إيران ووهم التغيير الديموغرافي في سوريا

إيران ووهم التغيير الديموغرافي في سوريا


02/03/2021

إبراهيم الجبين

قبل انفجار الأوضاع في سوريا بسنوات قليلة، انتشرت بين السوريين أصوات هامسة تتحدث عن تغلغلٍ عقاري إيراني في دمشق، بعد أن بسطت إيران نفوذها على كامل منطقة السيدة زينب في ريف العاصمة، وكذلك على فنادق شهيرة عريقة كان يشتريها أو يتعهّدها وكلاء سوريون لإيران بذريعة استقبال الحجّاج الشيعة القادمين للزيارة.

 في الواقع لم تكن تلك مجرد أقاويل، بل كانت تسريبات من رجال أعمال وتجار سوريين اشتكوا من أنهم يواجهون نوعا من الحرمان من العمل وتنفيذ المشاريع في نطاق معيّن داخل العاصمة مخصص فقط لإيران، إنه قلب المدينة الجديدة ووسطها التجاري وصولا إلى الأحياء الثرية فيها وأوتوستراد المزة الذي يقود إلى بيروت.

فُهم الأمر حينها على أنه ضمن خطة النظامين السوري والإيراني الأمنية لتأمين مناطق “خضراء” خاصة بما عرفت آنذاك “المقاومة” والتي مثلها حزب الله اللبناني. لكن يبدو أن إيران كانت عيناها مسلطتين على ما هو أبعد.

واليوم، يرى كثيرون أن تعديلات قانون التملك التي أجراها البرلمان السوري قبل أيام، كانت بمثابة مكافأة لإيران على الدور الكبير الذي قامت به لحماية نظام الرئيس بشار الأسد من السقوط خلال السنوات الماضية، والدعم العسكري والمالي الذي قدّمته طهران عبر ميليشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية العاملة على الأراضي السورية كجيش بديل عن الجيش السوري المتفكك والذي أنهكته المواجهات على جبهات عديدة.

فقد أقرّ مجلس الشعب مشروع تعديل بعض مواد القانون رقم 11 للعام 2011 المتعلق بتملك غير السوريين للعقارات في أراضي الجمهورية العربية السورية. وتمكّن التعديلات من “إنشاء أو تعديل أو نقل أي حق عيني عقاري في الأراضي السورية لاسم أو لمنفعة شخص غير سوري طبيعيا كان أم اعتباريا وشروط الإفراز الطابقي للعقار في حال قابليته للإفراز وتملك البعثات الدبلوماسية والقنصلية والمنظمات العربية والإقليمية والدولية والمراكز الثقافية لمقرات لها أو لسكن رؤسائها أو أعضائها”.

تتوّج تعديلات هذا القانون سلسلة من الإجراءات التي اتخذها النظام تتيح التصرف بأملاك الغائبين وغير القادرين على التصرّف بأملاكهم، لأسباب مختلفة، وغالبية هؤلاء التي تشكل ملايين السوريين، إما من اللاجئين وإما من المعتقلين أو المفقودين.

وتبدو مثل تلك الإجراءات، لعينٍ هادئة القراءة، استكمالا لنهج اتبعته إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، الغرض منه التقدّم خطوات إلى المستقبل، في حال تغيّرت الظروف وزالت الأنظمة الحالية، عندها سيكون للإيرانيين سندات قانونية تثبت حقهم في التواجد على الأرض. لكن الإيرانيين وهم يصدرون مثل تلك الإيعازات، لحلفائهم في العواصم العربية لسن القوانين والتشريعات التي تخدم مصالحهم، يغفلون أن هذا لا يمكن له أن يطمس الكيفية التي قدموا بها إلى المنطقة العربية، والتي كانت عبر الميليشيات الطائفية والممارسات الإرهابية، وهذا يجعل كل ما سوف يليه مجرّد حبر على ورق.

مشروع التغيير الديموغرافي الجاري في المشرق، ومثاله الساطع اليوم في ديالى ونينوى وكركوك، التي تشكّل مثلها مثل داريا وبقية مدن ريف دمشق، حزامَ العاصمة بغداد، بعد التهجير الكبير الذي تعرّض له السكان هناك، لا يبدو أنه سيهدأ ما لم تقطع أذرع إيران في المنطقة. فحين يجري الحديث عن تهجير قرابة أربعة آلاف أسرة عراقية من المنصورين وحمرين فقط، مع نسب مهجّرين مرتفعة من مناطق بعينها، في البلدين، فهذا يؤشر دون تردّد أن نهج إيراني مثابر ودقيق.

ويضاف إلى ما يتم تسريبه من لبنان حيث تشير الدراسات إلى الأراضي التي يملكها مسيحيون في لبنان، كانت نسبتها طيلة الوقت وحسب وثائق بكركي 82 في المئة، أما اليوم فالمسيحيون بمختلف طوائفهم يملكون ما لا يزيد عن 39 في المئة من مساحة الأراضي اللبنانية، وقد تسارع انهيار ملكياتهم خلال السنوات التي تغلغلت فيها إيران في نسيج المجتمع اللبناني من بوابة مقاومة إسرائيل وعبر ممثلها الشرعي حسن نصرالله.

وفي اليمن استولى الحوثيون على مساحات شاسعة من الأراضي لتشكيل حزام أمني حول صنعاء وفي مدينة إب، وكانت الكثير من المكافآت التي قدموها لمقاتليهم على شكل أراض وعقارات ومجمعات سكنية.

لكن ما الذي تريده إيران، من خلال نسج سجادة الهيمنة الفارسية هذه مرة ببطء ومرة بتتابع؟ التغيير الديموغرافي الذي تتخيّل إيران، ومعها وكلاؤها في المنطقة، أنه يمكن أن تنجح في تحقيقه، يكاد يكون مستحيلا. ويحتاج إحداث أثر طفيف له لعقود من الزمن، مثله مثل الثورة الإيرانية ذاتها. فهل نجحت إيران بالفعل في تحقيق التغيير الديموغرافي في إيران ذاتها لكي تنجح في تحقيقه خارج حدودها؟

 إن استبدال الدول والحكومات بالميليشيات، وبَعثرة السيادة وفق المذهبية والطائفية، وإثارة الأحقاد العرقية، وتفتت الكيانات الاجتماعية، وغير ذلك، لن يصنع إمبراطورية إيرانية مترامية الأطراف في هذا العصر.

تشكل إيران وكل من يتبعها نسبة ضئيلة في الكتلة السكانية للشرق الأوسط، وستبقى مهما هجّرت وأحلّت مستوطنيها، حالة أقلوية عنصرية فارسية تحكم غالبية عربية. وهي تطلق صراع هويّة عربية من جديد سيتوسّع أكثر وأكثر.

لم تُحدِّث إيران وسائلها في تنفيذ مشروع الهيمنة. ولا تزال تستعمل الذهنية البدائية للسيطرة، كما هو حال الفكر الثأري المتأخر الذي يهيمن على قادتها والذي لن يقود إلى حالة استقرار عادة ما يحتاجها كل مشروع هيمنة مهما كانت هويته.

كما لم تقرأ إيران الدرس الإسرائيلي جيّدا، ولم تراجع وثائق الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز، الذي كتب عن مستقبل المنطقة، منطلقا من مكابدة واجهت المنتصرين الإسرائيليين أنفسهم بعد نجاحهم في احتلال الأرض، حين كتب يصف حال أمّة غزت أمّة أخرى، فباتت تعيش حالة طوارئ مديدة وتعاني من مشكلات كبرى مع السكان الذين تحتل أراضيهم.

ومن يراقب مسار التطبيع الجاري حاليا في المنطقة العربية، يركّز نظره فقط على الطرف العربي ولا ينتبه إلى الطرف الإسرائيلي الذي يختار السلام لا الحرب الدائمة المدمّرة التي لم يعد يقوى عليها.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية