من يغسل أدمغتنا؟

من يغسل أدمغتنا؟

من يغسل أدمغتنا؟


16/03/2023

محمد النغيمش

لا تستقر أفكار المرء ومعتقداته وسلوكياته على حال واحدة، إذ تحدث الأزمات والصدمات النفسية تغيرات هائلة في أدمغتنا. مصطلح "غسيل الدماغ" شكل من أشكال ذلك التغيير، الذي قد يحدث عنوة في غياهب السجون، وقد يحدث بفعل متغيرات الحياة التي تغسل مساحيق التجميل التي وضعناها على قيمنا الهشة أو سلوكياتنا المبنية عليها.

فعندما يفجر شخص وديع نفسه وسط حشد من الأبرياء، لا بد من أن شيئاً ما قد حدث في دماغه. وفي غياهب السجون الاستبدادية، يجبر المتهم على الاعتراف بذنب لم يقترفه، وذلك بعد حرمانه الطويل من النوم. وقد اكتشف العلم الحديث أن ذلك الحرمان يسهم في غسيل الدماغ. وعندما يُسجن أحد في زنزانة انفرادية ويقض السجان مضجعه: بأن أحداً لم يعد يكترث بك من أقربائك! هنا تبدأ أولى خطوات غسيل الدماغ والتغير السلوكي الناقم تجاه المجتمع. وكم من سجين خرج من معتقله ليعود إليه في قضية جديدة أكثر عنفاً وخطورة بسبب تغيرات طالت معتقداته وسلوكياته.

وهناك من يغسل دماغ البعض باستغلال غرائزهم أو دوافعهم الانتهازية. ويتأثر البعض بغسيل الدماغ بسبب التعرض لفعل "التكرار". وهذا ما قاله وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم النازي هتلر، غوبلز الذي كان يردد عبارته الشهيرة "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"! وقال خصمه رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل إن "الحقيقة غالية جداً، لذا يجب أن نحميها بجيوش من الأكاذيب".

وهناك من يغسل دماغنا بتخويفنا من عدو خارجي أو داخلي وهمي. فكلما أفلست برامج الحكومات لجأت إلى تخويف الناس بعدو ما. كما فعلت الحكومة الأميركية بالتخويف من المكارثيين أو من كل من له توجه شيوعي. فصاروا يتتبعونهم ويحاربونهم في شتى الميادين. واعتُقل كثير منهم وسيقوا إلى المحاكمات، وانقلبت حياتهم رأساً على عقب. ولم تسلم هوليوود من ذلك فانتشرت قائمة سوداء لبعض المستهدفين في شتى مناحي الحياة العلمية والفنية والسياسية والرياضية والإعلامية وغيرها.

قد تنطوي على الإنسان البسيط تلك الأطروحات فيصدقها ثم يجد نفسه في خنادق الاصطفاف السياسي. وبعد زوال الغمة يستوعب تلك الحيلة التي شغلته عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المسؤولون في بلاده. هي باختصار فكرة الشماعة التي تقنعك بأن المشكلة في مكان آخر. وهو شكل من أشكال غسيل الدماغ.

وصارت المكارثية مصطلحاً يطلق على أي سلوك يتهم الآخرين بالتآمر أو الخيانة من دون تقديم أدلة دامغة. وأضحت نهجاً لمحاربة طليعة المجتمع والمثقفين الذين عادة ما يحملون أفكاراً يعتبرونها إصلاحية، أي مغايرة لتوجهات الحكومة. ويعود هذا المصطلح إلى اسم عضو مجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي الذي كان يتهم بأن أطروحاته تصب في مصلحة الاتحاد السوفياتي. 

وقد وقعت حادثة سطو شهيرة على مصرف في استوكهولم عام 1973، حيث نجح الجناة في احتجاز موظفي البنك رهائن لقرابة الأسبوع. وكانت المفاجأة أن الرهائن قد أبدوا لاحقاً تعاطفاً غير متوقع مع اللصوص، إذ شرعوا بالدفاع عنهم، بعد إطلاقهم، وهي حالة محيّرة أطلق عليها العلماء "متلازمة استوكهولم"، حيث وقعت الجريمة. وتبين وجود المتلازمة لدى ثمانية في المئة، من حالات المحتجزين. وهذا يذكرني بالمثل الشعبي "القط يحب خناقه"! فقد برزت لدى الرهائن مشاعر إيجابية تجاه من يتسلطون عليهم. واستفاد من هذه المتلازمة عالم النفس فرانك أوكبيرغ الذي اشتهر بمساعدة المهتمين في التعامل مع حالات الرهائن.

مشكلة غسيل الدماغ أنه يحدث بطريقة مقصودة أو غير مقصودة. ولكن أسوأها على الإطلاق حينما تحدث عنوة لتدمير الفرد أو المجتمع أو إلهاء الناس عن قضايا الوطن الكبرى.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية