آفاق المشهد السياسي في الغابون بعد الانقلاب العسكري

آفاق المشهد السياسي في الغابون بعد الانقلاب العسكري

آفاق المشهد السياسي في الغابون بعد الانقلاب العسكري


09/09/2023

أُعلِن في 30 أغسطس 2023 عن سقوط نظام علي بونغو في انقلاب عسكري قد يؤدي إلى إنهاء حكم سلالة بونغو التي تحكم الغابون منذ سنة 1967. ومع أن هذا الانقلاب يندرج في سلسلة الانقلابات العسكرية التي عرفتها أفريقيا في السنتين الأخيرتين، إلا أنه يتسم بعدة مميزات تحاول الورقة مناقشتها، وتحليل سياقات الانقلاب الداخلية والإقليمية، والرهانات الدولية حوله، وآفاق المشهد السياسي الغابوني.

السياق الداخلي

تُشكِّل دولة الغابون حالة خاصة في إقليم وسط أفريقيا الذي تنتمي إليه، باعتبار مساحتها الجغرافية التي لا تتجاوز 267667 كم، وعدد سكانها الذي يقل عن 3 ملايين فرد. وتُعدّ الغابون من أغنى الدول الأفريقية بالموارد النفطية (تُنتِج أكثر من 200 ألف برميل يومياً، بما يجعل منها رابع منتج أفريقي للنفط) والمعادن من كل نوع (المنتج العالمي الثالث للمنغنزيوم بالإضافة إلى الحديد واليورانيوم)، فضلاً عن الموارد المائية والزراعية والخشب والثروة الحيوانية.

وشهدت الغابون فترة استقرار سياسي طويلة، حيث لم يحكمها منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960 سوى ثلاثة رؤساء: ليون مبا (من 1961 إلى 1967)، وعمر بونغو (من 1967 إلى 2009)، وعلي بونغو (من 2009 إلى 2023). وبالتالي، فإن دولة الغابون من الاستثناءات القليلة في الساحة الأفريقية، إذ لم تعرف الأحكام العسكرية منذ استقلالها، وقد حكمها عمر بونغو طيلة 42 سنة، وورثه نجله في السلطة إلى أن أطاح به الانقلاب الأخير.

ومع أن البلاد تحولت إلى نظام التعددية السياسية سنة 1991،  إلا أن "الحزب الديمقراطي الغابوني" تحوَّل من حزب وحيد إلى حزب مهيمن يسيطر على الحياة السياسية، وعلى المجالس المنتخبة. وظهرت أول تصدعات في النظام الحاكم مع وفاة عمر بونغو الذي خلَّف قرابة 60 وريثاً تنازعوا مواقع السلطة، وإن نجح جناح ابنه الأكبر (علي) في الاستئثار بالحكم. وبرزت هذه التصدعات خلال الانتخابات الثلاث التي عرفتها البلاد منذ رحيل عمر بونغو. في سنة 2009 نجح علي بونغو في الانتخابات بـ 41% من الأصوات، وتلت تلك الاستحقاقات موجة عاتية من الانتفاضة المدنية تركزت في مدينة بورت جانتيل، وقيل إن أخت الرئيس باسكلين بونغو، مديرة الديوان الرئاسي ووزيرة الخارجية السابقة في عهد والدها، كانت ضالعة فيها. وفي انتخابات 2016 أُعلن نجاح الرئيس علي بونغو في مواجهة السياسي المُعارِض جان بينغ، الذي رفض نتائج الاقتراع الذي اعتبر جل المراقبين أنه كان مزوراً، وعكست هذه الانتخابات، حسب صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، حدة التناقضات العائلية بين أسرة بونغو الحاكمة.

وفي الانتخابات الأخيرة المنظمة في أغسطس 2023 بغياب كامل للمراقبين الدوليين،ظهرت التناقضات الأسرية، إلى حد أن صحيفة "جون أفريك" واسعة الاطلاع اعتبرت أن الانقلاب الذي قاده رئيس الحرس الجمهوري، الجنرال بريس أوليغي نغيما، يندرج في إطار الصراع العائلي، بالنظر إلى قرابة الحاكم العسكري الجديد لأسرة بونغو (من جهة الأم) مع بروز مؤشرات على دعم باسكلين بونغو وبعض إخوتها للانقلاب في مقابل الجناح الذي تقوده زوجة الرئيس علي بونغو الفرنسية سيليفيا بونغو، ونجله الذي اعتُقِل نور الدين بونغو.

ويُعتقَد، على عكس الانقلابات التي حدثت في منطقة الساحل الأفريقي، كان الانقلاب في الغابون مدبَّراً من بعض أجنحة العائلة الحاكمة لقطع الطريق أمام فوز مرشح المعارضة التي أجمعت على دعم "البرت اوندو أوسا" الذي يبدو أنه نجح في الاقتراع الأخير رغم أنه لم يحصل رسمياً إلا على 30.77% من الأصوات الانتخابية. وأوسا أستاذ جامعي معروف ونقابي نشط ووزير سابق، ترى الأوساط الدبلوماسية أنه فاز في الانتخابات الأخيرة، وقد اعتبر في مقابلة له مع صحيفة "لوموند" أن الانقلاب ليس سوى "ثورة من داخل القصر" لمنع استلامه السلطة رغم أن فوزه حقيقة لا مراء فيها. ويبدو فعلاً أن الانقلاب العسكري في الغابون كان دافعه الأساسي قطع الطريق أمام انتقال السلطة خارج عائلة بونغو ومرتفعات أوغويه، وهي الإقليم الذي تنحدر منه العائلة وأنصارها.

المواقف الدولية

شكَّلت دولة الغابون سابقاً محور السياسة الفرنسية الأفريقية، وكان الرئيس عمر بونغو طيلة أربعين سنة رجل فرنسا الأساسي في القارة. والشركات الفرنسية تسيطر كلياً على القطاع النفطي والمعدني في الغابون، كما أن عملة الفرنك الإفريقي (المرتبطة بالخزينة الفرنسية) هي الوحدة النقدية المستخدمة في الغابون، وفي بلدان وسط أفريقيا الفرنكفونية.

وفق التقديرات المتوفرة تمارس 110 شركة فرنسية أنشطة استثمارية وتجارية في الغابون، بينها 89 شركة من الشركات العملاقة الفرنسية التي لها فروع محلية في الغابون. من بين هذه الشركات: الشركة المعدنيةEramnet  التي تسيطر على 90% من مناجم المنغنزيوم، والشركات النفطية perenco  وTotal energie  وMorel et prom ، بالإضافة إلى الصندوق الاستثماري Meridiam ، وشركةorano  التي تستغل مناجم اليورانيوم. وحسب التقديرات المعلنة، توظف الشركات الفرنسية 14 ألف عامل، ويصل ميزانها التجاري السنوي إلى 3.5 مليار يورو. 

وهذا يعطي فكرة عن حجم المصالح الفرنسية في هذه الدولة الأفريقية الغنية التي توجد فيها قاعدة عسكرية فرنسية يصل عددها إلى 350 جندياً، ويتجاوز اهتمامها الغابون ليمتد إلى غرب أفريقيا ووسطها. ووفق المعلومات المتداولة، لا تنظر المصالح الاستراتيجية الفرنسية باطمئنان الى الرئيس المخلوع علي بونغو الذي ترى أنه ضعيف وفاسد مالياً برغم أنها دعمته في انتخابات 2009 قبل أن تتخلى عنه سنة 2016 وتبحث عن بديل له بعد تعرُّضه لأزمة صحية خطيرة عام 2018 اقتضت إقامته الطويلة في الخارج للعلاج. ولعل الرئيس بونغو قبل سنوات شعر بتقلص الدعم الفرنسي لحكمه، فتقدم بترشيح بلاده لدخول الكومنولث الذي حصل فعلاً في يونيو 2022، وهو ما نُظِر إليه سلباً في الدوائر العليا الفرنسية.

ومع أن الحكومة الفرنسية بادرت إلى إدانة الانقلاب العسكري في الغابون، وهو موقف مبدئي تلقائي، إلا أنها لم تشفع إدانتها بتنفيذ قرارات المقاطعة أو العقوبات العسكرية والاقتصادية المقررة، بل إنها اعترفت ضمنياً بشرعيته (أي الانقلاب)، باعتبار أن العملية الانتخابية التي أوقفها الانقلاب كانت مزيفة. وفي مقابلة مع صحيفة "لوموند" قالت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إن المسار الانتخابي في الغابون "طرح بعض الأسئلة"، وأن مهمة فرنسا البحث عن الحلول السياسية وليس الوصاية على الدول الأفريقية، مع فسح المجال لتدخل المنظمات الإقليمية.

وحسب المعلومات التي ذكرتها إذاعة Europe1، فقد صدرت تعليمات من الحكومة الفرنسية للقوات العسكرية في الغابون بالتعامل الإيجابي مع السلطات العسكرية الحاكمة، والحرص على ألَّا تكون فرنسا جزءاً من المشكل الداخلي الغابوني. بل إن هناك معلومات تداولتها أوساط دبلوماسية أفريقية تؤكد أن فرنسا أخذت علماً بالانقلاب قبل وقوعه، وربما شجعته عملياً. وقد صرَّح مرشح المعارضة أوسا أنه أخبر وزارة الخارجية الفرنسية بتوقعه حدوث انقلاب من داخل القصر وفق المعطيات التي حصل عليها ، لكن يبدو أنها واكبت التغيير وباركته. وبعد الانقلاب، أظهر الرئيس العسكري الجديد حرصه على استمرار العلاقات الخاصة بفرنسا وفق ما تداولته الصحافة الغابونية بعد لقاء الجنرال نغيما مع السفير الفرنسي في ليبرفيل. ومن ثمَّ، فقد تساءلت صحيفة "غابون ريفيو" ما إذا مثَّل ذلك رجوعاً مُظفَّراً لفرنسا إلى الغابون؟

الدولة الثانية من حيث الاهتمام الاستراتيجي بالغابون هي الصين، الشريك التجاري الأول للغابون. ففي سنة 2022 وصل حجم التجارة البينية بين البلدين 4.55 مليار دولار، أي بزيادة 50.8% على السنة التي سبقتها. وخلال زيارة الرئيس الغابوني المخلوع علي بونغو للصين في أبريل 2023 تقرر رفع العلاقات بين الدولتين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الكاملة. بعد التغيير، اكتفت وزارة الخارجية الصينية بالمطالبة بالرجوع السريع إلى الوضع الدستوري الطبيعي، وإلى ضمان الأمن الشخصي للرئيس السابق، بما يتناسب مع السياسة الخارجية للصين التي لا تتدخل عادةً في الشؤون السياسية الداخلية للدول وتحرص على استمرارية مصالحها الاقتصادية المحضة.

أما روسيا التي استفادت من تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، فقد عبَّرت عن اهتمامها البالغ بما يجري في الغابون ومتابعتها الدقيقة للأحداث في هذا البلد، ولكن دون أن تُبدي أي موقف سياسي صريح من التغيير. ومن الجلي أن الانقلاب الأخير في الغابون، على عكس ما حدث في منطقة الساحل، لن يكون في صالح الاختراق الروسي المتزايد للقارة.

السياق الإقليمي 

تنتمي الغابون إلى كتلة دول وسط أفريقيا التي تضم الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية. ومثل الغابون سابقاً، تحكم هذه الدول زعامات قديمة الحضور في مركز السلطة، وهي كلها دول نفطية وغنية تنتمي إلى "المجموعة الاقتصادية والنقدية لأفريقيا الوسطى" (تضم أيضاً تشاد وجمهورية وسط أفريقيا). يحكم الكاميرون بول بيا (90 سنة) منذ سنة 1982، ويحكم الكونغو دنيس ساسو نغيسو (80 سنة) منذ 1979 إلى 1992 ومن 1997 إلى اليوم، ويحكم غينيا الاستوائية تيودورو أبيانغ نغيما مباسوغو (81 سنة) منذ 1979. 

في هذه البلدان، يُرجَّح أن تحدث تغييرات داخلية عن طريق المؤسسة العسكرية. وحسب بعض التوقعات، قد تلجأ فرنسا إلى ترتيب انقلابات استباقية في الكونغو والكاميرون منعاً لحركة تمرُّد خارج تحكُّمها كما حدث في منطقة الساحل الأفريقي، أما تأثيرها في غينيا الاستوائية فلا يبدو حاسماً.

ولئن كان مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي قد بادر إلى التنديد بالانقلاب الغابوني وتعليق عضوية الغابون في كل هيئات الاتحاد، إلا أن هذا الموقف المبدئي لا يتعارض مع إمكانات الحوار السياسي مع قادة البلاد الجدد وفق آليات التسيير الانتقالي للأزمات السياسية الأفريقية. كما أن المجموعة الاقتصادية لأفريقيا الوسطى نددت بالانقلاب وعلقت عضوية الغابون، لكنها عيَّنت رئيس جمهورية وسط أفريقيا فوستين تواديرا وسيطاً في الأزمة الغابونية، وقد التقى فعلاً بالرئيس المعزول، لكن قمة ملابو التي حضرها قادة المجموعة يوم 5 سبتمبر منحت السلطات العسكرية الغابونية مهلة سنة للرجوع الى الوضع الدستوري العادي، وهو ما يُعدّ تخلياً علنياً عن عودة علي بونغو للسلطة ومباركة ضمنية للانقلاب.

وهكذا يظهر أن الأطراف الإقليمية الأفريقية الرئيسة تفهمت الانقلاب وواكبته، وإن كانت الدول الثلاث المحورية في منطقة وسط أفريقيا (الكونغو وغينيا الاستوائية والكاميرون ) تستشعر خطر السيناريو الغابوني، نتيجة تشابُه الأوضاع السياسية للبلدان الثلاثة مع الغابون.

آفاق المشهد السياسي الغابوني

لا يزال من الصعب التكهُّن بمآلات الوضع السياسي في الغابون، فكثير من المعطيات لا تزال غير معروفة، وفي مقدمتها مشروع السلطات الانقلابية التي استلمت الحكم ووعدت بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، دون أن تحدد مدة الفترة الانتقالية، ولا طبيعة الإصلاحات الدستورية التي تعتزم طرحها للاستفتاء الشعبي. وقد لا يتقدم الجنرال نغيما لانتخابات مقبلة، لكنه قد يدعم مرشحاً قريباً من أسرة بونغو أو غير مناوئ لها، وإن كان من غير المتوقع أن يكون من أفراد العائلة. وإذا كان مرشح المعارضة في الانتخابات السابقة ألبرت أوندو أوسا لا يزال يعتبر نفسه الفائز في الاقتراع، ويطالب السلطات العسكرية بتتويجه، إلا أن تكتل المعارضة الداعم له بدأ بالتفكك الفعلي حسب ما ذكرت الصحف الغابونية.

ومن هنا يمكن القول إن مستقبل المشهد السياسي في الغابون يتأرجح بين مسارين أساسيين:

الأول، نجاح المرحلة الانتقالية الحالية بتنظيم حوار سياسي داخلي يُفضي إلى دستور توافقي وانتخابات حرة وشفافة، وفق تعهدات الحكام العسكريين الجدد. هذا السيناريو يقتضي حياد السلطات العسكرية، وتحقُّق الحد المطلوب من دعم القوى الداخلية والخارجية للمسار الانتقالي، وعدم إطالة المرحلة الانتقالية، وهي شروط قابلة للتحقُّق وإن كانت غير مضمونة كلياً.

الثاني، تجذُّر الأزمة السياسية نتيجة دور أسرة بونغو ونشاطها وقاعدتها الاجتماعية العريضة، بما قد يبرز في شكل انقلاب عسكري جديد، أو ظهور نوايا سياسية لدى الحكام العسكريين الجدد الذين يُعتقد أن لهم صلة قوية ببعض أجنحة أسرة بونغو، الأمر الذي ربما يُفسِّر موافقة قادة الانقلاب العسكري على إطلاق سراح الرئيس المعزول، ومنحه تصريحاً بالسفر خارج البلاد لإجراء فحوص طبية. كما أن إطالة المرحلة الانتقالية وفق السيناريو المالي أو الغيني قد يكون من أسباب استفحال الأزمة السياسية.

ولا يزال المسار الأول هو الراجح، لكن تطوُّر الأحداث مستقبلاً قد يُغير اتجاه الاستشراف.

خلاصة

شهدت دولة الغابون انقلاباً عسكريا في 30 أغسطس 2023 إثر تنظيم انتخابات رئاسية أُعلن فيها فوز الرئيس المخلوع علي بونغو، وإن كانت كل المؤشرات تدل على أن الاقتراع كان مزوراً ونتائجه غير صحيحة. وجرى الانقلاب الأخير في ظروفٍ اتَّسمت باستفحال الصراع داخل عائلة بونغو التي حكمت الغابون منذ 1967، وفي سياقٍ شَهد تراجُعَ دعم فرنسا للحاكم المخلوع، بما يشي بأن السلطات الفرنسية واكبت الانقلاب حفاظاً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية المهمة في الغابون. ومن المرجح أن تكون للانقلاب العسكري في الغابون تأثيرات نوعية في بلدان أفريقيا الوسطى التي تُماثل أوضاعها السياسية والاقتصادية الغابون قبل التغيير الأخير.

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية