مهندس الإخوان المسلمين: الرجل والمهمة

مهندس الإخوان المسلمين: الرجل والمهمة

مهندس الإخوان المسلمين: الرجل والمهمة


06/11/2022

سيجريد هيرمان-مارشال

نشرت جودرون كريمر؛ الباحثة الألمانية المتخصصة في الدراسات الإسلامية، مؤخرًا، كتابًا بعنوان «مهندس الإسلاموية». الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، الذي عمل في الأساس في مهنة التدريس. الكتاب حافل بالتفاصيل حول جماعة الإخوان، من حيث العضوية والأعضاء والهياكل والتطورات. ولكن على الرغم من كل ما يقدِّمه هذا العمل المهم، هناك أيضًا العديد من الأسئلة التي يتركها دون إجابة. وفي حين يُعاب ضعف الاستشهاد بالمصادر في بعض القضايا التي يتناولها الكتاب، فإن بعض المشكلات المتعلقة به تنبع من التحيّز.

جماعة الإخوان المسلمين واحدة من أهم التيارات الإسلامية في جميع أنحاء العالم اليوم، ليس بسبب عدد الأعضاء المنتمين إليها فحسب، بل لأن الأيديولوجية الأساسية في العديد من الدول -الدعوة إلى أسلمة المجتمع من القاعدة إلى القمة- قد أضحت واسعة الانتشار، بقيادة جماعة بالإخوان. في الوقت الذي تأسست فيه في عام 1928، لم يكن من المتوقع أن تستمر الحركة، التي كانت واحدة من العديد من الحركات الصحوية/النهضوية التي تأسست في الدول ذات الأغلبية المسلمة في بداية القرن العشرين، حتى القرن الحادي والعشرين، وسيتم تصديرها إلى أكثر من سبع دول (وفق روايتها).

وهنا تجدر الإشارة إلى أن “الأسلمة” كما تفهمها جماعة الإخوان والجماعات التابعة لها والمتعاطفة معها لا توجّه ضد المجتمعات الغربية العلمانية فحسب، بل ضد الدول ذات الأغلبية المسلمة. والواقع أن تركيز جماعة الإخوان المسلمين، من نواحٍ كثيرة، ينصب على هذه الأخيرة أكثر من التركيز على الأولى. فلقد علمهم البنا أن “الإسلام الحق”، أي تفسير الإخوان للعقيدة، لم يكن يمارسه المسلمون في الحياة اليومية، حتى في الدول التي كانوا يشكلون فيها الأغلبية، وكانت مهمة الإخوان “تصحيح” ذلك. ولهذا السبب، ففي حين أن جماعة الإخوان المسلمين تصطدم بقوانين الدول الغربية العلمانية وعاداتها، فإنها تصطدم أيضًا مع الحكومات في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، حيث يُنظر إليها على أنها قوة تخريبية. أحد خلفاء البنا، سيد قطب، الذي طوّر مفهومه عن الحاجة إلى “الأسلمة” من خلال القول بأن الدول الإسلامية ظاهريًا قد سقطت في الجاهلية (جهل ما قبل الإسلام)، أعدمته الحكومة المصرية في عام 1966 بسبب أنشطته.

غلاف الكتاب

قبل قرابة عقدٍ من الزمان، كتبت كريمر سيرة ذاتية موجزة عن البنا، كانت، حتى هذه النسخة الموسّعة، السيرة الذاتية الوحيدة للبنا بلغةٍ أوروبية. تجدر الإشارة إلى كريمر عملت في الفترة من عام 1996 إلى عام 2019، رئيسة لمعهد الدراسات الإسلامية في جامعة برلين الحرة، وتعتمد على أبحاثٍ تمتد لعقود حول التاريخ الحديث للشرق الأوسط والاتجاهات الإسلامية. إضافة إلى ذلك، شغلت كريمر منصب مدير كلية برلين للدراسات العليا للثقافات والمجتمعات الإسلامية، وتقدِّم المشورة للمؤسسات البحثية والسياسيين. وبصورة عامة لا يوجد أحد في وضع أفضل منها للكتابة عن حياة البنا.

تقدِّم كريمر، في كتابها الحالي الذي يقع في أكثر من 400 صفحة، وصفًا متعمقًا لحياة البنا في الدعوة، وأنشطته ومعتقداته السياسية والدينية، ومن عمل معه في هذه القضية. ومع ذلك، فإن أبعادًا خفية في شخصية البنا لا تزال غامضة بشكلٍ غريب في هذه السيرة الذاتية. يمكن تفهُّم بعض من هذا. فلقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين كحركةٍ سرية، وحاول قادتها الحفاظ على سرية حياتهم الخاصة قدر الإمكان، وقد نجح البنا في هذا الأمر بشكلٍ جيد. يُقال إن البنا كان منغمسًا في الدين منذ سنٍّ مبكرة، ولم يكن يهتم بالمظاهر الدنيوية، وهو ما يمكن تفسيره بأن البنا لم يكن لديه حياة تُذكر بعيدًا عن الإخوان المسلمين ورسالتهم.

هناك مشكلة دائمة مع السجلات. وفي هذا الصدد، تشير كريمر في المقدمة، ثم تؤكد في أكثر من موضع من الكتاب، إلى أنه بالنسبة للعديد من الأحداث، لا تتوفر سوى رواية الإخوان المسلمين، لأن مصادرهم منشورة علنًا، في حين تظل المصادر البريطانية والمصرية قيد السريّة. ومن الواضح أن هذه مشكلة تواجه أي كاتب للسيّر الذاتية. الأمر الأقل قابلية للدفاع عنه هو إصرار كريمر على أنها لم ترغب في استخدام “السجلات الاستعمارية”. يجب على المؤرخ أن يقرأ جميع المصادر بشكلٍ نقدي، وفي هذه الحالة يجب أن يكون من الواضح أن مصادر الإخوان المسلمين لا تتفوق -سواء من ناحية الأدلة أو الأخلاق- على المصادر البريطانية خلال الحقبة الاستعمارية، على سبيل المثال. من المؤكد أن كريمر لا ترغب في الإيحاء بأنها تقبل التأريخ الإسلاموي دون تمحيص، ما يجعل رفضها استخدام السجلات الاستعمارية غير مفهوم.

إن استخدام كلمة “مهندس” في عنوان الكتاب -اختيار كريمر نفسها- هو تعبير مجازي جيِّد عن سنوات البنا ومهمة تأسيس الجماعة، وما مرَّت به: إقامة القواعد المؤسسية والمباني، وإضافة الملحقات، والعمل من الأقبية، وأحيانًا الانهيارات. تظهر روايات كريمر الطبيعة التجريبية لعمل البنا: فقد جرّب الكثير من الأساليب، ثم تخلى عنها عندما ثبت عدم نجاحها. ومع ذلك، كانت هناك استمراريات، وفي مقدمتها رفض البنا للفصل بين الدين والسياسة، ومحاولته مدى الحياة أن يكتسب هذا الفهم للدين اعترافًا من المجتمع.

هذا مجال يُعتبر فيه تقييم المصادر أمر في غاية الأهمية، ولحسن الحظ فإن اختيار كريمر الاعتماد بشكلٍ كبير على وثائق الإخوان المسلمين لا يلحق الضرر. فمن خلالِ تصريحات جماعة الإخوان المسلمين -لأعضائها وأعضائها المحتملين- يمكننا الحصول على فكرة جيدة عما آمنت به الجماعة، وأرادت تنفيذه خلال مرحلة تأسيسها، وتُظهر الاستنتاجات بوضوح أن نشر “صحيح الإسلام” والجهاد كانا ركنين توأمين للتفكير العقائدي والاستراتيجي للإخوان منذ البداية بطرقٍ تنعكس في تصرفات جماعة الإخوان المسلمين حتى يومنا هذا. على سبيل المثال، كانت ممارسات الإخوان المسلمين المتمثلة في إنشاء جماعات فرعية، ومؤسسات إعلامية وتعليمية “يمكن إنكارها”، وتعزيز تماسك الجماعة من خلال الزواج، كلها أمور كان البنا رائدًا فيها، ومستمرة حتى الوقت الحاضر. وبالمثل، يبدو أن عملية التحويل الفعلي للشخص العادي إلى عضو في الإخوان لم تتغير إلى حدٍّ كبير.

كما أن قائمة أعداء الإخوان ظلَّت مستقرة أيضًا، وإن كان ذلك مع اختلافاتٍ طفيفة في التركيز: فقد كانت الشيوعية مصدر قلق حقيقي في الحقبة التي تم فيها إنشاء الإخوان، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت الآن أقل أهمية. ومع ذلك، ما تزال العلمانية عدوًا رئيسًا للإخوان، وكذلك “الأوربة” (Europeanization)، أو ما سيُطلق عليه لاحقًا من قبل الثوار الإسلامويين الإيرانيين المتأثرين بالإخوان المسلمين في فترة السبعينيات (Westoxification)، التي تعني التسميم البطيء للنقاء الإسلامي من خلال اعتناق الأفكار والممارسات الأجنبية المستوردة من الدول الإمبريالية الغربية.

وكما ذكرنا سابقًا، كان هناك الكثير من التجربة والخطأ في حياة البنا، ولكن يبدو أنه لم يشك أبدًا في رسالته، ويبدو أنه كان مقنعًا للآخرين بشأنها. تصف كريمر زوجة البنا وأطفاله ووالديه وأشقائه بأنهم كانوا جميعًا يخضعون لمتطلبات هدفه الأيديولوجي. وسواء كان البنا يعتقد شخصيًا أنه زعيم مختار من قبل الله، فإن بعض المصادر التي أبرزتها كريمر تُظهر أن البنا كان مرتاحًا للمقارنات التي جعلت أتباعه يعتقدون ذلك. وهذا جانب آخر أخذه الثوار الإيرانيون وزعيمهم آية الله الخميني عن الإخوان.

ثقة البنا في نفسه -لا يوجد مثال واحد مسجل في السيرة الذاتية- يقدم لمحة عنه كشخص: فهو يظهر كشخص أحادي البعد وضيق الأفق تُظهر شخصيته اجتهادًا ومثابرة وكاريزما سطحية، ولكن لا يزال هناك شك في أنه لولا وجود ظروف خارجة عن إرادته، مثل الظروف السياسية في مصر، وقدر من الحظ، لما أصبح مؤسس مثل هذه الحركة المؤثرة. ولكان من السهل أن نرى كيف كان البنا سيبقى في ظلِّ التاريخ، مجرد نموذج آخر للتعصب.

فيما يتعلق بحياة البنا النفسية، تشير كريمر قليلًا إلى عادة البنا في البكاء علنًا، وهو أمر لا يزال يُشاهد في الجماعات الجهادية. لكن مرة أخرى الأدلة لا تلقي أي ضوء على البنا الشخص، لأن البكاء كان جزءًا من إظهاره العلني لعلاقته بالله. وهناك حالات أخرى تُظهر برودًا في التصرفات، تلك الخاصة بالمتعصب الذي يضع القضية فوق البشر. وتشير كريمر إلى مثال لذلك حيث واصل البنا خطبه، على الرغم من أن طفله قد توفي للتو، مُظهرًا نفسه رجلًا ملتزمًا بأداء الواجب الذي تمليه عليه رسالته الدينية.

وبطبيعةِ الحال، كان هذا الواجب مفروضًا ذاتيًا. لا يبدو أن الواجبات المهنية الفعلية التي كانت على عاتق البنا كمدرس قد استغرقت الكثير من وقته أو أفكاره، وهو ما تعكسه حقيقة أن دور البنا كمدرس لا يحظى إلا بذكرٍ عابر في الكتاب.

من غير الواضح ما إذا كان هذا بسبب افتقار المصادر إلى المزيد حول ما فعله البنا كمدرس، أو ما إذا كان ذلك لأن عمله كمدرس لم يكن ذا صلة إلى حد كبير بحياته، لأنه كان مجرد وسيلة لكسب العيش للحفاظ على رسالته الدينية. يبدو أن البنا قد قدّر مهنة التدريس، ولكن، مرة أخرى، فقط للمزايا التي تمنحها له فيما يتعلق بنشاطه في جماعة الإخوان: فقد وفَّرت له حرية كبيرة لتنفيذ مهمته، ومنحته إمكانية الوصول إلى الشباب الذين يسهل التأثير عليهم، وتجنيدهم، ناهيك عن أسرهم.

لعل من أخطر مثالب الكتاب النقاط التي لم يتحدث عنها. ذلك أن هناك القليل جدًا من النقاش حول معتقدات الإخوان المسلمين وعلاقتهم باليهود واليهودية. هل ابتكر البنا في مقاربته لليهود؟ هل اتبع إجماع علماء الإسلام؟ الكتاب غامض حول هذا الموضوع بشكلٍ عام. على الرغم من أن كلمة “يهودي” تظهر بشكلٍ متكرر في الفهرس، لكن عندما ينظر إليها المرء في النص تظهر كجزءٍ من وصف الأحداث العامة أو تسليط الضوء على اليهود في قائمة الأقليات الدينية الموجودة في مصر. عندما يناقش الكتاب القضية التي أصبحت مركزية للغاية في نهاية حياة البنا -إعادة إحياء إسرائيل و”القضية الفلسطينية”- تصبح المؤلفة واضحة، إن لم تكن صريحة، حول من المسؤول النهائي عن الصراع. علاوة على ذلك، هناك غموض مقصود واضح في هذه النقطة، حيث يتم تقديم معركة البنا على أنها معركة ضد “الصهيونية”. قد يكون هذا بسبب وجهات النظر السياسية الخاصة للمؤلفة، التي ترفض تفسير معاداة الصهيونية في حد ذاتها على أنها معادية للسامية، كما ظهر في السنوات الأخيرة في موقف كريمر بشأن حملة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”.

هنا، نعود إلى مشكلة المصادر. كان من الممكن أن تسهل كريمر على القارئ فهم حالة الأدلة على الادعاءات والحجج إذا لم تكن قد استشهدت بكتاباتها الخاصة، وقدمت المصادر الأولية. ومن ناحية أخرى، عندما تستخدم المصادر الأولية، في بعض الأحيان يبدو أن المسافة والموضوعية الضروريتين للمؤلف تجاه الموضوع مفقودة.

وثمة أمر بسيط، ولكنه ذو دلالة، يتمثل في أنه طوال النصف الثاني من الكتاب تستخدم المؤلفة كلمة “مرشد” (المرشد الأعلى)، وهي الرتبة الداخلية للبنا في جماعة الإخوان، دون تحفظ، كما لو أنها تُستخدم من قبل أتباعه. (وهناك أيضًا ما يقابلها في الثورة الإيرانية: عندما يُشار إلى الخميني باسم “الإمام”).

بشكلٍ عام، على الرغم من أن الكتاب يعج بتفاصيل مثيرة للإعجاب، فإنه ينحو في بعض الأحيان للتقارب والتعاطف أكثر مما يجب مع العمل الدعوي الذي مارسه البنا. لكن رغم هذه المآخذ، فإن ثبت المراجع الواسع، والملاحظات العديدة المصاحبة للمراجع، توفر للقراء فرصة فهم أعمق للبنا. كما أن الكتاب يُعتبر، بالنسبة للقارئ غير المتخصص، مقدمة معقولة للإبحار في الموضوع.

ينتهي الكتاب بشكلٍ مفاجئ إلى حدٍّ ما بعد وفاة البنا. إذ لا يوجد تقييم لخلفائه، ولا حتى وصف تقريبي لأثر إرثه على يومنا هذا. ومن ثم، يتعين على القارئ أن يستخلص استنتاجاته الخاصة حول ما بقي دون تغيير نسبي من عمل البنا الدعوي، وما تم التخلي عنه. وهذا إغفال ملحوظ. ففي نهاية المطاف، البنا ليس مجرد شخصية تاريخية، بل مؤسس حركة لا تزال نشطة ومؤثرة للغاية حتى اليوم.

عن موقع "عين أوروبية على التطرف"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية