هل تقود السينما الجزائرية معركة فضح جرائم الاستعمار؟

هل تقود السينما الجزائرية معركة فضح جرائم الاستعمار؟


07/06/2022

جدل متكرر على أرضية السينما تخوضه الجزائر منذ سنوات مع ذاكرة الاستعمار الفرنسي، فكلّما قدمت السينما فيلماً يوثق الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر يخرج المعارضون من الجانب الفرنسي لرفض محتوى تلك الأفلام.

أحدث تلك المعارك ما شهده مهرجان "كان"، في دورته المنقضية قبل أيام، مع عرض فيلم "الحركي" للمخرج الفرنسي فيليب فوكون، والذي يسرد قصة آلاف من الجزائريين تعاونوا مع فرنسا فترة الاستعمار، وكيف خذلتهم فرنسا بعد الاستقلال؛ بعد أن تركتهم في مواجهة القتل باعتبارهم خانوا بلدهم الأم، حتى من سافر منهم إلى فرنسا لم يحصل على الاعتراف المطلوب من الحكومات الفرنسية المتعاقبة، حصلوا فقط على مجرد اعتذار آخره من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عام 2019.

جدل فيلم "الحركي" ليس الأول، سبقه أزمات متكررة مع أفلام المخرج الجزائري، رشيد بوشارب، أبرزها فيلم "بلديون"، والذي تدور أحداثه حول مسيرة أربع "بلديين"، وهم جنود مجندون من أفريقيا ومنسيون من الجيش الفرنسي.

عبد القادر وسعيد ومسعود وياسين أربعة شبان اختلفت مشاربهم من المشاركة في حرب تحرير فرنسا، أبرزهم عبد القادر، الذي تأثّر بخطابات الجنرال شارل ديجول عن الحرية ومقاومة النازية الألمانية، ظلّ يصارع طوال الفيلم بحثاً عن حرية كاذبة وعده بها الفرنسيون، وفي نهاية الحرب اكتشف أنّه في عين الجيش الفرنسي لا شيء، مجرد جزائري من مستعمرة فرنسية.

لم يقف صراع السينما الجزائرية مع توثيق جرائم الاستعمار الفرنسي عند فكرة الجدل والرفض فقط، بل وصلت إلى مظاهرات فرنسية ضدّ فيلم "خارجون عن القانون" للمخرج رشيد بوشارب

لم يقف صراع السينما الجزائرية مع توثيق جرائم الاستعمار الفرنسي عند فكرة الجدل والرفض فقط، بل وصلت إلى مظاهرات فرنسية ضدّ فيلم "خارجون عن القانون" للمخرج رشيد بوشارب.

نافست أفلام بوشارب على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، وعلى جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان، في قلب باريس، لكن تظلّ معركة الجزائر في مضمار السينما قاصرة على مجموعة أفلام لم تقدم ما يكفي من كشف جرائم الاستعمار!

جدل التناول السينمائي للتاريخ

الكاتب والباحث في الشؤون الدولية، محمد حميدة، يشير إلى أنّ التناول السينمائي للتاريخ، خاصة قضايا الاستعمار دائماً ما يثير الجدل: "نظراً إلى أنّ المراحل التاريخية ومحطات التحول في عمر الدول والشعوب ينقسم حولها الجمهور كما كانت البيئة نفسها في ذات المرحلة التاريخية منقسمة".

حميدة: الحركي عند الجزائريين الذين قاموا بالثورة ضد فرنسا هو "خائن" وعميل قاتل في صفوف المستعم

يضيف حميدة، في تصريح لـ "حفريات": "مؤلف العمل دائماً ما يختار زاوية ويعبّر عنها سينمائياً وهي غالباً جزء صغير من تاريخ كامل وزوايا عدة يستحيل معالجتها في عمل واحد، إلا أنّ الجانب السياسي والاجتماعي دائماً يقفز فوق الجوانب الفنية والسينمائية، مثل ما وقع مؤخراً بشأن فيلم "الحركي"".

يوضح حميدة: "الحركي عند الجزائريين الذين قاموا بالثورة ضد فرنسا هو "خائن" وعميل قاتل في صفوف المستعمر، ما يعني أنّ وجهة النظر مسبقاً محددة نحو أيّ عمل يتحدّث عن الحركيين الذين قتلوا بالآلاف خلال تلك الفترة، وكانت عمليات قتلهم بطولة لخيانتهم لبلدهم".

يرى حميدة أنّ الجدل الذي أثاره الفيلم، والذي يمكن أن يتكرر مع أيّ فيلم يتحدث عن حقبة الاستعمار، يرتبط بشكل أساسي بالجانب السياسي لا الفني: "خاصة أنّ القضية ما تزال حيّة بين الجزائر والمغرب، على عكس الأمر، على سبيل المثال، إذا تم تناول قصة مشابهة لبعض الخونة الذين تعاونوا مع الاستعمار الإنجليزي لمصر؛ إذ يتم النقاش حول الأمر على المستوى الضيق دون ضجة كبيرة".

الإعلامي الجزائري عبد القادر بوكبة لـ "حفريات": الحكومات الفرنسية المتعاقبة، يساريةً كانت أم يمينية، منذ خروجها من الجزائر، عام 1962، بذلت جهوداً مدروسةً ومموّلةً لطمس تاريخها في الجزائر

لفت حميدة إلى أنّ حالة الجدل متكررة؛ إذ إنّ العديد من الأفلام التي تتناول هذه الحقبة عادة ما تكون محلّ الجدل: "منها على سبيل المثال فيلم "خارجون عن القانون"، للمخرج رشيد بوشارب، والذي عرض في مهرجان كان 2010، واتّهم الفيلم حينها بأنّه يبرر المقاومة المسلحة لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية، ويروي أحداث 8 أيار (مايو) 1945 بالجزائر، التي راح ضحيتها، بحسب الأرقام الجزائرية، 45 ألف مواطن، نتيجة القمع الذي مارسته سلطات الاستعمار الفرنسي حينها، واحتج حينها العديد من المحاربين القدامى الفرنسيين وجمعيات الحركيين أيضاً، والتي كانت تصنف عمليات المقاومة بأنّها إرهابية".

بحسب حميدة؛ فإنّ الموقف ذاته تكرر مع فيلم "الوهراني" للمخرج إلياس سالم الذي عرض، عام 2014، والذي ظهرت فيه بعض قادة المقاومة بأنهم يحتسون الخمر ويدخنون"، وهو ما دفع التيار الذي شارك في المقاومة لانتقاده بصورة كبيرة ومحاولة منعه.

الكيلاني: السينما يجب أن تفتح ملف متحف الإنسان، الذي يضمّ جماجم الثوار الفرنسيين

يرى حميدة؛ أنّ الإشكالية دائماً أنّ السينما تحاول أن تقدم زوايا من الواقع، أو أن تعالج بعض القضايا بشكل مختلف وتتناول الأمر كما هو، بجوانبه السلبية والإيجابية، بينما الرواية التاريخية دائماً ينظر لها بقدسية من الطرف المؤيد لها وينظر لها بتشكيك من الطرف الآخر، وفي كلّ الحالات تتهم السينما بأنّها تحاول تزييف الحقائق التي يريدها كلّ طرف بحسب قناعته.

 

السينما وضحايا الاستعمار الفرنسي

الناقد السينمائي مصطفى الكيلاني يشير إلى أنّ السينما الجزائرية تتحدث غالبية الوقت عن الثورة، العشرية السوداء أو الهجرة غير الشرعية، وهي الموضوعات الرئيسة، لكن لم تتم مناقشة ضحايا الاستعمار الفرنسي، ولم تتم مناقشة ما قبل الثورة ولا بعدها: "تلك الفترات علاقة الجزائريين بفرنسا لم تتم مناقشتها فعلياً".

يوضح الكيلاني، في تصريح لـ "حفريات": "لذلك كان الطلب برصد فترات مختلفة من واقع الصراع اللقاء الفرنسي الجزائري؛ لأنّ هناك صراعاً في مناطق ولقاء في مناطق، وهو واقع لا يمكن إنكاره على اعتبار وجود علاقات قوية وشركات فرنسية لها تواجد كبير في الجزائر، حتى إنّ معظم الأفلام الجزائرية تحصل على دعم فرنسي لصناعتها".

يضيف الكيلاني: "السينما يجب أن تفتح ملف متحف الإنسان، الذي يضمّ جماجم الثوار الفرنسيين، من ثم شنقهم، ويضمّ قوائم بمن تم شنقهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي".

يلفت الكيلاني إلى أنّ الجميع يرى جرائم فترة الاستعمار، بمن فيها الفرانكوفيون، الراغبون في توطيد العلاقات مع فرنسا: "لا يستطيع أن يخالف النظرة الجمعية للاستعمار، وجزء من هؤلاء مجموعة الحركيين ممن تعاونوا مع فرنسا، جزء منهم سافر مع القوات الفرنسية العائدة إلى فرنسا، وجزء تمّ اغتياله، وجزء ما يزال موجوداً متخفياً في الجزائر، وبشكل واضح يجب الحديث عنهم". 

جريمة إنسانية

الروائي والإعلامي الجزائري عبد الرازق بوكبة أكّد أنّ ما اقترفته مؤسسة الاحتلال الفرنسي في حقّ الفضاء الجزائري، إنساناً ومكاناً وثقافةً وهويةً، يرقى بامتياز إلى مقام الجريمة الإنسانية: "يترتب عن الاعتراف به من طرف ورثة الاحتلال، ليس تعويضاً مادياً فقط، قد يرهق الخزينة الفرنسية؛ بل أيضاً تشويه الصورة الحضارية لفرنسا التي تقدّم نفسها بصفتها عرّابة حقوق الإنسان ومهد الآداب والفلسفة والفكر والجماليات في أوروبا".

بوكبة: لا يخفى على خبير دور السينما في التعرية والتأثير

يرى بوكبة، في تصريح لـ "حفريات"؛ أنّ الحكومات الفرنسية المتعاقبة، يساريةً كانت أم يمينية، منذ خروجها من الجزائر، عام 1962، بذلت جهوداً كبيرةً ومدروسةً ومموّلةً لطمس تاريخها في الجزائر، على مدار 132 عاماً: "تقف في وجه كلّ مشروع علمي أو حقوقي أو إعلامي أو فني يسعى إلى كشف الحقيقة بالاشتغال على بعض تفاصيلها".

يوضح بوكبة: "لا يخفى على خبير دور السينما في التعرية والتأثير؛ إذ لاقت كلّ الأفلام التي اشتغلت على الذاكرة الاستعمارية في الجزائر عراقيلَ وتشويهاتٍ وتسفيهاً، للحدّ من تأثيرها".

ولم يقتصر مسعى عرقلة "السينما المنصفة" على الفرنسيين فقط؛ في نظر بوكبة، بل "شمل أيضا الموالين لفرنسا في الداخل الجزائري، وإلا كيف نفسر قلة الأفلام الثورية على مدار ستين عاماً من الاستقلال الوطني؛ أو كيف نفسر أنّ أفلاماً مفصلية لم ترَ النور، مثل فيلم الأمير عبد القادر مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة، وقائد أول وأكبر مقاومة ضدّ الاحتلال؟".

مواضيع ذات صلة:

المشروع المصري "سينما الشعب"... نحو تشكيل وعي مجتمعي يجابه التطرف‎

بمشاركة 35 دولة.. مهرجان الأقصر للسينما يتناول قضايا المرأة والهجرة

هل تتحول السعودية إلى مركز للثقافة والسينما في المنطقة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية