هل انهارت فعلياً الشروط الضرورية للحياة الإنسانية؟

هل انهارت فعلياً الشروط الضرورية للحياة الإنسانية؟


15/09/2019

الشروط الضرورية، أو شروط الحد الأدنى للحياة البيولوجية للإنسان، التي تتأسس عليها منظومة متكاملة هي: الغذاء الصحي، والماء النظيف، والهواء النظيف، والملبس المناسب، والمسكن المناسب، وحفظ الحياة وترقيتها باستمرار هما غاية من هذه المنظومة. يفترض أن تكون هذه الشروط جميعاً متوافرة ومتاحة، لجميع أفراد النوع بلا استثناء، على نحو يضمن الصحة الجسدية والعافية النفسية.

اقرأ أيضاً: كيف يكون الإسلام السياسي مشروعاً مضاداً للاجتماع الإنساني؟
الصحة الجسدية للإنسان لا تقلّ أهمية عن الصحة النفسية؛ لذلك أولى علماء الاجتماع في الثمانينيات اهتماماً واضحاً بما يسمى "علم اجتماع الجسد"، عن طريق استقصاء الطُرق والأوجه التي يتأثر فيها جسد الإنسان بالعوامل والمؤثرات الاجتماعية.

المجتمع السوري الذي يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث أحدثت فيه الحرب تغييرات عميقة

وقد وجد علماء الاجتماع ترابطاً كبيراً بين الصحة الجسدية والتفاوت الطبقي أو اللامساواة الاجتماعية في جميع المجتمعات بنسب متفاوتة بين المجتمعات المتقدمة التي تحقق للأفراد الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية، كـدور المسنين، وجمعيات رعاية الأطفال، وغيرها من شبكات الحماية الاجتماعية؛ وبين مجتمعات الدول الفقيرة، بوجه عام والدول التي يعيش رعاياها تحت نير الاستبداد والتسلط والفساد، والتي تحل فيها الامتيازات محل الحقوق، والولاءات محل القوانين، ولا سيما المجتمعات التي فجرتها الحروب والنزاعات الداخلية، كسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان..

اقرأ أيضاً: إنسانُ اليوم كائنٌ سندبادي
المجتمع السوري، الذي يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث؛ أحدثت فيه الحرب تغييرات عميقة، سواء على صعيد الأفراد أو على صعيد الأسر والجماعات؛ فقد أضيف إلى التفاوت الاجتماعي، الذي انقسم بموجبه المجتمع إلى فئتين فقط: فئة عليا، همها مراكمة الثروات وزيادة رؤوس الأموال، وأخرى تحت مستوى خط الفقر؛ همّها الأساسي هو البقاء على قيد الحياة، أضيف إلى هذا التفاوت فقدان أكثرية السكان ممتلكاتهم ومصادر عيشهم ودمار البنى التحتية والمرافق العامة، وتحكم العصابات المسلحة وأثرياء الحرب بأرزاق الناس وأقواتهم، علاوة على حقوقهم وحرياتهم.. فعاد ثالوث الفقر والمرض والجهل ينخر الحياة الاجتماعية ويهدد المستقبل. ودفع الجوع بالأطفال، إما إلى العمل الأسود وإما إلى التسول، مما ينعكس ذلك على القيمة المعنوية والصحية للمجتمعات.

اقرأ أيضاً: "حقوق الإنسان" تشيد بإعلان الإمارات الأولى عالمياً في المساعدات لليمن خلال 2019
تفاقمت ظاهرة التسول في الآونة الأخيرة بسبب ما تعانيه المجتمعات المتخلفة من أزمات اقتصادية واستبداد سياسي، والعنف الناتج عن الحروب، وفقدان الغذاء والمأوى، فباتت الشوارع تعج بالأفراد المهدورين، والمقهورين، والمسلوبي الإرادة، نساءً وأطفالاً وشيوخاً وشباباً، عاجزين عن إدارة الحياة الطبيعية التي تعطيهم الحق في أن يكونوا فاعلين فيها ومتفاعلين معها، فعندما تنعدم خيارات الأفراد يزداد منسوب القهر والاغتراب والاستلاب، فينتج عن هذا القهر والاغتراب هدر لكرامة الإنسان وحريته وحقه في العيش الكريم، وهذا ما يسميه مصطفى حجازي بالهدر الإنساني أو المعنوي: "وهو التنكر لإنسانية الإنسان، أو تجاهلها، أو التلاعب بها، أو الحرب عليها".

اقرأ أيضاً: لماذا يتباهى متحف الإنسان في باريس بعرض جماجم الثوار العرب؟
فإذا كان الفرد هو المحور الأساسي في نمو المجتمعات وازدهارها، وتقدمها نحو الحداثة، كيف لمجتمع أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ونسبة كبيرة من خلايا جسده مريضة، حافية وعارية وجائعة؛ لا بل ميتة ميتةً مهينة؟ هؤلاء الأفراد لا يعانون من فقدان المساواة، إنما هم متساوون في فقدان القيمة الاجتماعية، ومتساوون في حرمانهم من حقوقهم الإنسانية وفاقدون وفاقدات لأي شكل من أشكال الحماية القانونية والاجتماعية يصون كرامتهم.    
توصل اثنان من علماء الاجتماع في نهاية القرن الماضي هما: "راون وبوترل" في دراسة اللامساواة الصحية في العديد من المجتمعات، إلى أنّ نسبة وفيات الأطفال في الطبقة الدنيا من المجتمع، أكثر بمعدل خمسة بالمئة من أطفال الطبقة العليا، وأنّ أفراد الطبقة العليا أعمارهم أطول من أفراد الطبقة الدنيا بسبع سنوات على الأقل. أُجريت تلك الدراسة في مجتمعات عادية تنعم بالأمن والسلام، فكيف ستكون نتائج مثل هذه الدراسة لو أُجريت في الوقت الحالي على أطفال المجتمعات العربية التي تعيش وسط نزاع مسلح يأكل الأخضر واليابس؟

اقرأ أيضاً: كيف شخّص ماركس علاج اغتراب الإنسانية؟
وحسب تقرير الأمم المتحدة للتغذية المستدامة، تبلغ نسبة الفاقد الغذائي أو (الهدر) في العالم سنوياً ثلاثة عشر مليار طن من المواد الغذائية؛ أي بمعدل 250ــ 300 كيلو للفرد الواحد، بينما يبلغ عدد الجياع في العالم ثمانمئة مليون جائع، الغالبية العظمى منهم في مجتمعات الدول النامية ومناطق النزاع المسلح. قد ورد في التقرير السنوي الذي أطلقه "المركز السوري لبحوث السياسات" لعام 2014، أنّ ثمانين بالمئة من الشعب السوري أصبح تحت خط الفقر، إضافة إلى انعدام الضمانات الاجتماعية، التي تكفل حق المواطن في الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية.

الاحتكارات والحروب والنزاعات هي الأسباب الأساسية لتدهور شروط الحياة الإنسانية في أي مكان فضلاً عن القمع والاستبداد

فمن المسؤول عن الفاقد الغذائي في العالم بوجه عام؛ وفي الدول النامية على وجه الخصوص، وما الذي ينتظر الإنسان في ظل هذا الفاقد وفي ظل انعدام الأمن الغذائي؟ لعل المسؤول الأول عن تدهور شروط الحياة الإنسانية، وزياد نسب الفقر والجهل والمرض هو نظام الاحتكارات على الصعيد المحلي والعالمي، وتدهور شروط التبادل بين الدول الصناعية والدول غير الصناعية، وضعف وتائر التعاون والتضامن في المجتمع الدولي، وفي كل مجتمع على حدة.
وهذا ينطبق على المواد الغذائية التي يحتاجها الإنسان ليتمتع بصحة جيدة؛ فالدول النامية التي لا تمتلك أدوات الإنتاج؛ كالمعامل والمصانع لتصنيع المواد الزراعية التي تنتجها، على سبيل المثال، فتقوم بتصديرها إلى الدول المصنِعة، من ثم شراؤها من جديد، مما يصعب على اقتصادها الوطني إيفاء ثمن السلعة الغذائية للبلد المصنّع بما يتناسب مع حاجة الأفراد لتلك السلعة، فينقص الكم الغذائي اللازم للأفراد، إضافة إلى سوء التخزين الذي يتسبب في إفساد المادة الغذائية وهدرها.

اقرأ أيضاً: تقرير: 258 انتهاكاً حوثياً لحقوق الإنسان في أسبوع
أما في البلدان التي تعاني من نزاعات مسلحة، فتغدو تلبية حاجة المواطن في الدرجة الأخيرة من سلم أولويات الدولة؛ إذ تتوجه أولوياتها الاقتصادية نحو تأمين السلاح، وتعلن لمجتمعاتها عجزها عن تلبية حاجاتها الغذائية والدوائية، فتصبح الطريق مفتوحةً أمام أصحاب رؤوس الأموال وكبار التجار والمافيات الاقتصادية للتحكم في السوق واستيراد المواد الغذائية وبيعها بأسعار يعجز عن دفعها ذوو الدخل المحدود وصغار الكَسَبة.
الاحتكارات والحروب والنزاعات هي الأسباب الأساسية لتدهور شروط الحياة الإنسانية في أي مكان من العالم، فضلاً عن سياسات الترويع والتجويع، التي تنتهجها الأنظمة التسلطية على مسمع ومرأى من الدول الديمقراطية والمنظمات الإنسانية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية