بالنظر إلى التطرف والكراهية كظاهرة اجتماعية، وبدأت محاولات الدراسة والفهم للظاهرة في الفضاء الديني بالنظر إليها مستمدة من الفكر الديني، وامتدت الدراسات للظاهرة لتشمل علوم السياسة والاجتماع وعلم النفس. ولم يعد جديداً أو مفاجئاً القول إنّ الظاهرة أعقد بكثير من خطأ أو خلل في فهم النصوص الدينية وتطبيقها، وأنّ مواجهتها أبعد بكثير من العمليات الأمنية والفكرية والإعلامية.

والحقيقة الثالثة والأكثر إيلاماً وصعوبة هي أنّ المصادر الفكرية والدينية للمتطرفين هي نفسها المصادر القائمة والمتقبلة لدى العرب والمسلمين على مدار واقعهم وتاريخهم/ فهم لا يستخدمون في واقع الحال أدلة ونصوصاً غريبة علينا، ولا يؤمنون بغير ما نؤمن به، ولكنّهم في نظر السلطات يريدون تطبيق مبادئهم بأنفسهم

تمضي استراتيجيات مكافحة التطرف والكراهية القائمة في العالم العربي اليوم وفق رؤية غير معلنة، ولكنّها واضحة، الدولة تحتكر الدين، فالحرب في جوهرها ليست ضد التطرف بذاته، ولكنّها ضد ممارسة الدين أو تطبيقه وحتى فهمه خارج المؤسسة الرسمية، فالجريمة لا تختلف عن تهريب السلع غير الممنوعة لذاتها، السجائر ليست محظورة على سبيل المثال، لكن يحظر توريدها إلى البلاد بعيداً من الجمارك والمنافذ الحكومية المخصصة لاستيراد البضائع والسلع. ورغم بساطة هذه الفكرة ووضوحها، فإنّه يجري تجاهلها وعدم أخذها  بالاعتبار؛ الدولة ومؤسساتها الدينية والإعلامية والأمنية، وأعداء التطرف الجادون من المثقفين وغير المتدينين والمتدينين المعتدلين، لأنّهم وببساطة لا مكان لهم في مواجهة التطرف إلّا بالتحالف مع السلطة السياسية التي لا ترفض التطرف ابتداء، ولكنّها ترى نفسها في حالة حرب ومواجهة لا تختلف عن المهربين والخارجين على القانون. فهو تحالف مراوغ، يترك فيه المثقفون أنفسهم ينخدعون؛ فيشاركون في برامج ومؤسسات إعلامية وفكرية وبحثية، موهمين أنفسهم بأنّهم يعملون لأجل الاعتدال والتسامح والتنوير، ويبدعون في التنظير لأجل التوفيق بين الإسلام والديمقراطية والعلم!، ويجدون أدلة بلا حدود على التسامح والاعتدال والتعايش، ولا يحاولون ملاحظة أنّ أحداً لا يستمع إليهم ولا يريدهم، وأنّ المتطرفين أقرب إلى السلطة منهم، إنّهم في نظر السلطة ليسوا سوى مجموعة من المتحدثين الأنيقين الذين لا حاجة لهم سوى أن يسمعهم الغرب، وهؤلاء (الغرب) بمنظماتهم ومؤسساتهم المشغولة بحقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية هم أيضاً يُشعرون أنفسهم بالرضا الزائف معتقدين أنّ ثمّة قطاعاً واسعاً وممتداً من المعتدلين والمناضلين لأجل قيم الديمقراطية والتسامح، لقد رأوا بأنفسهم المئات منهم في كل لقاء أو احتفال في فنادق الـ (5) نجوم، وخاصة في الغداء وحفلات الاستقبال، وهو جمهور يبدو أكثر عدداً واهتماماً من الناشطين في الغرب، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ويطبّقون أسلوب الحياة القريب إلى العالم المتحضر! ولكنّ أحداً من هؤلاء المعتدلين والمتنورين الأنيقين لا يريد أن يعترف بأنّ قيم الاعتدال والتسامح والديمقراطية التي يتحدثون عنها بإسراف في الفنادق والندوات ووسائل الإعلام لا يستطيع أصحابها التقدم بها إلى الناخبين، وستفشل في الاختبار الديمقراطي الذي يدعون إليه، إنّها ببساطة أيقونات جميلة ورائعة، ولكنّها لا تملك قواعد اجتماعية تتحرك لأجلها، وتنتخب أصحابها في المجالس النيابية والبلدية والنقابية .

الحقيقة الأخرى الصعبة المؤلمة أنّ التنوير والاعتدال يحلّان في مجتمعات ومدن قائمة بالفعل، وتسعى في تشكيل وعيها لذاتها؛ ممّا يعني بالضرورة أنّ جهود وبرامج بناء الاعتدال والتسامح يجب أن تكون عمليات وبرامج لتجميع الناس والمجتمعات والجماعات والمدن والأماكن حول أولوياتها ومصالحها، وأن تلاحظ المجتمعات بالفعل العلاقة بين مصالحها وتقدمها وبين الاعتدال والتسامح؛ إنّها في الواقع تشكيل المجتمعات واستقلالها وقدرتها على بناء مواردها ومؤسساتها، ثم وبطبيعة الحال بناء القيم والثقافة والأفكار التي تحمي هذه الموارد والمؤسسات وتطوّرها. لكن لا تكاد توجد لدينا مدن ولا مجتمعات، وهذه القيم الجميلة التي ندعو إليها تفتقر إلى الشرط الأساسي لنجاحها وهو وجود المدن والمجتمعات.

والحقيقة الثالثة والأكثر إيلاماً وصعوبة هي أنّ المصادر الفكرية والدينية للمتطرفين هي نفسها المصادر القائمة والمتقبلة لدى العرب والمسلمين على مدار واقعهم وتاريخهم، فهم لا يستخدمون في واقع الحال أدلة ونصوصاً غريبة علينا، ولا يؤمنون بغير ما نؤمن به، ولكنّهم في نظر السلطات يريدون تطبيق مبادئهم بأنفسهم، وهذا حق الحكومات وواجبها، وهم في نظر الجماعات الإسلامية السياسية (المعتدلة) متعجلون لا يأخذون بسنُن التدرج، ولم يلاحظوا أنّ الرسول سكت على الأصنام حول الكعبة وأجّل هدمها إلى حين امتلك القوة الكافية لذلك، بمعنى أننا لا نختلف عن الجاهلية في شيء، بل نحن جاهلية، وأنّ الفرق بين (داعش) و(الإخوان) والمؤسسات الدينية الرسمية هو في التدرج وفي توقيت ذبحنا وهدم أصنامنا! ولا خيار لنا سوى الهروب من التطرف الجماعاتي الأرعن إلى تطرف الدولة!

مواضيع ذات صلة:

كتاب "المدينة الوحيدة": هل المتطرفون الفرديون يعكسون أزمة الشعور بالوحدة؟

المتطرفون واعتزازنا التاريخي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية