إبراهيم قالين من مترجم لأفكار أردوغان إلى صانع جديد لها

إبراهيم قالين من مترجم لأفكار أردوغان إلى صانع جديد لها

إبراهيم قالين من مترجم لأفكار أردوغان إلى صانع جديد لها


11/06/2023

يعكس انتقال هاكان فيدان من منصبه السابق كرئيس لجهاز الاستخبارات إلى وزارة الخارجية نمطا لتفكير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فصانع السياسات الخارجية الفعلي هو رئيس جهاز المخابرات. ووزير الخارجية هو مديرها التنفيذي. وهو ما يسمح بالقول إن تعيين إبراهيم قالين في منصب رئيس الاستخبارات يجعله في موقع “صانع السياسات” خلفا لمن صار وزيرا للخارجية.

يصعب القول إنهما على خلاف. ولكنهما على اختلاف، على الأقل لجهة المقاربات. فبينما يمثل فيدان الوجه الخشن، فإن قالين يمثل الوجه الناعم.

والنزعة الصدامية التي غلبت على السياسات الخارجية التركية خلال عهد الوزير المقال مولود جاويش أوغلو قد يُقيض لها الآن أن تهدأ مع مجيء فيدان إلى الوزارة، وذلك بما يشبه لعبة كراس موسيقية بين التشدد الذي يتقدم بوجه ناعم، وبين النعومة التي تتقدم بوجه خشن.

صوت أردوغان الناعم

قالين هو صوت أردوغان. كان يقول ما يختلج في نفس رئيسه حيال كل القضايا التي واجهت تركيا على امتداد الرئاستين السابقتين، ما يسمح بالقول إنه في منصبه الجديد تحول من مترجم لأفكار أردوغان إلى صانع جديد لها.

وعلى الرغم من أنه ذو طبيعة شخصية تبدو مرنة، بتأثير ميله إلى الموسيقى، لاسيما وأنه عازف غيتار منذ الصغر، إلا أنه قوي الشكيمة من ناحية الرؤى الفكرية التي تعتبر أن الإسلام السياسي هو القاعدة التي يجب أن تقف عليها تركيا، ليس في مواجهة الغرب، ولكن من أجل أن تستعيد قدرتها على النهوض كقوة دولية كبرى.

يعرف قالين أن تركيا لا تستطيع الاستغناء عن الغرب، ولا عن الولايات المتحدة كقوة قائدة له، ولكنه يرى أنها تقود ضمنا مؤامرة إضعاف وتحد متواصل لتركيا، وأن قدر تركيا هو أن تواصل هذه المواجهة من خلال الدبلوماسية.

يقول في إحدى مقالاته التي تنشر في صحيفة “الصباح” إن “الولايات المتحدة تخاطر بفقدان تركيا بالمجمل. والجمهور التركي بكامله ضد سياسات الولايات المتحدة التي تتجاهل مطالب تركيا الأمنية المشروعة. ولن تنجح التهديدات والعقوبات والبلطجة ضد تركيا، هي فقط ستزيد من عزيمة أنقرة. وهذا من شأنه أن يزيد من عزلة الولايات المتحدة في الساحة الدولية”.

والمخاطر التي يتحدث عنها قالين من نوعين ظاهرين: الأول، هو حزب العمال الكردستاني. ولكن ليس هذا الحزب وحده، وإنما كل ما تزعم تركيا أنه يشكل امتدادا له، أي الأكراد بوجه عام، سواء في سوريا أو تركيا أو حتى العراق.

وأما الثاني، فهو تنظيم فتح الله غولن الذي تعتبره “الأردوغانية السياسية” المهيمنة على حزب العدالة والتنمية تهديدا مباشرا لها، ورأس حربة لأعمال الانقلابات العسكرية التي ما تزال خطرا محتملا.

يقول قالين إن “التحالف الشيطاني بين واشنطن وهذه المنظمة الإرهابية (وحدات حماية الشعب الكردية، التي أصبحت في ما بعد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”)، والذي تعهدت إدارة أوباما في حينها بأن يكون ‘مؤقتاً وانتقالياً وتكتيكياً’ تم تبنيه من قبل إدارة ترامب”.

ويضيف “وفي حين أنه من الصحيح أن الإدارة الحالية أبعدت نفسها تدريجياً عن إستراتيجية القيادة المركزية للجيش الأميركي (سنتكوم)، وكجزء من هذا الجهد وافقت على خريطة طريق لانسحاب ‘قسد’ من منبج طال انتظاره، فإن عدم وجود تغيير محدد في السياسة المتبعة يطارد العلاقات بيننا. إنه من المبرر لتركيا أن تتوقع من الولايات المتحدة أن تفك ارتباطها بمسلحي ‘قسد’ الذين يتفاوضون حالياً مع نظام الأسد، بدون تأخير”.

يعرف قالين أن تركيا متهمة بدعم تنظيم داعش سرا. ولكنه بموقعه الجديد كرئيس لجهاز الاستخبارات، يحتاج هو نفسه إلى أن ينأى عن الرهان على تنظيمات الإرهاب التي تزعم تركيا أنها “معتدلة”، رغم أنها ليست كذلك على أرض الواقع.

الصلات الفكرية التي تجمع هذه التنظيمات بحزب العدالة والتنمية قد تجعل من الصعب على تركيا التخلي عنها، ولكن ليست هذه الصلات هي الشيء الأهم، وإنما مصالح تركيا ونفوذها في سوريا. وطالما أن أنقرة تريد أن تكون شريكا على الأقل في تقرير مصير سوريا، فإنها لن تتخلى عن دعم التنظيمات الإسلامية “المعتدلة”.

يقول قالين إن “على الغرب أن يأخذ بالحسبان أن التدمير المخطط له للمعارضة المعتدلة، بالتوازي مع المقاتلين الإرهابيين، سوف يدفع المجموعات المحلية نحو المزيد من التشدد في النهاية. نعلم جميعاً إلى أين يقودنا هذا الطريق، تماماً كما فعلت جهود واشنطن المفتقرة إلى الرؤية الحصيفة خلال قضائها على القاعدة التي عبدت الطريق لصعود داعش ومجموعات راديكالية أخرى في سوريا والعراق، وأيضاً يمكن لخطوات خاطئة اليوم أن تلهم الجيل القادم من الإرهابيين. وبصورة خاصة، من المهم ملاحظة أن الجماعات الراديكالية سوف تركز بشكل أكبر على نشر التطرف عبر الإنترنت وهجمات الذئاب المنفردة”.

يستخدم قالين الفزّاعة نفسها التي تستخدمها قطر في دعم تنظيمات الإسلام السياسي. وهي تقول إنه لا يوجد في الدنيا إلا أحد طريقين: إما أن تدعموا هذه التنظيمات لكي تبقى معتدلة، وإما أن ينتشر الإرهاب. وكأن الثقافة في العالم العربي والإسلامي خلت من كل الخيارات السياسية والفكرية الأخرى، فلم يبق إلا المفاضلة بين السيء والأسوأ منه.

وقالين، على غرار أردوغان، ليس ممن ينحني للضغوط، كلاميا على الأقل. ويقول في هذا الصدد “إن استخدام التهديدات ضد تركيا لن ينجح، بل سيؤدي فقط إلى الإضرار بالعلاقات، ويمكن لإدارة ترامب أن تتخذ خطوات إدارية ضد كل من الشراكة بين أميركا و’قسد’، وشبكة غولن في الولايات المتحدة، وهذان قضيتان قانونيتان ليستا معقدتين. وفي واقع الأمر، لم تطلب تركيا إطلاقاً أي شيء خارج الإطار القانوني المشروع”.

الشرخ بين تركيا والولايات المتحدة من غير المتوقع له أن يتغير، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة نفسها تريد أن يكون لها نفوذها الخاص على تقرير مستقبل سوريا. و”قسد” هي أداتها الرئيسية في ذلك. من ناحية لمواجهة تنظيم “داعش” الذي لم تحاربه تركيا حتى أسقط الأكراد دولته بدعم الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى لكي يبقى لها دور في صنع التغيير المأمول في دمشق.

يقول قالين إن هناك “أزمة ثقة خطيرة لدى المسؤولين الأتراك والشعب على حد سواء. وعلى الرغم من انضمام تركيا إلى التحالف الدولي لمحاربة ‘داعش’، وتمكينها لهذا التحالف من استهداف إرهابيي التنظيم انطلاقاً من قاعدة إنجيرليك الجوية، لم تبد الولايات المتحدة الرغبة في التعاون مع الجيش التركي في معركة تحرير الرقة. وبدلاً من ذلك، قامت بالتحالف مع إرهابيي ‘وحدات حماية الشعب’ (قسد تاليا)، والتي تصرح وكالة الاستخبارات المركزية علناً بأنها تمثل الفرع السوري لمنظمة (ب.ك.ك) الإرهابية”.

وحيث تنظر تركيا إلى نفسها على أنها قوة موازية للولايات المتحدة، فإن قالين يرى بأن “العلاقات الإستراتيجية لا يمكن أن تتأسس على مطالب أحد الطرفين، بل ينبغي أن تكون متبادلة، وأن تكون مفيدة وندية للطرفين. ليس هناك أي حليف يقبل من حليفه تصرفات تؤذي مصالحه القومية. تركيا لم تعمل أي جماعات يمكن أن تؤذي المصالح الأميركية أو تؤويها، وهي تنتظر من الولايات المتحدة أن تفعل الشيء نفسه”.

تجسد هذه الأفكار صوت أردوغان نفسه. ولكن توليه منصب رئيس جهاز الاستخبارات يعني من الناحية العملية التحرك على أسسها كما كان يفعل سلفه فيدان، ولكن باختلاف بسيط يستهدف الإقناع، والأخذ بخيارات الحوار والدبلوماسية، وليس بالضرورة الأخذ بمنهج تصادمي تمت تجربته، على أي حال، ولم يحقق شيئا.

أصول وأدوار

يرجع أصل عائلة قالين إلى محافظة أرضروم ولكنه ولد في إسطنبول عام 1971. وفي عام 1992 أكمل دراسته في قسم التاريخ بجامعة إسطنبول وذهب إلى ماليزيا لإكمال دراسته العليا ونال شهادة الماجستير، وفي عام 1996 ذهب إلى واشنطن لدراسة الدكتوراه في جامعة جورج واشنطن، ونالها من هذه الجامعة في حقل “علم الإنسان”. وقام بتدريس الفكر الإسلامي والعلاقات بين الإسلام والغرب في كلية الصليب المقدس وجامعة جورج تاون وجامعة بيلكنت.

وفي الفترة من 2005 – 2009 ترأس مؤسسة الاقتصاد السياسي وأبحاث المجتمع. ونشر كتابا عام 2007 بعنوان “الإسلام والغرب” وحاز هذا العمل على جائزة اتحاد كتاب وأدباء تركيا. وهو متزوج ولديه ثلاثة أولاد.

ويجيد قالين العزف والغناء، ولديه عدة مقطوعات موسيقية غنائية تقليدية يظهر بها احترافه العزف على آلة الساز التركية التقليدية.

خلال فترة دراسته للدكتوراه أعد قالين دراسات أكاديمية في الفلسفة والفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، وترجم إلى التركيّة كتاب “فكرة الوجود في الإسلام” للباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو وكتاب “رسائل مرسيدين” لمولاي العربي الكافي ومقال خليل إينالجيك بعنوان “إسطنبول: مدينة الإسلام”.

كما شغل قالين منصب الرئيس المؤسس لمؤسسة السياسة والاقتصاد والبحوث الاجتماعية (SETA) بين 2005 و2009.

وساهم قالين في العديد من الأعمال الموسوعية مثل موسوعة ماكميلان للفلسفة وموسوعة الدّين وقاموس أكسفورد للإسلام. ونُشر له كتاب “العقل والفضيلة” عام 2014 وكتاب “الوجود والفهم” عام 2015 وكتاب “أنا والآخر وما بعده: مقدمة في تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب” عام 2016.

وشغل قالين منصب المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية منذ العام 2014، وعلى إثر هذا المنصب منحه الرئيس أردوغان لقب سفير. كما شغل أيضًا منصب وكيل مجلس الأمن الرئاسي والسياسة الخارجية ومنصب كبير مستشاري الرئيس أردوغان منذ العام 2018.

وبوصفه مستشارا لأردوغان كان قالين مسؤولًا عن عدد من الملفات، أبرزها انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، إذ قاد الفريق التركي الذي تفاوض مع هذين البلدَين بشأن انضمامهما إلى الحلف مقابل الوفاء بشروط تركيا المتمثلة باتخاذ إجراءات عملية وملموسة تجاه قيادات غولن وحزب العمال الكردستاني الموجودين في هذين البلدَين، بالإضافة إلى متابعة قضية تنظيم غولن في أوروبا والولايات المتحدة.

مفاوض متمرّس في ظرف صعب

شارك قالين في معظم الفرق التي قادت التباحث حول العديد من الأزمات، ما يجعله على دراية كافية بملفاتها، إذ ساهم في قيادة المفاوضات مع روسيا لتجاوز أزمة إسقاط الطائرة الحربية الروسية عام 2015. وعينه أردوغان مبعوثا خاصا لحلّ أزمة العلاقات الخليجية مع قطر.

كما لعب دورًا فاعلًا في محادثات السلام المتعلقة بالنزاع في أوكرانيا، وملف إقليم قرة باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وكذلك في الاتفاقيات المتعلقة بنقل الحبوب عبر البحر الأسود وتبادل الأسرى.

وشارك في الفريق التركي خلال المحادثات الدبلوماسية لتحقيق هدنة والتوصل إلى حلول سياسية للصراعات في سوريا وليبيا، كما انخرط في المفاوضات مع اليونان لحلّ الخلافات في شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة. وأسهم في عمليات التطبيع بين تركيا وكل من السعودية والإمارات العربية المتحدة وأرمينيا ومصر. كما لعب دورا في تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل.

هذه المشاركات والأدوار تضفي على قالين طابع المفاوض المتمرس، وهي صفة تؤهله ليكون صانع سياسيات ذا صوت مسموع من جانب وزير الخارجية الجديد. وفي الواقع، فإنه هو وفيدان وجهان لعملة واحدة. والعملة، في أصلها، هي أردوغان نفسه.

رئاسة أردوغان الثالثة، من ناحية السياسة الخارجية، سوف تتواصل لتحقيق الغايات نفسها، ولكن عن طريق التفاوض والمساومات والسعي لبناء مقاربات تتوسط المطالب والطموحات، سواء في العلاقات مع الولايات المتحدة، أو مع دول الاتحاد الأوروبي، أو دول المنطقة الرئيسية مثل السعودية والإمارات ومصر.

مشكلة المرونة المستجدة الرئيسية هي أنها جاءت متأخرة، حتى أنها باتت مفهومة كغطاء للطموحات ذاتها. كما أنها جاءت في ظروف اقتصادية داخلية عصيبة، تستوجب تقديم تنازلات أكثر مما تستوجب تمسكا بالمواقف ذاتها. فالانهيار المتواصل لقيمة الليرة التركية، بعد كل تعيينات أردوغان الجديدة، يكشف من الأسباب أكثر بكثير مما يمكن للمرونة أن تغطيه.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية