"الرأسمالية في أمريكا" أو الجمهورية التجارية .. من سيهيمن في القرون القادمة؟

"الرأسمالية في أمريكا" أو الجمهورية التجارية .. من سيهيمن في القرون القادمة؟


06/01/2019

سؤالان انهمك بهما باحثون ومعلقون كتبوا عن الكتاب الصادر حديثاً "الرأسمالية في أميركا: تاريخ" الذي وضعه آلان غرينسبان وأدريان وولدريج. وكان السؤال الأول هو "هل يعزز اقتصاد اليوم الدينامية اللازمة لإنشاء أبطال رأسماليين جدد"؟، أما الثاني فهو "من الذي سيهيمن على العالم في القرون القادمة"؟

اقرأ أيضاً: إنذار اقتصادي جادّ: مستقبلنا غير آمن!

لكن مثل هذين السؤالين يصطدمان بحقائق جديدة؛ فالمدافعون عن الحرية الاقتصادية يخسرون عقول جيل الألفية الثالثة من الأمريكيين، فقد أظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة YouGov أنّ نسبة تأييد من تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عاماً لرؤية مواتية للرأسمالية انخفضت إلى 30٪ في عام 2018 من 39٪ في عام 2015. وتجد القيم الاشتراكية حضورها بشكل جيد بين الشباب، كما أظهرت ذلك ظاهرة المرشح السابق للرئاسة السيناتور الديمقراطي. هنا يكاد سؤال ثالث ينهض "هل يمكن إقناع الأمريكيين في المستقبل بتفوق الأسواق الحرة وكيف"؟

طفرات سوق الأصول المالية في ربع القرن بين عامي 1982 و 2007 صرفت انتباه أمريكا عن الاتجاهات المشؤومة

هذا ما يخوض فيه الكتاب الجديد "الرأسمالية في أمريكا" وهو من تأليف شخصية بارزة في صنع السياسة الاقتصادية الحديثة، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق آلان غرينسبان، بمشاركة الخبير الاقتصادي أدريان وولدريدج. الكتاب يبدو شاملاً في موضوعه ويأخذنا في رحلة من الآباء المؤسسين لأمريكا إلى انتخاب دونالد ترامب. إنّ عملهم هو نظرة عامة سهلة على تاريخ الأعمال الأمريكي، لكنه يقدم أيضاً مراجعةً لحال الرأسمالية.

يبدأ الكتاب بتجربة فكرية تبدو افتراضية خيالية: تخيّل أنّ نسخةً من المنتدى الاقتصادي العالمي عقدت في دافوس في 1620 والنقاش يركز على السؤال: "من الذي سيهيمن على العالم في القرون القادمة"؟

العديد من الدول، حينها، كانت مرشحة: كانت الصين وحتى الآن أكبر اقتصاد في العالم، فيما بدا العثمانيون على وشك الانهيار عند جدران فيينا، فيما راح الهولنديون والإنجليز يحكمون المحيطات، وفرنسا، وهي أكبر اقتصاد في أوروبا، خرجت بالكاد من حروب الدين الفوضوية. على النقيض من ذلك، كانت أمريكا الشمالية ستبدو، على الأقل، في دافوس في 1620، مثل "مساحة فارغة على الخريطة". لم يكن لديها أي آفاق. ومع ذلك، ستصبح الولايات المتحدة في نهاية المطاف "أكبر اقتصاد في العالم"، لا يزال "يهيمن على الصناعات التي تخترع المستقبل".

غلاف كتاب: "الرأسمالية في أميركا: تاريخ"

قيام الأسطورة الأمريكية

وكذا ساعدت الجغرافيا والموارد الطبيعية في تفسير نجاح أمريكا. في عام 1800، عاش الأمريكيون على حافة قارة هائلة، لكن ثروة تلك القارة لم يكن من الممكن الوصول إليها. الرأسمالية ساعدت في سد الفجوة. ليبدأ رجال الأعمال المعروفون في مجال القنوات والسكك الحديدية عملاً ضخماً أضافوا بموجبه "أكثر من ثلاثة عشر ميلاً من خطوط النقل كل يوم لمدة أربعين عاماً اعتباراً من عام 1870 فصاعداً". وهذا كان من شأنه أن يبهر فرانسيس غالتون ورجال الأعمال في الأرض الزراعية، بما في ذلك إيلي ويتني، سيروس ماكورميك وجون ديري، الذين تعهدوا بأنّ الفوائض الزراعية المتزايدة باستمرار سوف تملأ عربات السكك الحديدية والسفن عبر القنوات المائية.

الخوف الأكبر هو أنّ ثورة تكنولوجيا المعلومات تهدد أيضاً بإزالة الوظائف المنخفضة المهارة في قطاع الخدمات

فضلاً عن ذلك، يحتفل المؤلفان برأس المال البشري البراغماتي في أمريكا (أولئك الذين بنوا تقنيات جديدة فوق أطلال التقنيات القديمة)، مثل صمويل مورس وتوماس ألفا أديسون وهنري فورد. وهي التقنيات التي ابتكرها عباقرة التنظيم الاقتصادي مثل؛ جي بي مورجان، الذين قاموا بتجميع الثقة و"أنقذوا الحكومة الأمريكية مرتين من التخلف عن السداد".

ويجادل المؤلفان بأنّ "مؤسسات أمريكا السياسية ساعدت على إنجاب اقتصادنا الرأسمالي"، فالدستور الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1789 قد أنشأ "سوقاً موحَّدةً بدون تعريفات وتفاصيل داخلية" وبموجبها ساعد في إنشاء "مجتمع ديمقراطي حديث العهد يضع قيوداً صارمةً على ما يمكن أن تفعله الأغلبية".

وقد نالت روح آدم سميث انتصاراً ثانياً بعد الحرب الأهلية الأمريكية، حسبما يؤكد المؤلفان، عندما انتصرت "أمة تجارية حديثة" على "نظام العمل القسري" الذي "استند إلى أسس القسوة". لقد نجت المؤسسات الرأسمالية من "ثورة ضد سياسة عدم التدخل" ومحكمة عليا مستقلة "تصرفت كحارس يقظة لحقوق الملكية وحرية التعاقد".

أحدث الكساد العظيم 1929 نقلةً هائلةً

لاحقاً أحدث الكساد العظيم 1929 نقلةً هائلةً، لقد ورث "روزفلت" اقتصاداً سياسياً لامركزياً، إلى حد كبير، وملتزماً بالأسواق المرنة وحوّله إلى اقتصاد سياسي تهيمن عليه الحكومة الفيدرالية في واشنطن، ملتزماً بإدارة الطلب، وبرامج الرفاه الاجتماعي، والمساومة الجماعية الإجبارية". وعلى الرغم من هذه التغييرات، فإنّ أمريكا تمتعت بحقبتين سحريتين اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية.

إنّ إعادة النظر في صعود الولايات المتحدة إلى الأقوى عالمياً يوضح قوة الرأسمالية غير المقيدة، لكن الكثير من الأمريكيين سيكونون أكثر اهتماماً بآراء آلان غرينسبان في عصرنا، عندما يكون التشاؤم في ازدياد. ويزعم البعض أنّ الازدهار الاقتصادي المشترك بدأ ينهار في السبعينيات، عندما توقفت الشركات المصنعة عن توظيف أكبر عدد من الرجال الأقل تعليماً. ووفقاً لهذا الرأي، فإنّ طفرات سوق الأصول المالية (البورصة) في ربع القرن بين عامي 1982 و 2007 صرفت انتباه أمريكا عن الاتجاهات المشؤومة مثل الركود في الأجور والمسيرة المتصاعدة للعمالة الذكورية.

اقرأ أيضاً: هل يأتي يوم يحكم فيه الاشتراكيون أمريكا؟

يدفع المؤلفان غرينسبان وولدريدج بالمزيد من النظرة الإيجابية لانبعاث عهد ريغان، فيشيران إلى ثلاثة نجاحات كبيرة: "لقد كسر قوة النقابات"، "بنى على مبادرات جيرالد فورد... لتحريك الاقتصاد في اتجاه أكثر تأييدا للسوق" ووقع على قانون إصلاح الضرائب لعام 1986"، وبموجبهما فقد ساعدت هذه الإصلاحات وغيرها من الابتكارات العامة على رفع "جيل جديد من رجال الأعمال"، من بيل غيتس (شركة مايكروسوفت) إلى هوارد شولتز من (شركة ستاربكس).

دينامية أمريكا المتلاشية

لكن لأكثر من عقد من الزمان، عانى الأمريكيون الأصغر سنّاً من اقتصاد يبدو وكأنه يعيش في الماضي، مع الاهتمام بشكل أفضل بما كان عليه جيل آبائهم من جيلهم. وهذه التجربة الاقتصادية تثير الحماسة للاشتراكية بين الشباب، وهو ما تناوله المؤلفان في "دينامية أمريكا المتلاشية". وهما يؤيدان بشكل عام تفسير "رأس المال البشري" وهو العامل المشترك للضعف الاقتصادي الأمريكي: "لقد تآكل النظام التعليمي في أمريكا، وأصبحت الملامح السلبية أكثر وضوحاً" وعبر هذه الحقيقة يتساءلان: "هل من المعقول أن يتوقع الأمريكيون أن يكونوا أكثر ثراء من أقرانهم ذوي التعليم الأفضل في كوريا الجنوبية وألمانيا"؟

يشكك المؤلفان بأن ثورة تكنولوجيا المعلومات مخيبة للآمال مقارنة بالثورات السابقة

ويبدو المؤلفان متشككين من الرأي القائل بأنّ "ثورة تكنولوجيا المعلومات مخيبة للآمال مقارنة بالثورات السابقة التي تحركها التكنولوجيا"، ففي رأيهما إنها "توفر فرصة لتوسيع قطاع الخدمات إلى نوع من المكاسب الإنتاجية". صحيح، لكن الخوف الأكبر هو أنّ ثورة تكنولوجيا المعلومات تهدد أيضاً بإزالة الوظائف المنخفضة المهارة في قطاع الخدمات، كما قضت الثورات السابقة على وظائف التصنيع الأقل مهارة. إنّ هذا التحول التكنولوجي يعرّض للخطر قدراً كبيراً من الوعد بالنمو والتطور، ما لم تقدم فئة جديدة من رجال الأعمال على ابتكار طرق جديدة لتوظيف العمال الأقل مهارة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية